لهذه الأسباب يجب تجنب مضادات الاكتئاب دون إشراف طبي
لا نبالغ كثيرًا إذا اعتبرنا مرض الاكتئاب من أبرز أوبئة العصر، وأشدها فتكًا. فهو إن لم يُلقِ بالمرء إلى هاوية الانتحار، فإنه يجعل حياتَه كالممات، أو أشد وبيلًا، ويُفقِدُ الإنسانية مقادير مرعبة من الطاقة والإنتاجية، وزهرة الشباب، وعواطفه الحيَّة، وبهجته المُحلِّقَة.
ولذا، فلا عجب أن يصبح علاج الاكتئاب همًّا طبيًّا خاصًّا، ولعله كان من أبرز دوافع الطفرة الكبرى التي شهدها الطب النفسي عمومًا خلال القرن الماضي. ظهرت تباعًا مجموعاتٌ دوائية عديدة من مضادات الاكتئاب، وأظهرت نتائج جيدة في السيطرة على أعراض الاكتئاب لدى بعض المرضى، وإن عجزت في آخرين.
لكن كانت الطامة غالبًا في الآثار الجانبية العصبية والنفسية والجسمانية للكثير من تلك الأدوية، والتي كانت تدفع الكثيرين إلى عدم مواصلة العلاج، وبالتالي تدهور حالتهم وصولًا إلى المصائر الأكثر رعبًا. دفع هذا إلى البحث المحموم عن مجموعاتٍ أكثر فعالية، وأقل أضرارًا، فمريض الاكتئاب ينوء كاهله بأعراض مرضه، ولا يتحمل أن يضاف إليها أعراض جانبية للدواء، خصوصًا مع تأخر ظهور الفعالية الدوائية لأيامٍ ولأسابيع.
هنا ظهرت، على سبيل المثال، مجموعة المثبطات الانتقائية لامتصاص السيرتونين SSRIs، مثل الفلوكستين، والسيتالوبرام … إلخ، والتي أصبحت من أكثر الأدوية مبيعًا حول العالم، خصوصًا مع توسع استخداماتها في الطب النفسي لتشمل – سوى الاكتئاب – اضطرابات القلق، والوسواس القهري، وبعض اضطرابات الشهية … إلخ. وأصبح عشرات الملايين من البشر – رغم الارتفاع النسبي في أسعارها – يتعاطون أحد أفراد تلك المجموعة لشهور ولسنوات، وأحيانًا طوال العمر.
لكن حتى تلك المجموعة التي تربَّعت على عرش العلاج الدوائي للاكتئاب لأكثر من 30 عامًا، يظل لها طائفة من الآثار الجانبية المزعجة، والتي تختلف في شدتها وأنواعها حسب طبيعة كل مادة علمية وجسم كل مريض، ولحسن الحظ فإن الكثير من تلك الآثار الجانبية مؤقتة، ولا يلبث أن يتعوَّد عليها الجسم، لكن يظل بعدها لأسابيع ولشهور، وأحيانًا لسنوات.
لماذا نسلط كل هذه الأضواء على الجانب المظلم لتلك الأدوية الحيوية؟
بالطبع ليس المقصود هو زرع الشك في نفوس مرضى الاكتئاب، المتشبثين بقشةٍ من أدويتهم وأطبائهم النفسيين، إنما الهدف هو وضع الصورة كاملة أمام أعينهم، فلا يظنون تلك الأدوية من رحيق الجنة، إنما هي منتج بشري، يحتاج إلى أسابيع لكي تبدأ قيمته العلاجية في الظهور، ولا بُدَّ أن يوضع على موازين الفائدة والضرر حسب كل حالة، واحتياجاتها، وبإشراف الطبيب المختص، الذي لا يركز فقط على الجانب الكيميائي – الدوائي في علاج مريضه، إنما يرى الصورة الكاملة، ويهاجم المرض الخبيث بمختلف الأسلحة التي عزَّزتها الأدلة العلمية، كجلسات العلاج النفسي، والتأهيل المعرفي والسلوكي، ومحاولة إعادة تشكيل البيئة المحيطة بالمريض، لتكون أكثر دعمًا له، وصولًا إلى جلسات العلاج بالكهرباء للحالات المستعصية المنتقاة.
اقرأ: الصدمات الكهربية: علاجٌ طبي، أم تعذيب كما في الدراما؟
كذلك هي رسالة تنبيه إلى من يتساهلون في تعاطي مضادات الاكتئاب دون استشارة طبية متخصصة، خاصة في البلاد النامية كمصر، حيث لا رقيب على تداول مثل تلك الأدوية شديدة الخصوصية، فنجد بعض الطلبة خاصة في الكليات التنافسية، يتعاطونها في مواسم الامتحانات، وبشكلٍ غير منتظم، ويلجأ إليها آخرون لمواجهة حزن عابر، لا يأخذ بحالٍ وصف الاكتئاب المرضى … إلخ.
ما هي أبرز الآثار الجانبية لمضادات الاكتئاب؟
تكمن المشكلة في أن معظم المرضى يحتاجون للاستمرار في تعاطي تلك الأدوية لأسابيع عديدة ولشهور، أو أكثر، مما يزيد من فرص ظهور تلك الأعراض. نعيد التأكيد على التباين الواسع في نوع وشدة تلك الآثار الجانبية من مريض لآخر ولو لنفس العقار، وبالطبع بين مادة فعَّالة وأخرى. وأن بعضها مؤقت، يزول مع مرور الأيام رغم استمرار العلاج، والبعض لا يسكن إلا باستبدال العقار بآخر، بينما تأخذ بعض تلك الأعراض الشكل المزمن لشهور، سواءً استمرَّ الدواء أو أُوقِف. والآن نستعرض بعض أبرز تلك الآثار الجانبية.
الجهاز الهضمي
أشهرها الميل للقيء والشعور بالغثيان، وهي من أوائل الأعراض ظهورًا، ولا تلبث أن تهدأ حدتها في معظم المرضى خلال الأيام الأولى. هناك أيضًا جفاف الفم، والإصابة بالإمساك والانتفاخات، وعسر الهضم، أو حدوث الإسهال.
الطعام والنوم
غالبًا ما ترفع تلك الأدوية من الشهية للطعام، ولذا فهي تسبب زيادة الوزن بوضوح. كما أنها في الكثير من المرضى تسبب حدوث الأرق.
السمنة ومضاعفاتها
من أكثر الآثار الجانبية شيوعًا، خاصة مع الاستخدام طويل المدى. مما يزيد فرص تعرض المريض لمضاعفات السمنة خاصة الإصابة بارتفاع ضغط الدم، ومرض السكري من النوع الثاني.
الجهاز العصبي
تبدأ من مجرد الصداع، والشعور بالدوران، مرورًا بالشعور بالاضطراب، واهتزاز الرؤية، وقد تصل إلى مرحلة الهياج العصبي، والقلق الشديد. وبالطبع لا يلزم ظهورها جميعًا على المريض.
الاضطرابات الجنسية
تعتبر من أخطر الآثار الجانبية لتلك الأدوية، حيث إنها قد تسبب اضطرابًا كبيرًا في الحياة الشخصية للمريض، يفاقم من الضغوط النفسية عليه، ويؤثر على جودة حياته. وهي تغطي تقريبًا كافة مراحل العملية الجنسية، بدايةً من نقص الرغبة في الجنس، أو غياب الاستثارة الجنسية بالكلية، ومشاكل ضعف الانتصاب أو الفشل التام في الحصول عليه، وصولًا إلى تأخر القذف، وعدم القدرة على بلوغ ذروة الجماع orgasm.
أكبر المعضلات فيما يتعلَّق بهذا النوع من الاضطرابات هو أن المرض نفسه يسبب قدرًا بارزًا منها، فتكون جزءًا هامًّا من الضغوط على المريض، وبالتالي فهو ينتظر أن تتحسَّن تلك الأعراض كجزءٍ من تحسن حالته المرضية الكلية بالعلاج، فتكون الصدمة عندما تتفاقم تلك الاضطرابات خاصة في الأسابيع الأولى للتعاطي.
كيف أتأقلم مع الآثار الجانبية لمضادات الاكتئاب؟
كما ذكرنا سابقًا، لا مفر من حدوث آثارٍ جانبية قصيرة المدى، وطويلة المدى، خاصة مع طول فترة استخدام تلك العقاقير. ولذا يجب التركيز على كيفية التعامل مع هذا الواقع الحتمي، لتحصيل أكبر قدرٍ ممكن من الفوائد، ودفع أقصى مقدارٍ من الأضرار.
أولًا: حسن انتقاء الطبيب النفسي
لا تأخذ مثل تلك العقاقير بناءً على نصيحة أو توجيه من مجرِّب أو من تلقاء نفسك. لا بد من انتقاء طبيب نفسي مشهور بالأمانة والكفاءة، تصف له شكواك باستفاضة، وينظر إلى الحالة بوجهٍ شامل، ويتعامل معها بكافة الطرق العلاجية المتاحة، وليس التركيز على الجوانب الدوائية فحسب.
كذلك فوجود مثل هذا الطبيب الكفء سيساعد كثيرًا في التعاطي مع الآثار الجانبية للعلاج، حيث سيكون بمقدوره أن يختار الدواء الأنسب لكل مريض، طبقًا لظروفه وحاجاته الخاصة. كما ينبغي أن تختارَ الطبيب الذي يخصص وقتًا جيدًا لك لشرح التشخيص الوافي للحالة، والآثار الجانبية المحتملة للدواء، وهل تناسبك أم لا، وإلا وصف لك دواء أنسب. علاج الاكتئاب هو مقطوعة فنية رائعة، لكنها معقدة، تحتاج إلى مايسترو ماهر لإدارتها، هو الطبيب، ولا بد من الصراحة التامة معه في كل ما يخطر للمريض، لكي يستطيعَ أن يقدم له المساعدة المطلوبة.
ثانيًا: أعراض الجهاز الهضمي
أغلبها أعراض مؤقتة، لا تلبث في الغالبية العظمى من الحالات أن تزول ذاتيًّا. يمكن تسريع تلك العملية، والتخفيف منها بالالتزام بالأكل الصحي، وتجنب الوجبات الثقيلة، والحارة، وكثيفة الدهون التي قد تثير الشعور بالغثيان. وكذلك بشرب كمية وافية من المياه والسوائل الطبيعية.
ثالثًا: اضطرابات النوم
تسبب غالبية أدوية مجموعة الـ SSRIs الأرق، والذي قد يكون مؤرقًا للغاية للكثير من المرضى. حينها بالرجوع للطبيب، فقد يستبدلها بدواءٍ آخر مضاد للاكتئاب يساعد على النوم مثل الـ mirtazapine، أو قد يضيف مهدئًا مع العلاج الحالي، إذا كان القلق النفسي المصاحب يفاقم من الأرق.
رابعًا: زيادة الوزن
يمكن – إن استطعت إلى ذلك سبيلًا – أن تخفف من تفاقم هذا العَرَض، بتجنب وجبة العشاء على وجه الخصوص، والاتجاه نحو الأطعمة الأكثر إشباعًا، وفائدة صحية، وأقل في سعراتها الحرارية، مثل الخضروات، والفواكه، والأسماك، والألبان قليلة الدسم. وهناك بدائل من أدوية الاكتئاب خارج مجموعة SSRIs للحالات التي تعاني من تفاقم شديد في الوزن، مثل دواء الـ Bupropion.
اقرأ: وجبة العشاء المتأخرة .. خطر داهم يهدد صحتك.
خامسًا: الاضطرابات الجنسية
للأسف، يخجل الكثير من مرضى الاكتئاب من الحديث مع أطبائهم عن تلك الأعراض، وهذا يمثل خرقًا كبيرًا في مسار العلاج، والذي يهدف إلى تحسين حياة المريض على كافة الأصعدة. لا بد من الوصف الوافي لحجم المشكلة وطبيعتها للطبيب ليستطيع القيام بالتدخل المناسب.
إذا كانت المشكلة مثلًا منصبة على ضعف الانتصاب، فيمكن إضافة الأدوية المعالجة لذلك مثل الفياجرا. لكن إذا كانت المشكلة أكبر من ذلك، كغياب الاستثارة الجنسية، وعدم القدرة على الوصول إلى النشوة، فسيضطر الطبيب حينها إلى استبدال العقار بآخر من مجموعة SSRIs، أو اللجوء إلى البدائل الأحدث من خارجها، مثل دواء vorioxetine شديد الفعالية، والذي لا يسبب الاضطرابات الجنسية بنفس الحدة، لكنه أغلى ثمنًا.
وقبل ذلك، عند الصراحة مع الطبيب منذ البداية بأهم تلك الجوانب الجنسية للمريض، خصوصًا إذا كان في سن الشباب، فإنه منذ البداية سينتقي العقاقير الأقل تسببًا في تلك الاضطرابات مثل الفلوكستين والـ sertaraline ضمن مجموعة الـ SSRIs، أو اللجوء للـ vorioxetine إذا كان قدرات المريض المادية تسمح.
سادسًا: صدمة الواقع
عندما يبدأ الأثر الدوائي في الظهور، وتبدأ سحابة الاكتئاب السوداء في الانقشاع، قد يتعرض الكثير من المرضى إلى صدمة كبيرة، حيث يزداد وعيهم بما حولهم، واستيعابهم لجوانب سلبية في حياتهم، ومشكلات حقيقية عليهم البدء في مواجهتها. قد يسبب مثل هذا الوعي المُستعاد صدمة كبيرة للمريض، تضعه تحت ضغط كبير. لا بد من الرجوع للطبيب حينئذٍ، والحديث معه بشكلٍ مطول عن تلك المشاعر والضغوط الجديدة، لتخفيف وطأتها النفسية، وتمكين الطبيب والمعالج النفسي من مساعدة المريض على مواجهة تحديات العودة تحت الشمس.