كتاب «تشريح الوفيات المشهورة»: كتابة التاريخ عبر علم الأمراض
التاريخ علم حيوي يوسع نطاقه بشكل دائم، ويثري نفسه بفتوحات العلوم الأخرى التي تعدها علومًا تاريخية مساعدة.
في الآونة الأخيرة انضم إلى هذه العلوم المساعدة عدة علوم جديدة مفيدة للكتابة التاريخية، منها: علم الـ «Paleopathology» «الباليوباثولوجيا» أي «علم الأمراض القديمة»، وعلم الـ «Dendrochronology» أي «علم دراسة الأخشاب القديمة»، وعلم الـ «Palynology» أي «علم دراسة حبوب اللقاح».
علم الأمراض القديمة
وهنا – في هذا المقال – يهمنا «علم الأمراض القديمة»، وهو علم بيني يقع على الحدود بين الطب الشرعي والأنثروبولوجيا والتاريخ، ويختص بفحص بقايا الجثث القديمة. ومحاولة فهم الأمراض القديمة في زمنها وتوقع مسارها في المستقبل، ومن هنا أهميته كمدخل جديد لكتابة التاريخ برؤية مختلفة، والمساعدة في حل «الألغاز التاريخية» المستعصية، وتصحيح أو تحطيم سرديات تاريخية مستقرة.
فبفضل التقنيات الجديدة لهذا العلم أمكن تحديد أسباب وفاة أشخاص ماتوا منذ قرون، مما ساعد على فهم الحياة اليومية وأسلوب حياة السكان في عصر هذه الشخصيات، وكتابة تاريخها من جديد.
ومن آخر الكتب التي صدرت في هذا السياق كتاب العالم الفرنسي «فيليب شارلييه – Philippe Charlier» تحت عنوان «Autopsie des morts célèbres» أي «تشريح الوفيات المشهورة»، وقد صدر في 264 صفحة عن دار «تالاندر»، في بداية هذا عام 2019.
غلاف كتاب «تشريح الوفيات الشهيرة» — فيليب تشارلي
من هو فيليب شارلييه؟
ولد فيليب شارلييه في 25 يونيو/حزيران 1977 في مو Meaux، لعائلة برجوازية، حيث يعمل والده طبيبًا، وتعمل والدته صيدلانية. وبدأ يهتم لفحص الجماجم وهو في العاشرة من عمره. وقد حاز شهادة البكالوريا في السابعة عشرة من عمره، وكان يحلم أن يصبح عالمًا للآثار. لكنه التحق بكلية الطب بناء على رغبة والديه. «عالم الآثار! إنها ليست وظيفة» كما قال والداه. وإلى جانب دراسته الطبية بدأ يحضر دورات في علم الآثار وتاريخ الفن في معهد ميشيلية (Michelet) بجامعة باريس، ويقضي الإجازة الصيفية في مواقع التنقيب، حيث شارك في حفريات أثرية لمقبرة ميروفنجية تعود إلى فترة ما بين القرنين الخامس والثامن الميلاديين.
وفيما بعد كان يعمل في قسم الطب الشرعي بمستشفى جامعة ريموند بوانكاريه (صباحًا)، ومختبر الأخلاقيات الطبية بجامعة باريس ديكارت (مساءً). وآنذاك كون فريقه العلمي متعدد التخصصات للعمل في مجالات «علم الأمراض القديمة» مستخدمًا في ذلك التقنيات الحديثة لدراسة البقايا البشرية القديمة وتقديم تشخيص بأثر رجعي لحالة أصحابها الصحية والحياتية.
وإلى جانب كل ذلك شارك بانتظام بالكتابة لدور النشر، وفي المجلات العلمية، وبالمشاركة في البرامج العلمية وصناعة الأفلام الوثائقية التاريخية، وتنظيم المؤتمرات الدولية.
وفي غضون بضع سنوات أصبح فيليب شارلييه أشهر طبيب شرعي في فرنسا، واشتهر بأنه قادر على جعل الأموات يتكلمون! وأطلقت الصحافة عليه عدة ألقاب، منها «طبيب الموتى»، وهو عنوان لأحد كتبه الشهيرة، و«أنديانا جونز المقابر».
في أكتوبر/تشرين الأول 2018 عُيِّين مديرًا لقسم البحوث والتعليم في متحف (برانلي كاي) في باريس.
وبالطبع أثارت أبحاثه وما زالت جدلات عديدة بين الخبراء. بصفة خاصة دراسته حول الجمجمة المزعومة لهنري الرابع، ومحاولته إعادة بناء ملامح روبسبير. وبسبب حضوره الإعلامي الدائم كثيرًا ما يتهم من قبل منافسيه بأنه يسعى للشهرة. ولكنه دائمًا ما يقدم نفسه كمدافع قوي عن الحقيقة التاريخية في ضوء المعرفة العلمية. وأنه يستخدم في عمله نفس الأساليب الصارمة التي يستخدمها في ممارسة الطب الشرعي. وسواء أكان يفحص جان دارك أو جثة مجهولة استخرجتها الشرطة من نهر السين، فالأمر عنده سيان، وهما مهمان بالقدر نفسه». وأنه يسعى بحسن نية «لمشاركة كل ما يعرفه مع أكبر عدد من الناس». وهذا ما يفعله في كتابه الجديد «تشريح الوفيات المشهورة» الذي نعرض له هنا.
الكتاب بالنسبة لي مثير بالفعل، خاصة أنه الكتاب الأول الذي قرأته لفيليب شارلييه. وفكرة الكتاب الرئيسية أو المهمة التي يهدف إليها هي دراسة ما تبقى من الشخصيات التاريخية المهمة، مستخدمًا – كما سبق أكثر من مرة – أحدث التقنيات والتطورات العلمية في مجال التشريح الطبي، وذلك بهدف تقديم استنتاجات علمية مدعومة طبيًّا حول الأسباب الحقيقية لوفاة هذه الشخصيات، ومن ثَم إعادة كتابة تاريخها وتاريخ العصر الذي عاشت فيه.
ويتكون الكتاب من 26 فصلًا، متباينة من حيث الطول، ومرتبة زمنيًّا تبعًا للعصور التاريخية المعتادة في التاريخ الغربي، من عصر ما قبل التاريخ حتى العصور الحديثة.
مداخل تمهيدية
فيما يخص عصور ما قبل التاريخ يقدم الكتاب أربعة عروض أو مداخل قصيرة، تشمل نتائج الدراسات حول: المومياوات (فصل 2)، ولوسي سلفنا المشترك كما يقول (فصل 3)، وإنسان النيندرتال (فصل 4)، وإنسان الكرومانيون أي الإنسان الأوروبي الحديث الأول. وهذه الفصول لسوء الحظ قصيرة جدًّا، وكنت أتمنى لو طال بعضها، فصل المومياء على سبيل المثال.
أما فيما يخص العصور العتيقة (Antiquité) فقدم بداية بحثًا تاريخيًّا محضًا عن «تصور الجسد الأنثوي في العصور اليونانية القديمة» (فصل 6)، وقد شعرت أن هذا الفصل خارج قليلًا عن موضوع الكتاب، مثله في ذلك مثل «الاستشفاء والمستشفيات في الغرب الوسيط» (فصل 9)، و«فن الموت الجميل في الغرب المسيحي» (فصل 12)، و«إنسان ما قبل التاريخ واستخدام النار» (فصل 18)، وفصل الكتاب الأخير عن قَسَم أبقراط ومستقبل الطب (فصل 26). فهذه الفصول ليست دراسة حالة تستهدف شخصية تاريخية معينة كما يقول عنوان الكتاب، بل هي موضوعات عامة حول تطور موضوع ما.
أما أبحاثه الدقيقة التي تثير الجدل وتغير التصورات التاريخية، فبدأت – ولكن بحذر – بدراسته عن مارية المجدلية (فصل 7). وهنا يمكن القول إن علم الأمراض القديمة (الباليولوجي) قد مكن بالفعل من إعادة بناء وجه تقريبي لمارية المجدلية. ولكنه كان كما سبق شديد الحذر وهو يقدم نتائج دراسته في هذا الفصل.
ثم كانت انطلاقته في «عندما تكون الأنثروبولوجيا بعيدة المنال: عن الأنثروبولوجيا وتاريخ الشَّعر» (فصل 8). وفيه يعلمنا كيف أن التقنيات الحديثة تسمح من خلال دراسة الشظايا البشرية بإجراء تحقيقات علمية تاريخية واسعة النطاق. وعلى سبيل المثال فإن شعرة واحدة تحوي آثار حمض نووي، يمكن على أساسها أن نختبر الفرضيات التاريخية التي تذكر في المصادر والأساطير حول أسباب وفاة شخص ما. وسأضرب هنا مثلين مهمين من الكتاب.
لويس التاسع لم يمت بالطاعون
في الجزء المخصص للعصور الوسطى والحديثة قدم فيليب شارلييه عرضًا ثريًّا لأحد إنجازاته البحثية التي لا تخص التاريخ الفرنسي فقط، وإنما التاريخ الإسلامي أيضًا وبصفة خاصة تاريخ الحروب الصليبية. أعني دراسته حول الملك الفرنسي لويس التاسع، أو الصليبي النموذجي بلا منازع، الذي يسمى في فرنسا (سانت لوي). وهنا يلقبه بالملك المختفي، حيث تمت تجزئة جسمه بشكل لا يصدق، وتوزعت على أنحاء فرنسا (فصل 10). وقد فحص فيليب شارلييه الفك السفلي للويس التاسع الذي كان محفوظًا في كنيسة نوتردام بباريس، ومقارنة ذلك مع ما دون عن حياة هذا الملك وموته، وحالات الأمراض الالتهابية المعدية في عصره، وذلك لتشخيص ظروف موته بأثر رجعي. وقد جد أن فقدان الأسنان بعد الوفاة ترتبط عادة بالأمراض المعدية والالتهابات، وأن التشخيص الأدق هنا أن لويس التاسع مات بمرض الأسقربوط الناتج عن النقص الشديد في فيتامين (ج).
ولأن الملك الصليبي توفي بعد خمسة أسابيع فقط من وصوله إلى مدينة قرطاج التونسية عام 1270م، فقد استنتج فيليب شارلييه عدم تناوله للطعام التونسي المحلي المليء بالخضروات والموالح الغنية بفيتامين ج، وأن هذا قد يكون لأسباب دينية. والأسقربوط يصيب اللثة بداية ثم ينتقل منها إلى العظام، وقد يتطور ويؤدي إلى الموت. ومعنى ذلك أن لويس التاسع لم يمت بالطاعون أو التيفوس كما أشيع تاريخيًّا. وهذا يدل من ناحية على أن التعصب الديني مهلك صحيًّا، وأن الملك الصليبي لم يكن مستعدًّا كما يجب، وأنه لم يأخذ معه ما يكفي من الماء والخضروات. وهذا غريب بالفعل لأن هذا لم يكن حال لويس التاسع عندما فكر في غزو مصر سنة 1249م حيث لم يجهز حملته فقط بما تحتاجه من عتاد ومؤن، وإنما أيضًا ببذور للزرع وأدوات للفلاحة؛ لأنه كان ينوي الاستقرار بعكس ما يمكن أن نستنتجه من حملته على تونس.
اللحظات الأخير لهتلر
أحد أبحاث فيليب شارلييه الشهيرة كانت على الجمجمة المنسوبة لهتلر، والموجودة في المحفوظات الروسية حاليًّا (فصل 21). وهذا الفصل تحديدًا يمثل أحد أهم نجاحات «علم الأمراض القديمة».
وبناء على هذه الدراسة تم تأكيد نسبة الجمجمة لهتلر، مما أدى بالتالي إلى تبديد نظريات المؤامرة التي دارت حول هروبه وحياته بعد خسارة الحرب. ففي عام 2017 سمحت روسيا وللمرة الأولى منذ 1946 لفيليب شارلييه وفريقه البحثي بفحص الجمجمة المنسوبة لهتلر. وقد نشرت النتائج وقتها في مجلة علمية معتبرة، هي European Journal of Internal Medicine. وفصل الكتاب هذا يضم خلاصة هذا البحث المنشور.
وقد وجد فيليب شارلييه وفريقه أن الأسنان تتطابق مع صور وفحوصات أسنان هتلر التي أجريت في أواخر حياته، وأنها تدل على أن صاحبها توفي سنة 1945، وأنه لم يوجد عليها أي أثر للحوم، مما يدل على أن صاحبها كان نباتيًّا مثل هتلر! ومما بحثوه أيضًا كيفية موته، فقد وجد الفريق آثارًا للسم على أسنانه، ولكن لا يوجد عليها أي أثر للرصاص مما يدل على أن هتلر لم ينتحر بطلقة في الفم، وإنما بشرب السم ثم طلقة في الجمجمة. وقد وجدوا بالفعل ثقب رصاصة في الجانب الأيسر من الجمجمة، أي أنه على الأرجح من أطلق النار على نفسه بيده السليمة. فهتلر إذن لم يهرب بغواصة للأرجنتين ولا يعيش في مخبأ سري تحت القطب الشمالي، ولا يختبئ في الجانب المظلم من القمر! الرجل مات بالفعل سنة 1945.
يحوي الكتاب فصولاً أخرى مهمة، ولكن لا يتسع المجال هنا للخوض فيها، ومن ذلك الفصل الخاص بالسرطان في العصور السابقة، وحالة آنا النمساوية التي تظهر أن البشر كانوا يموتون بالسرطان منذ فترة طويلة (الفصل 11)، ومنه أيضًا دراسته المهمة عن «دماغ رينيه ديكارت» (فصل 13)، وعن الموت المفاجئ في مدينة فرساي أثناء حكم لويس الرابع عشر (فصل 15). وهي دراسة أظهرت أن نبلاء ذلك العصر كان لديهم نمط حياة يرثى له، وكذلك عن «موت فريديش شوبان» والتاريخ السري لقلبه الذي كان قد وضع في براندي وتم حفظه في أحد أعمدة كنيسة الصليب المقدس في وارسو (فصل 16). ومثل ذلك أيضًا فصله عن مرض بلزاك وموته، وخطر الانهماك الإبداعي على الكتاب (فصل 17).
بين الدفن أو الحرق
كما سبق فإن فيليب شارلييه كان يعمل لفترة في مختبر الأخلاقيات الطبية بجامعة باريس، وأن هذا جعله يهتم بأخلاقيات المهنة، وإن بشكل فلسفي لا ديني، وهذا واضح في فصول عدة في هذا الكتاب من قبيل حديثه عن «ماهية الموت ومحاولة إيجاد تعريف جديد له» (فصل 23)، وعن البعد الأخلاقي لوضع البقايا البشرية في المتاحف والمجموعات الوطنية (فصل 19). وكما نعرف فإن «سؤال الموت» مغامرة ملغزة، بل مزعجة للبشرية منذ فجر الوعي به. والكتاب – كما هو متوقع – لا يقدم إجابة نهائية عن السؤال، لكنه يشجع القارئ على التفكير الحميم فيه.
وعلى الرغم من اهتمام فيليب شارلييه وسعيه الدائب للحصول على عينات لأبحاثه من البقايا البشرية المحفوظة في المتاحف والمحفوظات الوطنية المختلفة، فإنه يتساءل – طبيًّا وأخلاقيًّا أيضًا – عن عواقب الحفاظ على بقايا جثث الموتى. وهو يرى وجود إمكانيتين فقط لتجنب أن تصبح هذه الجثث مصدرًا لإصابة الأجيال القادمة بالأمراض المستعصية والمجهولة. الإمكانية الأولى تتمثل – حسب رأيه – في «الحرق». أما الإمكانية الأخرى فهي «الدفن» في الأرض مباشرة، وليس في بيئة مغلقة مثل تابوت أو بناء حجري. فوضع الجثة في نعش، خاصة لو كان رصاصيًّا، يُعد تركيزًا خطيرًا ومحتملًا للعدوى. بينما دفن الجثة في الأرض مباشرة يجعلها في تفاعل تام ومباشر مع الطبيعة، ومن ثَم يتم تطهيرها بديدان الأرض ودوابها.
وفي النهاية أقول إن هذا كتاب مثير للقراءة ومستحق للترجمة. خاصة أنه إلى جانب جدته وجديته ذو أسلوب أدبي رائق واضح، يسهل معه فهم الكتاب وترجمته على نحو دقيق، هذا بالطبع إذا وُجد المترجم الذي يهتم بهذا التخصص الدقيق.