ضمن لجنة تحكيم الاتحاد الدولي للنقاد (الفيبريسي)، سافرت إلى مدينة لايبزيج الألمانية، جنوب شرق العاصمة الألمانية برلين، لحضور مهرجان لايبزيج للأفلام الوثائقية وأفلام التحريك (دوك لايبزيج)، الذي أقيم في الفترة من 17-23 أكتوبر 2022، ومنح جائزة النقاد الدولية لفيلم من ضمن 13 فيلمًا مشاركًا في المسابقة الرسمية للمهرجان. أول يوم، وبعد وصولي إلى المدينة الألمانية متوسطة الحجم، الشهيرة بعمل يوهان سباستيان باخ فيها مسئولًا عن موسيقى كل كنائسها، شاهدت مظاهرة ضعيفة الحجم لليمين المتطرف تجوب وسط المدينة، متبوعة بقوات كبيرة للشرطة، وفي نفس الوقت كان المهرجان يرحب بضيوفه الآتين من جميع أنحاء العالم في استقبال لطيف الأجواء قبل حفل الافتتاح. 

في حفل الافتتاح، عُرض تريلر المهرجان المتمحور حول رمز المهرجان حمامة السلام، تبعه ترحيب بالحضور وعرض فيلم التحريك الطويل «No Dogs or Italians Allowed» أو «غير مسموح للكلاب أو للإيطاليين»، وهو فيلم عن عمال إيطاليين ورحلة تغريبهم بين إيطاليا وفرنسا وشمال أفريقيا مطلع القرن العشرين، عمال بسطاء سحقتهم تغييرات كبيرة بينها الحرب العالمية والفاشية الإيطالية وغيرها من تغيرات متعلقة بتواجدهم في جبال الألب ذات المناخ القاسي والطبيعة الخشنة. لوهلة، أحسست أن هناك صراعًا بين هؤلاء اليمينيين المتطرفين خارج القاعة، الراغبين في إعادة التطرف، وبين القائمين على المهرجان الساعين لخلق عالم أفضل، صراع يخوضه كل مؤمن بقيم الثقافة في وجه كل فكر رجعي. 

تصميم المهرجان الرسمي يعتمد على مفتاح استخدم قديمًا في المدينة المنتمية تاريخيًّا لألمانيا الشرقية، مكون من جسمين أحدهما مسطح والآخر دائري، إضافة إلى فيديو يجمع بين فنون التحريك لحمامة هي رمز لجوائز المهرجان. المفتاح والحمامة يعبران عن فكرتين أساسيتين للمهرجان، الأولى تتعلق بالإتاحة والشمول والثانية تتعلق بالسلام، وهما كما ذُكر في افتتاحية الكاتالوج الرسمي للمهرجان، هدفان أساسيان للمهرجان وللبرنامج أيضًا. 

https://www.youtube.com/watch?v=uZpnqyPU_Zo

ذهابًا إلى قاعة العروض في اليوم الثاني للمهرجان، بدأت مهمة اللجنة في مشاهدة أفلام المسابقة الرسمية، والتي تكونت من 13 فيلمًا وثائقيًّا طويلًا، آتية من دول وقارات عدة حول العالم. في معظم عروض الأفلام الطويلة المشاركة، يتم إقران أفلام قصيرة لها ذات الأسلوب أو الموضوع قبل عرض الفيلم الطويل، ما يجعله مفتاحًا لتكوين تخيل عن الفيلم الطويل، ويتيح فرصة أيضًا لمشاهد الفيلم الطويل أن يشاهد فيلمًا قصيرًا جيدًا قبل البدء، منطق استخدم معظم المرات خاصة عندما كانت الأفلام لا يتعدى طولها 80 دقيقة، وإلى جانب ذلك فإن ذلك الاقتران يلعب دورًا للترويج للقسم الذي يأتي منه الفيلم القصير أيضًا. 

الملاحظة الأهم في المسابقة الرسمية هي احتواؤها على أفلام تتناول موضوعي الأمومة والعائلة، ربما تصل نسبة تلك الأفلام إلى 50% من المسابقة، وهذا إن دل فيدل على اهتمام خاص يوليه مبرمجو المهرجان إلى الموضوع، واهتمام من جانب صناع الأفلام بالموضوع ربما تسببت جائحة كورونا به بشكل ما، أو ساعدت في إنجازه. إضافة إلى ذلك، تنوعت مواضيع المسابقة بين البيئة والتاريخ والعوالم المغلقة متناهية الصغر (ميكروكوزمس) التي تحكي عن أشياء أكبر منها. هنا نحاول عرض جزء من أفلام تلك المسابقة التي تجمع بين الجودة الفنية، والتي تتناول مواضيع العائلة وأدوارها. 

عن معنى الأمومة

لطالما كانت العائلة وموضوعاتها مادة خصبة لمخرجي الأفلام الوثائقية، من ناحية لمدى خصوصية تلك القصص، ومن ناحية أخرى إنتاجية، إذ يلجأ بعض المخرجين إليها أحيانًا لسهولة الوصول إلى المواد الأرشيفية، أو التسجيل مع أفراد العائلة ما يقلل من التكلفة. لكن على الجانب الآخر، فهناك صعوبة متعلقة بمدى إمكانية صناع الأفلام عن الحكي بشكل منفتح عن أنفسهم وعائلاتهم. تعيد المخرجة فاوستين كروس في فيلمها «A Life Like Any Other» أو «حياة مثل أي حياة»، صنع قصة والدتها من خلال أشرطة سجلها والدها في الماضي. 

من خلال مشاهدتها لتلك الأشرطة مرارًا وتكرارًا لاحظت المخرجة الشابة قصة غير مروية عن أمها، اكتئاب حاد يظهر في تلك الأشرطة العائلية المفترض بها أن تكون سعيدة. من ذلك المنطلق، تنطلق كروس لعمل مقابلات مع أبيها وأمها وتنسجها مع الأشرطة القديمة لتكون القصة كقطع «بازل»، قطعة تلو الأخرى، لتسرد القصة منذ شباب الأسرة، ولتتعرف بشكل دقيق على تلك الأسباب التي ساهمت في حالة الاكتئاب الذي عانت منه أمها. 

الأم التي عملت في السينما لفترة قبل أن تنقطع عن العمل بسبب ولادتها لطفليها، ربما تكون قد عانت ذلك الاكتئاب بسبب الولادة أو تركها للعمل، وهي نظرية تفكك المنطق السائد القائل بأن الأمومة شيء غريزي لدى أي امرأة، وأنها تمنح النساء السعادة القصوى. أيضًا، رغم أن الأب يبدو متفهمًا ودودًا، فإن ذلك الاكتئاب الذي عانت منه الأم، هو نتيجة منطق عام مجتمعي، خلل في النظام بأكمله. 

من فرنسا أيضًا، يأتي فيلم «One Mother» أو «أمٌ واحدة» لمايكل بانديلا، الذي وقع عليه اختيار لجنة تحكيم الاتحاد ليفوز بجائزة النقاد الدولية، ليحكي قصة صانع فيلم مع والدته، أو للدقة، مع والدتيه، فهو قد تُرك في عمر الستة الأشهر من قِبل أمه البيولوجية جيزيل إلى أمه المتبنية  ماري تيريز التي رعته قرابة عشرين عامًا. عند قراءة السطر الأخير، قد تتخيل أن جيزيل مجرد أم مستهترة، لكن الفيلم يذهب من خلال تفحص في أرشيف ومقابلات مع المرأتين لخلق وجهة نظر أكثر عمقًا، تحاول فهم كل القرارات دون أحكام مسبقة. 

بانديلا يخوض رحلة تبدأ من فرنسا وتنتهي في الكونغو، حيث مسقط رأس جيزيل، ليتفهم دوافع قرار والدته، التي تركته لامرأة أخرى تربيه، لكنها في نفس الوقت لم تنقطع عن زيارته! من خلال أشرطة قديمة للعائلة وتصوير الرحلة نفسها، والمقابلات مع كلا الوالدتين، ولقطات فيلم شعرية، نعرف أن قرار الأم البيولوجية كان له حيثياته، بل أصول مترسخة في الثقافة الأصلية لها، ما يجعلنا نسائل كل ما نعتبره طبيعيًّا عن الأمومة. نكتشف نوعًا ما من الأمومة الجماعية، حيث الأطفال تُربى مع الأمهات القادرات على المهمة بشكل كفؤ. بذلك يلعب كلا الفيلمين دورًا في تفكيك مفاهيمنا عن الأمومة، شيء قد نعتبره طبيعيًّا، لكن العالم أرحب من مجرد تصوراتنا عنه. 

في مساءلة الآباء

من فيلم The Dependents

على جانب آخر، مخرجتان أخريان، من كندا ولبنان، تقومان بمساءلة آبائهما في أوقات متأخرة من حياتهما. الأولى صوفيا بروكنشاير، كندية أرجنتينية، مخرجة فيلم «The Dependents» أو «التابعون»؛ إذ عمل والدها في جهات مختلفة من العالم مسئولًا عن طلبات الهجرة المُقدمة لوطنه كندا، الذي قضى أقل وقت من عمره فيه، وبقيت الأسرة معظم الوقت عالة/تابعة للأب كما تصفهم الخارجية الكندية. هنا تلعب الابنة دورًا متبادلًا مع مهنة الأب الذي اعتاد هو إجراء مقابلات مع المتقدمين ورفضهم أو قبولهم لمنحهم التأشيرة الكندية، وفي الفيلم تلعب هي دور المسائلة له عن اختياراته المهنية أو الحياتية. 

تقدم بروكنشاير شخصيات فيلمها في بيئات تشبههم، فالأب يظهر لأول مرة وحيدًا في كندا وسط جو مثلج، حالة ربما تعبر عن وحدته وانتقاله الدائم. على الجانب الآخر تقدم الأم في وسط حوض سباحة مستلقية على ظهرها في الماء في وضع استرخاء، ما يعبر عن روح أمها الحرة الطليقة. تستخدم المخرجة مواد مختلفة من الراديو الكوري وأشرطة عائلية مسجلة في دول مختلفة لتساءل تلك الحياة، ومقابلات مع الأب والأم لتفحص تلك الاختيارات التي خلقت حياتها الممزقة بين أوطان كثيرة وبيوت بلا معالم، أو كما وصفت المخرجة وهي في سن صغيرة لوالدها قائلة عن إحدى الدول التي عمل بها، إن تلك الدولة لا تمتلك وجهًا! رغم أن قصة بروكنشاير تنطلق من نقطة شخصية تمامًا، فإن الفيلم يطرح أسئلة أكبر من ذلك حول المكان والوطن وإجراءات السفر ومزايا أن تولد كمواطن عالم أول.

انتقالًا إلى لبنان، تساءل كورين شاوي، المخرجة اللبنانية، أباها، ليس بشكل مباشر مثل بروكنشاير، ولكنها تصوره في لحظة ضعف إثر إصابته بشلل في قدمه. نفهم ذلك من خلال التفاصيل في الفيلم المعنون «Perhaps What I Fear Doesn’t Exist» أو «لعل ما أخشاه ليس بكائن»، وهو مقتبس من بيت شعر شهير لأبي العتاهية. شاوي تختبر شيئًا مألوفًا في العالم العربي، حيث إما البقاء مع العائلة وخسارة نفسها، أو العكس. كلا الاتجاهين صعب الاختيار، وتقف شاوي في المنتصف بينهما ممزقة، تحاول صناعة فيلم يجيب عن ذلك السؤال أو يساعدها على الأقل في التعامل مع قلقها. تستخدم شاوي في البداية لقطات ليد تقوم بتقشير طبقات الشجر الميتة، تبدو كتنظيف لجلد قديم ناتج عن جرح يتعافى. 

الفيلم هو محاولة للفهم، من خلال مقابلات عدة مع جميع أفراد العائلة، ربما إذا رأتهم من خلال كاميرا، تغيرت المسافات، وصاروا شخصيات فيلمية يمكن تفهُّم منطقها دون تحيزات. الشخصيات تشبه الكثير من العائلات في العالم العربي أيضًا، أخ غير مسئول وأخت تركت العائلة وذهبت لتكوين أخرى، وكورين مع أبيها، الغضوب سابقًا والأم المحبة للحياة مهما كانت الظروف. بين كل تلك الشخصيات، يصبح قرار شاوي أكثر صعوبة، لكنها أيضًا تحاول استخدام صناعة الأفلام في مساعدة والدها، محاولة للتغلب على العجز، وإثبات أنه على الأقل وإن قهرت حياتها الشخصية فإن بإمكانها قلب الأدوار مع والدها بحيث تصبح هي والدته/راعيته. لا تبدو نهاية الفيلم واضحة للغاية، لكن الحالة نفسها هي ما يدور حولها الفيلم، قلق مُنتظر لأشياء مجهولة، وربما تكون بقية بيت الشعر “ولعل ما ترجوه سوف يكون” هي الإجابة عن ذلك القلق الوجودي. 

مخرجون مختلفون قادمون من قارات مختلفة، لا يربط بعضهم ببعض إلا محاولاتهم لحكي قصصهم شديدة الخصوصية والحميمية، التي تبدأ من نقطة خاصة لتحكي قصصًا عامة أيضًا، نستطيع التفاعل معها وتفهمها. رغم أن القصص الذاتية معتادة في مشهد الأفلام غير الروائية، فإن تلك الأفلام تستطيع، عندما تكون جيدة الصنع، أن تفاجئك دائمًا، وأن تفتح آفاقك ناحية النظر إلى العالم. إضافة إلى ذلك، فإن تلك الأفلام تفكك مفاهيمنا عن أشياء نعتبرها “عادية”، ومن بينها الأبوة والأمومة والعائلة، ومن خلال ذلك التفكيك ربما نتوصل إلى طرق أفضل نحقق بها السلام والتقبل، وكلاهما من أهداف المهرجان العريق.