التوحد أم الخوف: حقيقة سيطرة «ميسي» على قرارات برشلونة
في مطلع عام 2017، نشرت مجلة باسم «Coach» مقابلة صحفية تقليدية مع النجم «ليونيل ميسي». لم يكن بها أي شيء يستحق الانتباه، حتى خرج الصحفي، المكتوبة هذه المقابلة باسمه، والذي يُدعى «دييجو جوكاس»، ليتنكر منها علانية، مؤكدًا أنه لم يُجرِ مقابلة مع اللاعب أصلًا، بل لم يعمل في تلك المجلة من قبل.
أثنى ميسي خلال تلك المقابلة الوهمية على اللاعبين «كريستيانو» و«روني». تحدث عن طموحه الشخصي وسعيه للألقاب، اختص بالشكر المدربين «جوارديولا» و«فرانك ريكارد»، وجميعها أشياء يمكن أن تراهها في أي مقابلة لأي لاعب مهما كان باختلاف تفاصيل بسيطة.
لكن ما جعله حوارًا رائجًا، هي العبارة التي ذُكرت خلاله، بأن بقاء ميسي في برشلونة مستمر «طالما أرادت إدارة النادي ذلك». تلمس تلك العبارة منطقة حساسة بين النجم الأرجنتيني وبين إدارة النادي الإسباني، لذا تناقلتها عدة صحف باهتمام، لأنها تتوافق مع ما يريدون تصديقه، حيث علاقة الطرفين ليست جيدة بحال.
يمكن لأي شخص عابر أن يتخيل أي حوار صحفي مع أي لاعب وأن يضع به ما يجعله منتشرًا جماهيريًّا، وهو ما فعله ذلك الصحفي منتحِل شخصية «دييجو جوكاس». لكن في الواقع، فإن ذلك الصحفي المنتحِل قد ساعدته الصدفة في أن يعتمد حواره المزيف على مبدأ فكري يُسمى المغالطة المنطقية.
لكن ما جعل حوارًا مثل هذا مقبولًا ومُصدقًا إلى مدى بعيد، أن حياة ليو المهنية بحد ذاتها حياة مليئة بتلك المغالطات المنطقية.
فقاعة ميسي الفكرية
تزداد ضريبة للشهرة كلما زادت قيمة الشخص المشهور. كلما فاقت نجوميتك الجميع، وجدت نفسك واقعًا بين العديد من الأفكار البشرية المليئة بالمغالطات المنطقية. وأكثر تلك المغالطات انتشارًا في حياة ميسي هما: مغالطة المنطق الدائري ومغالطة الاحتكام إلى الجهل.
حسب تفسير وضعه الدكتور «عادل مصطفى» مؤلف كتاب «المغالطات المنطقية»، فإن النوعين المذكورين يظهران في عقل أي محب أو متابع لمسيرة ميسي كلما جاء اللاعب في عقل ذلك المتابع، خاصة كلما ذُكرت علاقة ميسي مع إدارة النادي في السنوات الأخيرة.
ينتشر عن البرغوث اعتقاد يعتمد على مغالطة المنطق الدائري، تتوه فيه محاولة فصل الدليل عن النتيجة. فمثلًا، تأتي نتيجة أن: «ميسي هو أهم لاعب في فريق برشلونة»، والدليل أن: «ميسي هو الشخص المُسيطر الأول على كل شيء داخل النادي». مغالطة منطقية يبدأ فيها الشخص الاستدلال بما يجب استنتاجه.
فكيف للإدارة أن تخرج بقرار يجعل أهم شخص في النادي غير سعيد؟ المنطق يقول إن ذلك لن يحدث أبدًا. لكن تظل تلك مغالطة؛ لأنه وبعد قليل من التفكير يمكنك أن تكتشف عدة قرارات أخذتها الإدارة جعلت ميسي غير سعيد بالفعل، كفشلهم في التعاقد مع نيمار مثلًا.
الأوحد والمتوحد
إذا عدت بالتاريخ للوراء قليلًا تجد مغالطة الاحتكام إلى الجهل قد وضعت أساس أهم معلومة عن طفولة وحياة ليونيل ميسي. ومغالطة الاحتكام إلى الجهل لمن لا يعرفها هي: أنه طالما لا يوجد دليل واحد على نفي ذلك الاستنتاج فإن هذا يعني أنه حقيقي وواقعي.
حيث ذكرت عدة جهات مختصة بمتلازمة «أسبرجر»، أن الأرجنتيني يُعاني من التوحد ولو بدرجة بسيطة.
تشير بعض التقارير إلى أنه تم تشخيص حالته في عمر الـ9 بأنه يعاني من أحد متلازمات طيف التوحد عالي الأداء. تُفسر تلك التقارير موهبته الاستثنائية، وتركيزه الثابت على كرة القدم، حيث لوحظ أن أولئك الذين لديهم نفس المرض يتفاعلون بشكل مختلف مع العالم عن غيرهم وغالبًا ما يتفوقون على ما استطاع الإنسان العادي فعله.
ميسي الخجول، الذي تزعجه البيئة الخارجية دائمًا، الذي يخدش رأس وأنفه، يحرك يديه وعينيه في اتجاهات مختلفة، صامت في أغلب الأحيان، يفشل في صنع الأشياء الطبيعية لأي إنسان عادي، كإنهاء قراءة السيرة الذاتية لـ «مارادونا» أو إكمال مسلسل أجنبي، وهي ما لا يمكن أن تكون صفات طبيعية لإنسان لا يعاني من اضطراب نفسي حتى، وإن لم تكن متلازمة.
يقول «نيلتون فيتولي»، وهو والد لطفل يعاني من متلازمة أسبرجر وعضو نشط في منظمة التوحد، والتي تضم الآباء وأفراد عائلة المتلازمة، إن مريض التوحد يتطلع دائمًا إلى تبني نمط واحد وإتقانه جيدًا، ومن ثم تكراره. لو نظرت بفحصٍ على أشهر مراوغات ليو، تكتشف أن تكرار مراوغة بطريقة واحدة تقريبًا أمر معتاد.
وطالما لم تنفِ عائلة اللاعب تلك الشائعات ولم تثبتها، آمنت الجماهير بأن ميسي قد عانى من تلك المتلازمة فعلًا، حسب مغالطة الاحتكام إلى الجهل. بل بدأوا في تكوين قناعات على ذلك الأساس تعود كذلك لعلاقته مع إدارة النادي.
كيف بدأت المغالطات؟
يعتقد كل من زامل ليونيل أو عمل معه أنه شخص لا يتكلم إلا في الحدود الضئيلة جدًّا حتى بتقدمه في السن وتقلده لقيادة فريق بحجم برشلونة، فإنه يظل قليل الكلام، سُمي في صغره بالـ «الأبكم صغير»، وهي حقيقة لم تتغير أبدًا، الأصعب أنه إن تحدث فإنك من النادر أن تفهم ماذا يُريد أصلًا.
هل أنت مُستعد لتلقي نوع جديد من المغالطات المنطقية؟ إنها مغالطة انحياز التأييد، وهو النوع الذي اعتمدت عليه الصحف في نقلها للحوار الزائف لمنتحل شخصية «دييجو جوكاس»، وتعتمده كل الجماهير التي ترغب في تصديق رواية أن ميسي خارق بالدرجة التي تجعله يتحكم في كل سنتيمتر من النادي الكتالوني.
يميل الأشخاص الذين يعتمدون مغالطة انحياز التأييد إلى اختيار المعلومات التي تؤكد صحة اعتقادهم فقط، ويتجاهلون أي معلومة تُعاكس ذلك الاعتقاد حتى إن صحت. وأحد هذه المعلومات التي تؤكد صحة تحكم ليو في مقاليد النادي، هي قصة «إبراهيموفيتش» الشهيرة.
ففي خريف عام 2009، توارى ليونيل في آخر حافلة الفريق الكتالوني. أخرج هاتفه المحمول وكتب بأصابعٍ مضطربة رسالة إلى مُدربه جوارديولا. تلك الرسالة كانت سببًا في خلق مشكلة ضخمة لم تنتهِ بين المدرب الإسباني والمهاجم «زلاتان إبراهيموفيتش».
كان على المدرب في ذلك الحين أن يختار بين بقاء ميسي بعقلٍ هادئ ومستقر وشعوره أنه أحد أهم نجوم الفريق إن لم يكن أهمهم، أو أن يُضحي بموهبةٍ ضخمة مثله. حتى إن كنت لا تعرف تاريخ تلك الواقعة وكنت في مكان جوارديولا في ذلك الوقت لاخترت راحة ميسي بكل تأكيد.
تلك الحادثة صحيحة، لكن أمامها العديد من المعلومات التي تنفي سيطرة ميسي على مقاليد الحكم في كتالونيا. نعم، مغالطة انحياز التأييد.
الخوف أقوى من التوحد
هل تعرف كم قصة تُعاكس اعتقاد قصة إبراهيموفيتش تلك؟ لو وضعنا بعضها فقط لاكتشفت أن إدارة النادي الكتالوني تعاقدت منذ عام 2014 مع 30 لاعبًا بميزانية تخطت الـ 800 مليون يورو لم يكن فيهم لاعب واحد من أصدقاء ميسي.
تحدثت الصحف دومًا عن قرب استقطاب برشلونة للاعبين أمثال «سيرجيو أجويرو» و«بانيجا» لقربهم الشديد من نجم برشلونة الأوحد، لكنها صفقات لم تتم ولم تحاول الإدارة مراضاة ميسي بلاعبين أصدقائه، ولا حتى نظروا إلى طلبه بإعادة التعاقد مع نيمار وهو الطلب الذي تكرر ولم يُنفذ.
حتى الصفقة الشهيرة التي سافر فيها رئيس النادي آنذاك، «ساندرو روسيل»، إلى أمريكا الجنوبية من أجل إتمام التعاقد مع المدرب «جيراردو مارتينو» أو الشهير بـ«تاتا مارتينو»، حُسبت كصفقة تمت لإرضاء ليو، باعتبار أن تاتا مواطنه وقد سبق له تدريب فريق طفولته وتعرفه العائلة جيدًا.
لكن تلك المرة خرج ميسي وعائلته لينفوا أي صلة لهم بالتعاقد مع ذلك المدرب بالتحديد دونٍ عن غيره، لكن اعتمد الجميع على مغالطة انحياز التأييد، وأخذوها كمعلومة تصب في صالح اعتقادهم، وتركوا مبدأ الاحتكام إلى الجهل إلى حين.
تفسر صفقة تاتا مارتينو تلك الحالة النهائية لمعضلة ميسي وإدارة برشلونة. تؤكد أغلب التقارير الطبية المعروفة عن الأشخاص الذين يُعانون من طيف التوحد أنهم مطالبون للغاية. يجب أن يسير كل شيء على هواهم بالضبط، وكما يخططون للقيام به، وإلا فإنهم منزعجون للغاية.
أكد عديد اللاعبين الذين شاركوا ميسي اللعب أنه يملك ذلك العيب، فمثلًا حكى «تييري هنري»، أن مثل هذه المواقف الطفولية تتكرر أثناء الدورات التدريبية حتى كأنه صبي صغير يلعب في مدرسته الابتدائية.
حين تملك نجمًا بتلك القيمة فإنك تحتاج لإرضائه في أغلب الوقت، لا يهم إن كان يعاني من أحد الاضطرابات النفسية أم لا، لكن الأهم هو محاولة بلوغ ذلك الرضا الذي يجعله يقدم 100% مما يملك. الواقع أن في برشلونة ذلك لا يحدث على الإطلاق، هناك محاولات للوصول إليه فعلًا، لكن عملية بلوغه لم تتم بعد.
تلك إدارة فاشلة في تحقيق مطالبها هي الشخصية، فكيف يمكن أن يدعوا قدرتهم على تحقيق مطالب ميسي؟ فقط تحتاج الجماهير لشيء أكبر من الإدارة لتحمله ذنب ما يجري، ولا يوجد في برشلونة أكبر من ليو ليتحمل كل ذلك، وهي آفة ستواجهها كلما علا نجمك، لكن تتعاظم المشكلة إن كنت نجمًا مع إدارة مثل إدارة «بارتوميو».
يعتمدون على كونه شخصًا لا يتحدث كثيرًا، يرتكنون لكونه صامتًا أغلب الوقت، فتجدهم يُلصقون كل شيء به على أمل ألا ينفي أي أمر بنفسه.
لكن إن رغبنا في التحلي بالتفاؤل، فعلينا أن نطمح إلى أن تكون المرات التي خرج فيها ميسي ليرد على أحد اتهامات الإدارة مؤخرًا هي بداية للخروج عن صمته الكامل لكسر كل المغالطات المنطقية المنتشرة بحقه، وإن تحلينا بالمنطق دون مغالطات للمرة الأولى، فإن أكثر ما يجب أن تخشاه إدارة النادي الحالية، أن يخرج ذات مرة ليطالب برحيلهم جميعًا بكل أفرادهم.