قراءة في كتاب «السلطة في الإسلام»
كتاب «السلطة في الإسلام» لكاتبه المستشار «عبد الجواد ياسين» هو من الأعمال الهامة في مجال نقد العقل الإسلامي؛ أعني بذلك العقل الممتد زمانيًا من فترة انقطاع الوحي بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى زماننا الحاضر، ومكانيًا في الأقاليم التي رفعت عليها راية الإسلام.
يُعد الجزء الأول من الكتاب «العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ» -والذي سنطرح أفكاره في هذا المقال– مدخلًا يلج منه الكاتب في حجاج منطقي عقلاني في منطلقه، أصولي كلاسيكي في أدواته إلى نقد العقل الإسلامي وإن قيده بمفهوم السلفية، من خلال سؤال السلطة التالي: هل في الإسلام أحكام ملزمة، تعين شكل الحكومة، أو تشير إلى هيكل النظام السياسي في الدولة؟
من هنا ينطلق الكاتب إلى التساؤل عن مفهوم «الإسلام» الذي يصفه بأنه النص الخالص المتمثل في القرآن الكريم والسنة «المصححة» –ليبتعد بوصف «المصححة» عن وصف «الصحيحة» الكلاسيكي الذي يدور حوله فهم أهل الحديث وتعريفهم للسنة– ثم ينتقل بعد ذلك إلى تعريف مفهوم «الإلزام» وهنا يدور الحديث في الجزء الأول.
في الحديث عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) :«ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم؛ فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شئ فاجتنبوه».
يعتمد الكاتب في طرحه وجود دائرتين في الإسلام من ناحية التشريع: دائرة الإلزام المبنية على النصوص القطعية الثبوت والدلالة والتي فصَل فيها الشارع الحلال والحرام، يقول تعالى : (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)، والدائرة الثانية هي دائرة الإباحة وهي الدائرة المسكوت عنها ولم يصدر فيها حكم بالحل أو الحرمة، وهي هنا أيضاً مثل الدائرة الأولى مبنية على النص؛ إذ أن سكوت النص عنها هو نص بالإحالة على إباحتها.
ومن هنا تثور الجدلية وينطلق الكاتب في نقده للعقل السلفي، متمحورًا حول القول بأن الشريعة الإسلامية هي شريعة نصية مستندة إلى النص الخالص، ولكن مع الزمن أوجدت تلك المنظومة الفكرية مصادر إضافية للتشريع كالإجماع والقياس وقول الصحابي وعمل أهل المدينة بدوافع مذهبية وسياسية وظفتها السلطة لصالحها، وجعلت من تلك المصادر التشريعية حجة على النص الإسلامي العام الذي يعتمد قيماً مطلقة كالحرية والمساواة والعدالة، وأعطت لها الحق في تخصيص ذلك العام، الأمر الذي أدى إلى تقليص دائرة المباح في الشريعة، وقدم لنا نسخة تاريخية وإقليمية للإسلام يتم طرحه من خلالها اليوم إلى العالم بعيدًا عن طرحه النقي الخالص في مبدأ الدعوة.
وعلى ضوء ذلك الطرح يقيِم الكاتب عدة مدارس فقه-فكرية في تاريخ الإسلام بالقرب من طرحه أو البعد عنه، وهي المنظومة السلفية والخوارج والشيعة والمعتزلة.
سُلطة الماضي في المنظومة السلفية
الملاحظ في تلك المنظومة بروز سمة أساسية وهي: سلطة الماضي الخبرية في مقابل الحرية والرأي. يورد «الطبري» في كتابه تاريخ الأمم والملوك حوارًا دار بن سيدنا عبد الرحمن بن عوف وسيدنا علي وسيدنا عثمان بعد مقتل سيدنا عمر (رضي الله عنهم) : «هل أنت يا علي مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ فقال: اللهم لا. ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، فالتفت إلى عثمان فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم».
من هنا نجد الإرهاص الأول في التاريخ الإسلامي لتوجه العقل المسلم إلى السلفية، فقد أورد سيدنا عبد الرحمن بن عوف إلى جانب المصدرين التشريعيين الممثلان للنص الخالص مصدرًا ثالثًا وهو فعل الشيخين، وإن كان من الممكن صرف ذلك الأمر لغرض غير تأصيلي لديه (رضي الله عنه) خاصة وأنه كما تورد كتب التاريخ طاف طرقات المدينة يأخذ برأي الناس في الأمر، إلا أنه يمثل نزوعا لدى العقل المسلم إلى تنصيب الماضي ليحكم حاضر مسائله وشئونه.
يورد ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين عن الشعبي قوله : «عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس. وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوها لك بالقول. وما حدثوك به عن أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) فخذه، وما حدثوك به عن رأيهم فانبذه في الحس». لقد كان ذلك النزوع إلى الماضي مستندًا لمفهوم «الخيرية»، لكننا هنا لسنا في مجال لقياس خيرية الأفراد، ولكننا بصدد التشريع والذي لا يثبت لمجرد الخيرية وإنما بمحض الوحي المنزل من عند الله (عز وجل).
على قول يبدو غير مفهوم للحظة الأولى، يقر الكاتب بأن المنظومة السلفية هو منظومة «لا نصية»؛ يعني أنها ابتعدت عن الاستقاء من النص الخالص للإسلام، واستندت في تأسيس بنيانها التشريعي إلى الفقه الذي هو نتيجة لاحتكاك النص بالواقع الإنساني في إطار الزمان والمكان، فهو إذن غير مرادف للنص المطلق.
ويبرز الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفي سنة 204 هـ كمحطة بارزة في تاريخ تلك المدرسة، فمن خلال كتابه «الرسالة» يرى الكاتب أنه تم تقنين «الإجماع» و«القياس» كمصادر تشريعية تتصف بالإلزامية والاستقلال، وهي الأدوات التي كانت تستخدم قبل الشافعي لكن ليس على أنها مصادر تشريعية بالصفات السابقة وإنما باعتبارها من أدوات الاجتهاد، إلا أن الشافعي قد حصر الاجتهاد في القياس وجعل الإجماع مساويا للخبر؛ يقول الشافعي في الرسالة: «كل ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أو على سبيل الحق فيه دلالة موجودة، وعليه (أي على المسلم) إذا كان فيه بعينه حكم اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه، طلب الدلالة على سبيل الحق فيه بالاجتهاد، والاجتهاد القياس».
لذا فعند غياب النص فليست النتيجة الضرورية هي الإباحة، ولكن يلزم استخدام القياس؛ وهو الأمر الذي يقلص من دائرة الإباحة لحساب دائرة الإلزام، ويرفع القياس إلى مرتبة النص في التشريع.
وقد تُبدي مدرسة الرأي التي قادها الإمام أبو حنيفة (من داخل المنظومة السلفية أيضا) محاولة للتفلت من سطوة الماضي التشريعية، حيث يقول أبو حنيفة: «إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته، فما لم أجده أخذت بسنة رسول الله والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات؛ فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة نبيه، أخذت بقول أصحابه من شئت، وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى إبراهيم والشعبي والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب، فلي أن أجتهد كما اجتهدوا».
كان أبو حنيفة يمارس الرأي من الداخل لكن بقدر من التعقل، فقد انتهج في وزن الحديث منهجًا عقلانيًا يحاكم متن الحديث بمدى توافقه مع القرآن والسنة المتواترة الثابتة بغض النظر عن سلسلة السند وقوتها إذا خالف المتن صحيح القرآن والسنة، مخالفًا بذلك منهج أهل الحديث.
بينما كان يمثل التيار الرئيسي في المنظومة نزوعًا نفسيًا ينفر من الرأي غير مقتصر في ذلك على الرأي «الفلسفي» المطلق الذي يأبى التقيد بمرجعية النص الإسلامي، بل كان ينفر أيضًا من ممن يمارس الرأي بمرجعية النص، وهو ما يفسر الموقف الرافض لأبي حنيفة، فليس في صحيح البخاري ومسلم حديث واحد مروي عنه، يقول ابن عبد البر في الانتقاء عن البخاري: «يجرح أبا حنيفة ويعده من الضعفاء المتروكين».
وكنتيجة طبيعية فقد كان أهل الحديث ولأنهم أصحاب الخبر الممثل لما مضى، كانوا هم ذوي السيادة في المدرسة السلفية وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل والذي كان ينفر من الفتوى فيما ليس فيه نص ولا خبر، وبدلاً من ذلك يلتمس الخبر ولو كان ضعيفًا كي لا يكون ثمة رأي، وهو بذلك يقدم الظني لكنه يتمتع وفقًا لمدرسة الشافعي بمرجعية النص.
الخوارج ورفض الأمر الواقع
نشأت الخوارج كفرقة سياسية عسكرية في المقام الأول وقت خروجهم على الإمام علي (كرم الله وجهه) في واقعة التحكيم بينه وبين معاوية (رضي الله عنه)، لقد كان النشوء سياسيًا في المقام الأول، ثم تلاه بعد ذلك التنظير الفكري الذي مع ما يحسب له من الاستقاء المباشر من النص الخالص إلا إنه اتسم بسذاجة وسطحية شديدة في التناول، الأمر الذي قد يعود للطبيعة البدوية الأعرابية التي ميزت غالبيتهم.
ظلت الصفة السياسية ملازمة للخوارج لفترة طويلة حيث استنفذ تاريخهم في الخروج بداية من علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ومرورًا بالدولة الأموية، ثم انتهاءً بالدولة العباسية التي استطاعت أن تستأصل شأفتهم إلا قليلًا ممن بقى منهم وأسس المذهب الإباضي الذي مازال قائمًا في عُمان وحضر موت.
يرفض الخوارج «الإجماع» باعتباره إجماع أهل السنة والجماعة الذين رضوا بالأمر الواقع من حكم معاوية ومن بعده بني أمية، كما ينفي الخوارج أيضًا شرط «القرشية» في الإمامة باعتباره مناقضًا لمبادئ العدل والمساواة التي أقرها الإسلام ويستدلون بقوله تعالي: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل…»، فالله سبحانه وتعالى لم يختص قبيلة أو نسلًا معينا بالحكم في الإسلام، على خلاف أهل السنة الذين يستندون في القضية لحديث أبي بكر – رضي الله عنه- في السقيفة «الأئمة من قريش»، وهو ما سنتعرض له لاحقا.
كما كانت قضية الخروج على الحاكم الظالم هي العلامة المميزة للفكر الخارجي، ما حدا ببعض المستشرقين أن يطلق عليهم «كلافنة الإسلام» نظرًا للتشابه مع إحدى حركات الإصلاح البروتستانتية التي ترى وجوب خلع الحاكم إذا خالف الأحكام الإلهية، وبهذا خالف الخوارج ما انتشر في معظم التيار السلفي الذي حبذ الصبر على الحكام وانتظار الهداية لهم من الله، وذلك انطلاقًا من انصياع السلف لأمراء الجور من بني أمية ومن أتى بعدهم، الأمر الذي يعد تأسيسًا غريبًا على الإسلام يكرس لسلطة الأمر الواقع، بل ويصبغ الموقف بصبغة شرعية تلزم من أتى بعدها؛ هذا هو ما حدد الفارق في العلاقة بين الخوارج وموقفهم من النص، فهم يرون النص سابقا على الواقع ومؤسسا له، وهو ما ينتصر له العقل السليم كمنهجية في التشريع برغم ما أنتجه الخوارج من نتائج فقهية غريبة ساروا عليها.
الشيعة وباب الاجتهاد
لم تظهر الشيعة كما نعرفها الآن كطائفة دينية وفكرية في لحظة تاريخية واحدة، فقد بدأ التشكل مع «الانفجار السياسي الأول» كما يسمى الكاتب «الفتنة»؛ فقد تكونت أيضًا كفرقة سياسية تناصر عليًا (كرم الله وجهه) ثم راحت بعد ذلك تضع نصوص الوصية محاججة بأحقية عليّ في الخلافة ورفض خلافة أبي بكر وعمر وعثمان (رضي الله عنهم).
وعلى مر الزمن وأمام القهر الدموي الأموي الذي مورس ضد المخالفين فكريا وسياسيا، الذي كان أحد الأسباب الرئيسية في انحراف تلك الطائفة وتبنيها لنظريات مخالفة في العقائد والأصول تولدت مفاهيم مثل الإمامة لدى الشيعة الإمامية، والتي ترفع الإمام إلى مرتبة كمرتبة النبي، ووفقا لهذا فإن النص الخالص متمثلاً في الوحي لم ينقطع بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، بل استمر حتى حدوث الغيبة لآخر الأئمة الاثنى عشر «محمد ابن الحسن» سنة 325هـ، فاستندوا إلى تنصيص لاحق ومتجدد يبرر المذهب على أيدي الأئمة الذين وضعوا النصوص، ولم يكتفوا بذلك بل قالوا في القرآن بالظاهر والباطن خارجين بتأويلات جديدة للنص خلاف ما وضعوه من أساسه.
إن الناظر للفكر الشيعي يلاحظ نزوعًا لا عقليًا يشير إلى طور قبل قرآني مليء بالخرافة والأساطير. يورد الشهرستاني في «الملل والنحل» قولهم عن محمد بن الحنفية: «وإنه في جبل رضوى بين أسد ونمر يحفظانه، وعنده عينان نضاحتان تجريان بماء وعسل، ويعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورًا»، الأمر الذي حدا بمستشرق مثل ماسينون أن يقول :«إن الغلاة من الشيعة الأولى من شيعة الكوفة قد اطلعوا على نصوص هرمسية».
ووفقا لنظرية الإمامة، فإن دائرة النص التي ينبني عليها التشريع تتسع على مدى الزمن حتى عام325 هـ، فذلك نص خالص قد أغنى الشيعة «الإمامية» عن الاحتكام لأدوات أهل السنة، فهم يأخذون الأحكام مشافهة من أئمة الهدى.
بعد غياب الإمام وانقطاع النص التشريعي الشيعي لم يُبد العقل الشيعي تقيدًا سلفيًا بمن سبقه من الأئمة والعلماء، بل فتح باب الاجتهاد ومارس عقلانية متحررة، ولكن هذا الأمر لم يخلص الفكر الشيعي مما اكتنفه من أفكار غنوصية باطنية كالإمامة والغيبة والرجعة، وإذا ما قارنا الفقه الإمامي بكل ما احتواه من فكر أسطوري مع ذلك المنزع العقلي، لم يتبق في الفكر الشيعي الإمامي شيء إلا الخرافة.
على خلاف الشيعة الزيدية الذين استندوا للنص القرآني وفقًا لمفهومنا السني، لكنهم فتحوا باب الاجتهاد، الأمر الذي نرجعه لتتلمذ «زيد بن علي زين العابدين» على يد «واصل بن عطاء» إمام المعتزلة، مع قول الأخير بخطأ أحد الفريقين يوم الجمل وهو الأمر الذي استفظعه محمد الباقر في مناظرة بينه وبين أخيه زيد، فكيف لزيد أن يقتبس العلم ممن يجعل الخطأ على جده جائزًا، ويتكلم في مسألة القدر على خلاف ما ذهب إليه آل البيت، وهو موقف إسلامي صحيح من حيث المنهج والموضوع.
ولم يكن ذلك النهج الزيدي قاصرا على الانطلاقة الأولى للشيعة الزيدية؛ فقد ذهب الشوكاني وهو أحد أعلام المذهب المتأخرين المتوفي سنة 1250هـ،ـ إلى القول الآتي: «إنك إن قلدت إماما أو واحدا من العلماء، فقد جعلته مشرعا، مع أنه ليس للرسل أنفسهم إلا البلاغ عن الله فيما شرعه لهم، فكيف بحال غيرهم ممن لم يجعلهم الله من أهل العصمة سواء من الصحابة أو من تابعيهم من أئمة المذاهب، وإن زعم لواحد من هؤلاء أن يُحدث في شرع الله فقد أعظم الفرية على الله، لأن هذه رتبة لا تكون إلا لله فمن ادعاها لغيره تصريحا أو تلميحا فقد أدخل نفسه في باب من أبواب الشرك».
المعتزلة كمنهج فكري
إن قراءة المعتزلة كفكر عقدي ومنهج عقلي لا يمكن فصله عن الواقع الذي أنشأه وتفاعل معه، تلك الحالة المزدوجة التي تلبست الطائفة تارة كضحية على مستوى المنهج العقلي خسره العقل الإسلامي، وتارة كمجرم موضوعي تمثل السلطة قامعا ذلك النهج العقلي في موقف آخر.
على خلاف ما سبقها من الفرق؛ كانت النشأة المعتزلية نشأة فكرية دخلت إلى العقل الإسلامي من مفهوم «القدر» ومسئولية الإنسان عن أفعاله، وهو الأمر الذي نورد بشأنه حادثة تظهر الجدل الفكري ذا الطبيعة السياسية بين الجبرية والقدرية، ففي أول ولاية «عبد الملك بن مروان» قتل «عمرو بن سعيد» أحد منافسيه على السلطة، فقتله عبد الملك ورمى برأسه لأصحابه ومنادي عبد الملك يقول: «إن أمير المؤمنين قد قتل صاحبكم بما كان من القضاء السابق والأمر النافذ»، وفي نفس الوقت كان أناس كـ «معبد الجهني» و«عطاء بن يسار» يأتيان الحسن البصري فيسألانه: «يا أبا الحسن؛ إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال، ويقولون إنما تجري أعمالنا على قدر الله، قال الحسن: كذب أعداء الله».
ومن هنا استشعر بنو أمية خطر القول بأن العباد مختارون لأفعالهم، فانطلقت المعارك بالسيف والفقه في مواجهة من يقولون بهذا، ومن هنا انطلق المعتزلة بنهج عقلي على خلاف نقل السلف في الدفاع عن مقولاتهم، الأمر الذي كان بالمقام الأول استجابة لتحدي السلطة التي ظل المعتزلة في خلاف معها طوال حكم الدولة الأموية إلا في برهة زمنية قصيرة كانت ولاية «عمر بن عبد العزيز» 99هـ، الذي رأوا أنه جاء على خلاف ما سار عليه بنو أمية، ثم «يزيد بن الوليد» 126هـ الذي كان معتزليا.
تتمثل علاقة المعتزلة بالنص في الإسلام في عبارة الجاحظ: «وإنما نقول في ذلك إن عظم حق البلدة (يقصد عمل أهل المدينة) لا يحل شيئا ولا يحرمه، وإنما يُعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق، والسنة المجمع عليها، والعقول الصحيحة».
بالنظر للمقابل الجدلي للمعتزلة وهو أهل الحديث، فلابد من إلقاء النظر على تعامل المعتزلة مع السنة، لقد أعمل المعتزلة العقل والآلة النقدية في محاكمة متن الحديث لمدى توافقه مع معقول الدين ومتواتر السمع متجاوزين في ذلك منهج أهل الحديث الذي يتمحور حول المحاكمة الإسنادية، بل لقد طبقوا أيضا منهجا نقديا تاريخيا في نقد الروايات، حيث قرأوها في ظل ملابساتها الظرفية لحظة وقوعها ولحظة تدوينها.
لكن مع تلك العقلانية المتحررة من سلفية التشريع، لم يتمكن المعتزلة من الفرار من نهج السلطة القمعي تجاه المخالفين، وذلك أثناء حكم الخلفاء العباسيين المأمون والمعتصم والواثق من عام 198هـ إلى 232هـ، والذين كانوا معتزليين أرغموا الناس على القول بخلق القرآن وعلى تبني آراء المعتزلة في العقائد، مبررين الأمر بتعلق الأمر بالتوحيد الذي يرونه من اختصاص الحاكم المسلم في تصحيح العقائد الفاسدة.
بطبيعة الحال لا يمكننا أن نفصل الأمر عن طبيعة السلطة المناقضة للحرية، فقد كان المأمون والمعتصم والواثق خلفاء قبل أن يكونوا معتزليين، لكن المحصلة أن عقلانية المعتزلة في حل مشكلة السلطة الإسلامية التاريخية وعلاقتها بالحرية لم تقدم جديدا، وكمقابل لتلك الحملة وبسبب الإمعان في ممارسات القمع، كرست المناخ للجمود العقلي الذي تبناه أهل الحديث كموقف فكري مناقض لفكر السلطة، فكر المعتزلة.
إن النظر للمعتزلة كمنهج فكري، وطريقة عقلية منطقية في استنباط الأحكام من النص الديني الخالص، هو ما كان على العقل التشريعي الإسلامي أن يتمسك به، بعيدا عن القضايا الكلامية التي خاض فيها المعتزلة والتي يتسع النص لاستيعابها حيث كان منه منطلقهم، كما يجب أن نفهم أيضاً نشأة الاعتزال في إطار محيطه السياسي والتاريخي كرد فعل على السلطة الأموية التي وظفت النص لخدمة شرعيتها السياسية، متلبسة بذلك رداءً أشبه ما يكون بالثيوقراطية التي لازمت أنظمة الحكم في العصور الوسطى، حيث كان الطعن في النظام السياسي هو طعن في النظرية السياسية في الحكم، والتي زعم الأمويون ومن جاء بعدهم أنها تشريع ديني أقره الإسلام.