النمسا على المحك: اليمين المتطرف على أعتاب الرئاسة
جاءت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية النمساوية مفاجئة بل وصادمة للكثيرين، حيث تصدر النتائج مرشح حزب الحرية نوربرت هوفر، أحد أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، بنسبة 36% من إجمالي الأصوات، يليه المرشح المستقل المدعوم من حزب الخضر ألكسندر فان دير بيلين بنسبة 20%، في حين غاب ولأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية الحزبان الرئيسيان في النمسا: حزب الشعب، والحزب الديمقراطي الاجتماعي، عن جولة الإعادة المزمع عقدها في 22 مايو.تطرح هذه النتائج العديد من التساؤلات حول أسباب الصعود المتزايد للأحزاب المتطرفة عموما، وأحزاب اليمين على وجه الخصوص، في أوروبا، ومدى ارتباط ذلك بغلبة الطابع القومي على الطابع الأوروبي، وتأثير ذلك على تعميق التكامل الأوروبي، والأهم: انعكاسات ذلك على سياسات الهجرة التي أصبحت الشغل الشاغل للأوروبيين .
حزب الحرية؛ كيف كان الصعود؟
أسباب اقتصادية
تأتي الأزمة الاقتصادية التي يمر بها الاتحاد الأوروبي سببا قويا للصعود اليميني في أنحاء القارة. فما زالت منطقة اليورو تئن تحت وطأة معدلات النمو الهزيلة والأزمة اليونانية وانخفاض معدلات التضخم لما دون الـ 2%. بالطبع لم يتوان اليمينيون في استخدام ذلك في رفع أسهمهم؛ فنجد أن هوفر قد صرح في أكثر من مناسبة أن النمسا تدفع أكثر مما تأخذ من الاتحاد الأوروبي، بل وأشار في أكثر من مناسبة إلى امتعاضه من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا.
أبعاد أمنية
إن التكلفة الاقتصادية للمهاجرين ليست السبب الوحيد لحالة الرفض الشعبي لاستقبال المهاجرين وتوجه الناخبين إلى اليمين المتطرف. فالبعد الأمني حاضر وبقوة خصوصا بعد العمليات الإرهابية الأخيرة في كل من فرنسا وبلجيكا.ولعل المتابع لتصريحات قيادات اليمين المتطرف بعد كل عملية إرهابية يجد استغلالا واضحًا للإخفاقات الأمنية لتحقيق مكاسب انتخابية وجذب مزيد من الجماهير إلى أفكار وسياسات اليمين المتطرف الانعزالية. وكان تصريح ماريون ماريشال لو بان سليلة عائلة لو بن التي أسست وتقود حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في فرنسا بأن «المسلمين لا يمكن أن يحتلوا نفس مرتبة الكاثوليك الفرنسيين» هو الأكثر عنصرية وتطرفا عقب الأعمال الإرهابية التي وقعت ببلجيكا.
سياسات الهجرة
تعد مسألة الهجرة من أهم أسباب صعود حزب الحرية المفاجئ وتسيُّده الساحة السياسية النمساوية. فقد فاقمت أزمة المهاجرين من التداعيات السلبية للعاملين الاقتصادي والأمني ناهيك عن العامل الثقافي. فالنمسا تلقت ما يقارب من 90 ألف طلب هجرة مما يجعلها في المركز الثاني في عدد طلبات الهجره نسبة إلى عدد السكان. ففي بداية أزمة المهاجرين سلكت الحكومة النمساوية سلوك نظيرتها الألمانية من حيث المرونة في استقبال اللاجئين ورعايتهم، إلا أنه ومع تدفق عشرات الآلاف من المهاجرين، ومع عدم قدرة المؤسسات النمساوية على استيعاب هذا الكم من المهاجرين وارتفاع التذمر الشعبي، غيَّرت الحكومة النمساوية موقفها إلى النقيض حيث أغلقت ما عرف مجازا باسم « طريق البلقان» في وجه المهاجرين، كما رفضت نظام حصص المهاجرين الذي كانت ألمانيا تدفع به لتوزيع المهاجرين على جميع دول أوروبا وشددت من إجراءتها الأمنية على الحدود بل وأغلقت حدودها مع بلغاريا.لكن وعلى الرغم من تحول الحكومة النمساوية إلى التشدد في سياستها للهجرة، إلا أن أزمة الهجرة كانت فرصة ذهبية لليمين المتطرف متمثلا في حزب الحرية. فقد هاجم بشدة تدفق المهاجرين إلى النمسا واستخدم الأمر لإثبات فشل سياسات الائتلاف الحاكم. ففي إحدى حملاته الانتخابيه شدد هوفر على عدم قدرة النمسا على استيعاب المزيد من المهاجرين قائلًا: «نحن لسنا قسم الشئون الاجتماعية للعالم»، كما انتقد بشدة التنازلات التي قدمتها المستشارة الالمانية أنجيلا ميركل إلى تركيا للوصول الى اتفاق للهجرة، كما أنه صرح بأن الإسلام لا يمكن أن يكون جزءًا من الثقافة النمساوية.
أسباب أيديولوجية
يتمثل ذلك في غياب اليسار وعدم قدرته على تطوير أفكاره، وتراجع الديمقراطيين الاجتماعيين، مما أنتج فراغًا ضخمًا استطاع اليمين أن يشغله بسهوله. فنجد أن اليساريين والديمقراطيين الاجتماعيين اعتمدوا على استدعاء الماضي النازي والدموي لأحزاب اليمين المتطرف إلا أن ذلك لم يكن كافيًا لكبح صعود اليمين، فما زال اليسار عاجزا عن طرح رؤية متكاملة وواقعية قادره على إقناع المواطن الأوروبي عموما والنمساوي على وجه الخصوص بأنه قادر على التعامل مع المشكلات الآنية التي تواجهه.
النتائج المتوقعة لصعود اليمين المتطرف
إذا ما جاءت الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية النمساوية مطابقة لنتائج الجولة الأولى، فمن المتوقع أن ترفض النمسا تماما اتفاق الحصص الأوروبية.
ليس هناك شك في أن نتائج الانتخابات الرئاسية النمساوية سيكون لها تأثير قوي على السياسات الأوروبية عامة، وسياسة الهجرة بوجه خاص. يدعم ذلك من ناحية الخطاب اليميني المتطرف والمعلن حيال المهاجرين، ومن ناحية أخرى الأزمات الاقتصادية والأمنية، بل والسياسية التي تعصف بكيان الاتحاد الأوروبي. إذا ما جاءت الجولة الثانية للانتخابات الرئاسية النمساوية مطابقة لنتائج الجولة الأولى فإنه من المتوقع على الصعيد الداخلي أن ترفض النمسا تماما اتفاق الحصص الأوروبية وأن تنتهج سياسات أمنية صارمة في التعامل مع المهاجرين، وأن تنتهج سياسات اقتصادية تضع المصلحة النمساوية فوق أي اعتبار آخر حتى لو تعارض ذلك مع التزامات النمسا الأوروبية.على صعيد العلاقات الخارجية، فمن المتوقع أن يحدث نوع من التقارب مع الدب الروسي؛ فلليمين الأوروبي علاقات متفردة مع النظام الروسي. الدليل على ذلك ظهور إعلامي ممنهج لليمين الأوروبي في الإعلام الروسي، وزيارات متبادلة بين المسئولين في هذه الأحزاب ومسئولين روس، دعوات لهذه الاحزاب للإشراف على الانتخابات في روسيا والدول التي تدور في فلكها، وأخيرًا دعم نقدي مباشر، لعل أبرز مثال له القرض الذي حصل عليه حزب الجبهة الوطنية الفرنسي من أحد البنوك الروسية والمقدَّر بـ 9 مليون يورو.
من المتوقع أن يحدث نوع من التقارب مع الدب الروسي؛ فلليمين الأوروبي علاقات متفردة مع النظام الروسي.
على صعيد التكامل الأوروبي فالاتحاد الأوروبي الآن يواجه عدة تحديات في آن واحد: أزمة مهاجرين معقدة وذات أبعاد متعددة، واستفتاء بريطاني مصيري على البقاء أو الخروج من الاتحاد خلال أسابيع وما له من تأثيرات مباشرة على حالة الاتحاد وأزمات اقتصادية هيكلية، ما زالت بعيدة عن الحل، وأزمة يونانية متجددة مع الخلاف على بعض الإجراءات التقشفية. وفوق ذلك كله، يمين متطرف صاعد لا يؤمن بالتكامل الأوروبي ويعتمد على استغلال هذه الأزمات لكسب المعارك الانتخابية . ومن ثم فإنه من المتوقع ومع الصعود اليميني في عدة دول أوروبية منها دول ذات ثقل كبير مثل فرنسا، أن يعوق ذلك عملية تعميق التكامل الاوربي، بل ومن المتوقع أن تعلو الأصوات القومية فوق نظيرتها التكامليه ولعل استطلاع «يوروباروميتر» الأخير، والذي أشار إلى أن 26% فقط من النمساويين يثقون في الاتحاد الأوروبي، هو خير دليل.