اغتيال «شينزو آبي»: كيف قتلت اليابان مُنقذها؟
رصاصتان أطلقهما رجل اندس وسط حشد من أنصاره كتبتا الصفحة الأخيرة لحياة شينزو آبي. أفاق العالم يوم الجمعة 8 يوليو/ تموز 2022 على خبر اغتيال أطول رؤساء وزراء اليابان حكمًا. وبجانب هذا اللقب فإن شينزو يُعتبر منقذ اليابان من كبوتها بعد الهزيمة الأليمة في الحرب العالمية الثانية.
إطلاق النار أردى آبي مضرجًا في دمائه بين أنصاره. ليُنقل بعدها جوًّا إلى المستشفى في مدينة كاشيهار. لكن بعد ساعات قلائل أعلن التلفزيون الياباني وفاة الرجل عن عمر يُناهز 67 عامًا. إثر إصابة مباشرة في القلب، وما نتج عنها من نزيف هائل. ليكون بذلك آبي أول رئيس وزراء يتم اغتياله منذ 90 عامًا.
اللقطات أظهرت كذلك أفراد الأمن ينقضون على رجل يحمل مسدسًا يدوي الصنع. تُعتبر اليابان من أكثر الدول أمانًا في العالم، ومن أشدها مراقبة وصرامة ضد حيازة السلاح، لهذا كان من المنطقي أن يحمل المنفذ سلاحًا مصنوعًا بشكل يدوي، مكونًا من أنابيب وشريط لاصق وخشب ومكونات متفجرة مختلفة.
وبعد بضع ساعات خرج النبأ الرسمي باعتقال تيتسويا ياماغامي، 41 عامًا، بتهمة اغتيال آبي. وقال الرجل إنه كان حانقًا على آبي، ويشعر بالاستياء تجاهه، لهذا قرر قتله. مُنفذ الجريمة خدم سابقًا في قوات الدفاع الذاتي اليابانية البحرية لمدة 3 سنوات.
استقالة بعد عام واحد
آبي تولى منصب رئيس الوزراء للمرة الأولى عام 2006. ليكتسب حينها لقبًا إضافيًّا كونه أصغر من يتولى ذلك المنصب منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. كان عمره وقتها 51 عامًا، لكن اعتبرت الصحف العالمية ذلك انتصارًا لصالح الشباب.
لكن المفاجأة أن الرجل لم يمضِ في الحكم سوى عام واحد واضطر للاستقالة. الاستقالة ربما جاءت على إثر فضيحة سياسية لحزبه الليبرالي بسبب فقد سجلات متعلقة بمعاشات التقاعد، ما أدى لتكبد الحزب خسارة مدوية في الانتخابات.
تولى الحكومة بعده الحزب الديموقراطي، المنافس التقليدي لحزب آبي. وظل الحزب الديموقراطي في الحكم 6 سنوات، حدثت في نهايتها كارثة فوكوشيما النووية. والأخطر من تلك الكارثة أن اليابان فقدت مرتبتها المميزة كأكبر اقتصاد في آسيا. لهذا انتخب اليابانيون آبي مرة أخرى عام 2012. وظل في الحكم حتى عام 2020، إذ تنازل هو عن البقاء في المنصب لظروف صحية.
المرة الثانية كانت أفضل لآبي، فقد بدا واثقًا أكثر، ويمتلك استراتيجية أكثر تماسكًا. فبمجرد فوزه أطلق الرجل استراتيجيته الاقتصادية تحت اسم آبينوميكس. وهو مصطلح منحوت من آبي وإكونوميكس، ويعني السياسات الاقتصادية التي يؤيدها آبي.
كانت الاستراتيجية قائمة على التيسير النقدي والتحفيز المالي والإصلاحات الهيكلية. جعلت تلك الاستراتيجية الاقتصاد الياباني أقوى، وأعادت اليابان لموقعها المتميز في اقتصاديات آسيا. على الرغم من نجاحها فإن استراتيجيته لم تحقق كل ما وعدت به، بسبب الجائحة الوبائية التي هزت اقتصاد جميع الدول. وبسبب أن أولمبياد طوكيو 2020 جرى تأجيلها أيضًا بسبب الجائحة.
يجيد الرقص في حقل ألغام
أخذ عليه منتقدوه أن استجابته للجائحة كانت بطيئة ومرتبكة، وهو ما جعل شعبيته تهبط لأدنى مستوياتها. ربما كان ذلك سببًا في تنحيه عن منصبه قبل عام كامل من تاريخ نهاية فترته. لم تؤدِّ الاستقالة إلى ضعف هيمنته على حزبه. بل ظل الرجل حاضرًا في محافل الحزب الليبرالي، ومهيمنًا على قراراته.
آبي استطاع أن يمارس السياسة بشكل متوازن، فقد حافظ على علاقات متينة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكنه في الوقت نفسه مد جسور التعاون لأول مرة مع إيران. كما اتخذ موقفًا حازمًا تجاه كوريا الشمالية، لكنه اتخذ مواقف دبلوماسية مع جارتها الجنوبية والصين.
غير أن ذلك لم يُخفِ التوتر البادي على جيرانه من قراره بتغيير عقيدة الجيش الياباني من الدفاع إلى ضرورة القتال في الخارج، والهجوم إذا لزم الأمر. فقد بدأت اليابان في القفز على المرتبة العالمية الخاصة بالتسليح. فقد كانت اليابان تحتل المرتبة 17 بين دول العالم، لكن بعد عام واحد فقط من توليه المنصب قفزت إلى المرتبة العاشرة. وفي عام 2018 قفزت إلى المرتبة الثامنة. وكل تلك القفزات كانت تعتبر شبه مخالفة للدستور الياباني الذي يقيد عمليات التطوير الكبيرة للترسانة العسكرية.
لكن آبي كان يعتمد على المناورة بأن ما ينفقه على السلاح لا يتجاوز 1% فقط من الناتج الإجمالي العام. وهي نسبة ثابتة لم يزدها الرجل، لكن الطفرة الاقتصادية جعلت قيمتها المالية تزداد فحسب. لكن في مايو/ آيار 2017 أعلن آبي أنه يعتزم إلغاء المادة التاسعة من الدستور الياباني، والتي تقيد امتلاك أسلحة أو تطوير قدرات هجومية لليابان.
جده ملك الصين وكوريا
خبرة آبي السياسية لم تأتِ من تجاربه الخاصة في المضمار السياسي فحسب، فالرجل سليل عائلة سياسية عريقة. آبي، المولود في طوكيو عام 1954، هو ابن شينتارو آبي، الذي كان يشغل منصب كبير موظفي مجلس الوزراء، وهو ثاني أقوى منصب في اليابان. كما أن جده نوبوسوكه كيشي شغل منصب رئيس وزراء اليابان مرتين. واعتُبر جده ملكًا اقتصاديًّا للصين وكوريا.
تخرج آبي الابن من جامعة سيكي اليابانية، حاصلًا على بكالريوس في العلوم السياسية والإدارة العامة. وانتقل بعدها إلى كاليفورنيا في الولايات المتحدة لدراسة السياسة عامة. رغم ذلك فقد بدأ عمله في شركة حديد وصلب بعيدًا عن السياسة تمامًا، إلا أنه استطاع عبر علاقاته فيها أن يدخل إلى البرلمان الياباني عام 1993. ومنذ تلك اللحظة ونجم الشاب الواعد أخذ في الازدهار. فبدأ الصعود في المناصب داخل حزبه حتى وصل إلى قيادته عام 2006.
لكن كما خطف آبي الأنظار طوال حياته، أتى حادث اغتياله ليُحدث مفاجأة في العالم أجمع. فرئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، قال إنه شعر بالحزن لهذا الهجوم الخسيس. وعلقت الولايات المتحدة بأنها تشعر بالقلق لما يمكن أن يُسفر عنه هذا الحادث. وصُدم ماكرون من هذا الهجوم الشنيع. وغالب دول الاتحاد الأوروبي عبرت عن أسفها لهذا الهجوم الجبان.
لكن يبدو أن حزب آبي قد استطاع لملمة شتاته سريعًا، فانتخابات مجلس الشيوخ سوف تُجرى بعد بضعة أيام. ويتوقع أن يكون للحزب الليبرالي نصيب الأسد فيها، لذا فالحزب يطمح إلى استمرار سياسات آبي، حتى لو اختفى جسد الرجل من المشهد.