اغتيال الصحفيين: سياسة «إسرائيل» لبناء جدار عزل إعلامي
وقف السياسي الروماني لوكيوس سينيكا يحث أبناء شعبه وجنوده على قمع تمرد قرطاجة، موضحًا لهم ماذا يريد منهم بالضبط. قال: لا تحاربوا المتمردين فقط، لا تقتلوا المتمردين فحسب. بل يجب أن تدمروا كل حجر يحمل أسماءهم. فتتوا كل جدار معبد يحمل ذكراهم. أحرقوا مدينتهم، حوِّلوها لرماد، ثم انثروا الرماد في البحر والجو. كل من يُردد أسماءهم اقطعوا لسانه، كل من يروي قصتهم يجب أن تُفقأ عينه، يجب أن تُمحى قصتهم، ليتعلموا أن من يحارب روما لا يُهزم فحسب، بل يُمحى ذكره من التاريخ للأبد.
هكذا رأى سينيكا الأمر، وهكذا يراه الجبابرة من بعده، السلاح مخيف، لكن الذاكرة مرعبة. تراكم ذكريات التمرد وتناقل قصص الفظائع يخلقان رمادًا كثيفًا ما يلبث أن يشتعل مع أول شرارة، ومع أبسط حدث. لهذا حرص كل احتلال على محو ذاكرة من يحتلهم، وعلى رأس كل احتلال توجد إسرائيل، وعلى قمة الجرائم الرامية لمحو الذاكرة الجمعية تجد قتل الصحافيين.
الصحافة التي تحمي الماضي، وتحكي الحاضر، فتصنع المستقبل. يلتف المقهورون حول المراسل الصحفي يلتقطون الصورة من بين نثار كلماته، يدمعون من هول المشهد الذي ينقله، يشعرون بالحنق تجاه الواقع الذي يرويه. فالصحافيون يخلقون ذاكرةً جمعيةً للأمم، تعرِّفهم قضيتهم، تجعلها يقظةً في ذهنهم بشكل متكرر.
لهذا تحرص إسرائيل على قتل الصحافيين، مخالفة بذلك جميع الأعراف والقواعد الدولية والإنسانية. لكن إسرائيل لا تبالي؛ لأن الأمر في سياستها ليس مجرد قتل لشاهد عيان، فالكاميرا شاهد عيان، لكنه قتل للتاريخ، بتر يد المؤرخ، وقطع لسان الراوي، فلا تصل القصة للجيل التالي، فيصبح مبرر المقاومة ضبابيًّا، وتخف حدة الغضب. ولم تكن شيرين أبو عاقلة أول من أراد الاحتلال إخراسها، ولن تكون الأخيرة.
غير مسموح بالدرع أو الخوذة
في فجر 21 مايو/ آيار عام 2021 انتهت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بعد قصف وحشي استمر أحد عشر يومًا. فأقام المكتب الإعلامي في غزة معرض شاهد على الجريمة، في وسط ساحة الجندي المجهول. ففي الأيام الأحد عشر قامت إسرائيل بـ 96 اعتداء طال الصحافيين فقط، من مهاجمتهم مباشرة إلى مهاجمة مقار عملهم أو منازلهم أو تهديد ذويهم.
فيوسف أبو حسين، صحفي في إذاعة الأقصى المحلية، ارتقى شهيدًا جراء صاروخ استهدفه داخل منزله في حي الشيخ رضوان. وأصابت القوات الإسرائيلية 12 صاحفيًّا آخر بإصابات متفرقة منعتهم من التواجد لفترة طويلة في أماكن عملهم ومن تغطية الأحداث.
كذلك حرصت المقاتلات الإسرائيلية على تدمير برج الجلاء الذي يضم مقر شبكة الجزيرة القطرية، ووكالة أسوشيتيد برس الأمريكية. وألحقت به برج الشروق الذي يضم مقار شركات تلفزيونية محلية وبعض الإذاعات العربية. كل تلك الانتهاكات وإسرائيل تعلم أنها فوق القانون، محصنةً من المساءلة. وفي قطاع غزة تحديدًا تحرص إسرائيل على عدم دخول أدوات الوقاية اللازمة للمراسل الصحفي، الدرع والخوذة. كي تتذرع بأنها لم تستطع تمييز الصحفي من المقاومين، وكي تكون فرصة قتله أسهل.
كذلك وثقت مقاطع الفيديو اعتداء إسرائيل على مراسلي صحف أجنبية مثل سي إن إن، كما حدث مع بن ويدمان. واعتدت قوات الاحتلال بالضرب على الصحفية الفلسطينية لطيفة عبد اللطيف، ونزعوا عنها حجابها، وسحلوا عددًا من الشباب الذين حاولوا الدفاع عنها. وتعرَّض الصحافي حسين شعلان إلى 3 اعتداءات بالغاز المسيل للدموع خلال 48 ساعة وهو يحاول تغطية أحداث الشيخ جراح.
راشيل لا تساوي دولارًا واحدًا
المنع من التغطية عبر التضييق الأمني، أو الغاز المسيل للدموع، يعتبر أهون ما تفعله قوات الاحتلال الإسرائيلي في حق الصحافيين؛ لأن سلاحها الأبرز في إسكات الأصوات الإعلامية هو الاغتيال، وفي الغالب ليس اغتيالًا سريًّا أو بخطط معقدة، بل اغتيال بدم بارد وعلى الهواء مباشرة.
في عام 2014 قتلت إسرائيل الصحافي عبد الله المرتجي بقصف حي الشجاعية. كما قتلت إسرائيل في نفس العام المصور الإيطالي لوكالة أسوشيتيد برس سيموني كاميلي. كان كاميلي رفقة الصحافي الفلسطيني علي أبو عفش، وارتقا الاثنان جراء انفجار صاروخ إسرائيلي. وفي نفس العام دمرت إسرائيل برج الباشا الذي يضم عددًا من المقار الإذاعية والإعلامية. ما يعني أن شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب شهدا وحدهما استشهاد 16 صحافيًّا برصاص إسرائيلي مباشر.
في عام 2021 قتلت إسرائيل باغتيال مباشر 3 صحافيين، محمد شاهين، وعبد الحميد الكولك، ويوسف محمد أبو حسين. وإجمالًا فقد قتل الاحتلال 55 صحافيًّا منذ انتفاضة الأقصى عام 2000. ويقبع في سجون الاحتلال قرابة 16 صحافيًّا، على رأسهم الصحافي محمود العيسى المعتقل منذ عام 1993. والصحافية بشرى الطويل التي اُعتقلت قرابة 6 مرات.
وتمتلك إسرائيل تغطية سياسية لما تفعل، فأعضاء الكنيست الإسرائيلي يشجعون ما يحدث. بن غفير، عضو الكنيست، يؤيد إطلاق النار على كل صحافي يعيق عمل القوات الإسرائيلية. وحتى القضاء الإسرائيلي الذي تتوجه له الدعوات حاليًّا للمطالبة بفتح تحقيق شامل في قتل شيرين أبو عاقلة، يوافق على ما تقوم به قواته.
ففي عام 2012 برأت محكمة إسرائيلية الكيان الإسرائيلي من جميع الأضرار التي حدثت نتيجة قتل الناشطة الأمريكية راشيل كوري. راشيل سحقتها جرَّافة إسرائيلية عام 2003 حين كانت تتضامن مع مجموعة من الفلسطينيين في مدينة رفح بقطاع غزة. وفي بيان المحكمة جاء أنه لا إهمال من قبل سائق الجرَّافة، ولا وجود لإهمال من جانب الجيش الإسرائيلي كذلك. ورفضت المحكمة دفع التعويض الذي طلبه أهلها، وكان قدره دولارًا أمريكيًّا واحدًا فقط لا غير، تعويض رمزي أرادت به العائلة انتزاع اعتراف فقط أن ابنتهم قُتلت عمدًا.
55 صحافيًّا قتلوا لأجل العزل الرقمي
الصحافي معاذ عمارنة فقد عينه اليسرى بعد إصابته برصاص الجيش الإسرائيلي عام 2018 جراء تغطيته لمسيرات العودة في قطاع غزة. أما نضال اشتية فقد أصيب برصاصة معدنية في عينه اليسرى أيضًا عام 2015 خلال تغطية مواجهات قرب نابلس.
تلك الإجراءات الإسرائيلية، وفيها حتى محاولات لوأد الصحافة الحديثة المعتمدة على مجرد نقل الخبر ولو عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ومحاولة خلق جدار فصل رقمي يعزل فلسطين عن بقية العالم. سواء بالدعاية للرواية الإسرائيلية للأحداث، أو بحذف المنشورات والمقالات التي تنقل الواقع الفلسطيني.
توجه الاحتلال للصحافة الرقمية بسبب شيوعها حاليًّا، ولأنه بالفعل يسيطر على الصحافة الورقية التقليدية. فإسرائيل لا زالت تطبق قانون المطبوعات الذي فرضته بريطانيا على فلسطين، وقانون الطوارئ الذي فرضته بريطانيا أيضًا عام 1945. تتيح تلك القوانين للرقيب الإسرائيلي مراقبة كل شيء يدخل ويخرج لمقار الصحف الفلسطينية، ويمكنه من حظر تصدير أو استيراد أي مادة تُستخدم في الطباعة طالما سوف تستخدمها جريدة لا يحبها الاحتلال.
وتُرسَل جميع الصحف الورقية إلى الرقيب العسكري ليقرر ما يحذف منها قبل النشر. وتفرض إسرائيل على الصحف الإسرائيلية نشر الإعلانات الإسرائيلية التي تصلها فورًا ودون مقابل مادي مهما بلغ طول الإعلان. لذا تشهد فلسطين معدلات سريعة في إنشاء الصحف ثم إغلاقها، خاصةً أن التضييق أحيانًا ما يكون من جانب وزارة الداخلية التابعة للسلطة الفلسطينية، والتي قد تفرض أمرًا بتوزيع صحيفة في نطاق جغرافي معين وحظر توزيعها خارجه، أو الإقامة الجبرية على موظفيها. وبالطبع يتم ذلك بتنسيق أو بأمر مباشر من المخابرات الإسرائيلية.