رفعت وحافظ الأسد: صراع الشقيقين الذي هز سوريا
عرض لكتاب «الأسد: الصراع على الشرق الأوسط» للكاتب البريطاني «باتريك سيل»
لا أحد يعلم على وجه الدقة من أين جاء العلويون، أو متى احتلوا جبلهم الذي صنعت منه فرنسا وطنًا طائفيًا لهم، خاضعًا للغرب، ومنفصلاً، ليس فقط عن الوطن العربي بل عن سوريا نفسها.
على سفح هذا الجبل، حيث للقوة كلمة الفصل، اكتسب «سليمان الوحش» لقبه إثر معركة هزم فيها أحد المصارعين الأتراك المتجولين في القرى، قبل أن يستمر في حفر مكانه بارزة له ولأسرته وسط الأسر القوية. ترجم هذه المكانة نجله «علي سليمان الوحش» عام 1927، بالتحول من مجرد فلاح بسيط إلى أحد أهم وجهاء مجتمع الجبل، لتصبح محصلة ما تمتعت به العائلة من مكانة واحترام -اكتسبته عبر جيلين كاملين من الزمن- تغيير اللقب من «الوحش» إلى «الأسد»، والتحاق الحفيد «حافظ علي سليمان الوحش» بالمدرسة الابتدائية ثم المدرسة الجوية، ليصبح ضابطًا طيارًا في الجيش السوري.
الصعود السياسي للأسد
مثل كل العرب في الخمسينيات، أطاح خمر كاريزما عبد الناصر بعقول السوريين، بل إنهم كانوا الأكثر ثمالة على الإطلاق، خاصة بعد تمكن هذا الأخير عام ١٩٥٥ من إبرام صفقة الأسلحة التشيكية، التي عبر خلالها الجيش الروسي الأحمر إلى الشرق الأوسط فوق جثة «حلف بغداد»، الراعي غير الرسمي لمصالح الدول الغربية في المنطقة.
لم تكن تأثيرات دهاليز السياسة أو توابعها بعيدة يومًا عن حياة حافظ الأسد، الذي التحق بحزب البعث وهو في السادسة عشر من عمره. فبعد أن أشعل ميل سوريا إلى نظام عبد الناصر فتيل الغضب لدى حكومة «أنطوني أيدن»، أصبحت مصر هي قبلة حافظ الأسد بدلاً من بريطانيا، في أول رحلة تدريبية خارجية له بهدف الترقي في الطيران والعمل على الطائرات النفاثة.
ووسط أجواء معبأة بدخان الثورات والتنظيمات السرية، قرر حافظ الأسد السير على خطى عبد الناصر إلى آخره، فالتحق بتنظيم سري يدعى اللجنة العسكرية عام ١٩٦٠، مما أدى إلى تورطه في مستنقع الانقلاب والانقلاب المضاد الذي غرقت فيه سوريا، بعد انهيار الوحدة مع مصر نتيجة للفزع الذي سرى بين التجار السوريين كالنار في الهشيم من قرارات التأميم في مصر، ليتعرض الأسد لأول كبوة له في حياته السياسية عندما تم تسريحه من الجيش وتكليفه بعمل مدني في إحدى الوزارات.
لم ييأس الأسد أو رفاقه من العودة مرة أخرى إلى دائرة الأحداث أو ينضب داخلهم مخزون العمل الثوري. وبالفعل، وبسبب حالة التفكك والانقسام داخل القيادة العسكرية السورية وتراخي قبضة النظام، وقع انقلاب أعاد حافظ الأسد مرة أخرى إلى الجيش كي يصبح القائد الفعلي للقوات الجوية السورية قبل أن تتم ترقيته وزيرًا للدفاع عام 1966، حيث بدأت أولى حلقات مسلسل التأسيس لحكم طائفي علوي، بلغت ذروة مشاهده بارتقاء هذا الأخير صهوة السلطة بعد أسابيع قليلة من موت جمال عبد الناصر.
مأزق حافظ الأسد
في نوفمبر/تشرين الثاني 1983، بدا من الواضح للجميع أن سوريا على أعتاب شتاء قارص سياسيًا. ففجأة وبدون أي مقدمات، انهارت صحة حافظ الأسد ليبتعد عن دائرة القرار، في توقيت حرج، ارتسمت ملامحه القاسية من خلال أكبر توغل سياسي وعسكري للوصاية السورية على لبنان، منذ دخول الجيش العربي السوري إليها عام 1976 بحجة الحرب الأهلية اللبنانية وطرد الجيش الإسرائيلي من لبنان وتطبيع الوجود الفلسطيني فيها. وقد ترك الأسد مساعديه في حالة تخبط، زاد من وطأتها فشل الأسد في تهدئة سيل التكهنات والإشاعات حول صحته.
وعلى الرغم من وقوع الأحداث اللبنانية بعد ثلاثة أسابيع من حادث مقتل الجنود الأمريكيين في البحر الأحمر، الذي تم في نفس يوم هجوم آخر مفخخ على مقر الوحدة الفرنسية في لبنان، إلا أن التهديد بالانتقام الأمريكي أو الفرنسي الذي صار من الواضح أنه لن يتأخر كثيرًا، لم يكن المأزق الوحيد الذي ترك الأسد فيه سوريا.
فبالإضافة إلى غارات إسرائيلية لا تنقطع على البقاع في لبنان وبطول طريق بيروت- دمشق، كان هناك أيضًا نتائج صراع العرب المخزي بين منشقي حركة فتح المدعومين من حافظ الأسد ضد ياسر عرفات الذي كان الأسد مصممًا على إلقائه في البحر، على حد قوله، لدرجة أن مدفعية الجيش السوري حاصرته داخل مخبئه في طرابلس، مُخلّفة في طريقها حرائق إلى عنان السماء في مصافي النفط والمرفأ وخسائر بملايين الدولارات ودمار لا ينتهي.
كان هناك أيضًا اتفاق لبناني برعاية أمريكية، لم يكن أمام الأسد سوى الضغط على أمين الجميل لرفضه بأي ثمن.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى، أتت الضربة القاصمة «يوري أندروبوف»، الزعيم السوفييتي الذي أعطى الأسد دعمًا سياسيًا وعسكريًا على نطاق لم يسبق أن حصل عليه من قبل أي مسئول روسي، فريسة المرض هو الآخر.
على الرغم من قسوة كل ما سبق، إلا أن الخطر الحقيقي بدأ يكشر عن أنيابه على هيئة بوادر أزمة داخلية تلوح في الأفق، بعد خروج الأسد من المستشفى لقضاء فترة نقاهته في منطقة الغوطة.
عيّن حافظ الأسد لجنة من على سرير المرض تضم ستة أشخاص لإدارة شئون البلاد وتسيير الأمور اليومية، لم يكن من بينها شقيقه الأصغر رفعت، الذي لم يكن الوحيد المرتاع من مجرد التفكير فيما قد ينجم عن موت الرئيس من تغيير للوضع السياسي. كان هناك الجنرالات ممن ترتعش سيقانهم هلعًا على أوضاعهم ومناصبهم، جنرالات لم يكن أمامهم سوى رفعت الأسد لإقناعه أنه رجل المرحلة.
وبالفعل قَبِل هذا الأخير، ثم عُقد اجتماع القيادة القطرية في غياب حافظ الأسد لأول مرة مُعلنًا جعل رفعت الأسد بديلاً رسميًا للجنة السداسية في إدارة شئون الدولة، بحركة ذكية أنيقة جلبت رفعت إلى صدارة المشهد بكل هدوء.
الفرق بين الشقيقين حافظ ورفعت
كان حافظ يختلف تمامًا عن رفعت شقيقه الذي يصغره بسبعة أعوام. فرفعت كريم لا تخلو مصلحة أو جهة رسمية ممن يدينون له بفضل خدماته بالولاء، لا يملّ من زرع واستقطاب أتباعه بطول البلاد وعرضها، بالإضافة إلى مصالح وعلاقات تجارية وسياسية خاصة تمتد من سوريا عبر الجبل في لبنان إلى عدد لا بأس به من العواصم العربية.
كان حافظ مترويًا، متزنًا نوعًا ما، يكره طريقة حياة أخيه الباذخة، كما كانت تكرهها زوجته المتحفظة. كان حافظ الذي يرى دائمًا أنه مُهدد من أمريكا وإسرائيل والعرب، يكره نقطة ضعف رفعت تجاه أمريكا ويقلق من علاقاته بالقادة العرب، خاصة الملك الحسن ملك المغرب والأمير السعودي عبد الله، الذي كانت زياراته إلى دمشق مناسبات تُقام فيها حفلات تمتد طوال الليل.
كان رفعت يعتبر نفسه شريكًا في الحكم بعد أن ساهم في تركيز دعائم ملك أخيه بالقضاء على الإخوان المسلمين في سوريا، ثم ما لبث أن تحول تدريجيًا من خانة الحليف الأمين إلى مصدر قلق، قبل أن يصبح في النهاية أكبر خطر داخلي على أمن حافظ الأسد.
المواجهة بين الشقيقين
كان من الواضح أن الأمر بدأ في اتخاذ مسار آخر عندما ظهرت صور رفعت في زيه العسكري وهو يتخذ مظهرًا صارمًا آمرًا، وهي تملأ شوارع وضواحي دمشق، معتمدًا على سرايا جيش الدفاع التابعة له شخصيًا والمتمركزة على بعد خمسة أميال فقط من العاصمة.
فهو جيش من أربعة ألوية عسكرية منتقاة بعناية قوامها ٥٥ ألف جندي، تثير رواتبهم وامتيازات أخرى لا حصر لها غيرة وحسد باقي رجال الجيش، قوة عسكرية لها دروعها الخاصة ومدفعيتها ودفاعها الجوي وأسطول كامل من المروحيات الناقلة للجنود، يسيطر على مشارف العاصمة بولاء تام لقائده رفعت الأسد بينما القوات الأخرى التابعة لباقي الجنرالات بعيدة خارج العاصمة.
لسوء حظ رفعت أن الرئيس الذي تعتمد الخطة بشكل أساسي على استمرار مرضه قد بدأ يسترد عافيته، وبالفعل وفي نفس اللحظة التي كشر فيها حافظ الأسد عن أنيابه مُعنفًا رجاله على عدم طاعة أوامره، انفض الجميع عن رفعت لتقديم فروض الولاء والطاعة في خنوع تام إلى الرئيس.
لم يجد الجنرالات، الذين التفوا في البداية حول رفعت بعد رفض هذا الأخير تسوية الأزمة في هدوء، سوى الانقلاب عليه في النهاية، لتصبح دمشق بحلول فبراير/شباط ١٩٨٤ على مشارف حرب دموية، أمام أوامر الرئيس إلى «علي حيدر» و«شفيق فياض» بتحريك الدبابات للمواجهة.
كان الحل السلمي الوحيد المقبول لدى حافظ الأسد مع تزايد الشكوك داخله نحو مؤامرة خارجية كبرى، ربما تسهم فيها شخصيات عربية مع واشنطن، هو القضاء تمامًا على أي وجود فعلي لشقيقه بترقيته إلى نائب الرئيس ضمن ثلاثة نواب بلا مهام معلنة أو صلاحيات محددة، وذلك في مرسوم كان من المفترض أن يتلوه رفعت بنفسه إلى وسائل الأعلام، دون رتبة عسكرية أو لقب يسبق اسمه إلا كلمة دكتور، في إشارة إلى دكتوراه فخرية حصل عليها رفعت ذات مرة، بالإضافة إلى نقل سرايا الدفاع بموجب مرسوم رئاسي آخر إلى العقيد «محمد غانم»، الذي اعتذر أمام رفض رفعت لهذا الحل.
أمام فشل كل وساطة ممكنة حتى من الروس أنفسهم، تحرك الرئيس، الذي فرضت عليه فداحة القتال داخل العاصمة البطء في اتخاذ قرار حاسم، ليبدأ في استخدام خبرته، فأحضر والدته بالطائرة من القرداحة، لتقيم مع رفعت بمنزله، قبل أن يرتدي ذات صباح زيه العسكري متوجهًا مع نجله باسل فقط إلى مواقع أخيه في ضاحية المزة السكنية.
وبعد مواجهة عاصفة في حضرة أمه، استطاع حافظ الأسد، الذي ألقى الروس خلفه بثقلهم السياسي كله، إخضاع شقيقه الأصغر، قبل أن يطوف على وحدات سرايا الدفاع في زيه العسكري، آمرًا ضباط رفعت بفتح الطرق والانسحاب.
وبعد أن تكفل القذافي بدفع الدولارات التي طلبها رفعت، أسدل رحيله بصحبة رجال حاشيته وعائلاتهم إلى أوروبا، ستارة النهاية على صراع الشقيقين الذي كاد يعصف بسوريا.