عسقلان: المعركة التي غيرت تاريخ مصر
عادت أسماء مدن فلسطين المحتلة إلى الواجهة على وقع الحرب الضارية التي تدور الآن على أرضها في أعقاب عملية طوفان الأقصى الفريدة التي بدأت بهجوم 7 أكتوبر 2023م، أضخم هجوم فدائي فلسطيني ضد عمق الكيان الصهيوني منذ تأسيسه، الذي كبَّد ثاني أكبر خسارة بشرية في تاريخه بحصيلة وصلت إلى 1200 قتيل حتى لحظة كتابة هذه السطور.
في اليوم الرابع للحرب، العاشر من أكتوبر 2023م، طفا اسم مدينة عسقلان المحتلة إلى الواجهة عندما أعلن المتحدث باسم كتائب القسام مهلة لمدة ساعتين لمغادرة سكانها من المستوطنين الإسرائيليين، قبل قصفها بالصواريخ في تمام الخامسة مساءً، ردًا على القصف الوحشي الإسرائيلي للأحياء السكنية في غزة. وأكد المتحدث، أن عسقلان ستكون هدفًا متكررًا لمثل هذا الانتقام الصاروخي خلال الأيام التالية. وفي حالة تنفيذ هذا التهديد بحذافيره، فإنَّه يعني أن عسقلان ستتحول إلى ورقة إستراتيجية حساسة في معادلة الصدام الحالي، وأنها قد تعود لتلعب ما يشبه أدوارها التاريخية المرجّحة في اللحظات الفاصلة.
في هذه الجولة، سنعود مع عسقلان إلى ما يقارب 9 قرون إلى الوراء، عندما كانت مستوطنات الإمارات الصليبية تسيطر على معظم الساحل الشامي من أنطاكية شمالًا، إلى جنوبي فلسطين جنوبًا، وترسم أمرًا واقعًا عمره جيليْن على الأقل من المستوطنين. ففي عام 1154م حُسِمت معركة حصار عسقلان بين مملكة بيت المقدس الصليبية من جهة، ومصر الفاطمية من جهة أخرى، وكان هذا الحدث بمثابة تحول جذري في مستقبل مصر السياسي، وفي مسار الحروب الصليبية ككل.
وما أدراكَ ما عسقلان
تقع عسقلان التاريخية كما ذكرنا جنوبي فلسطين، والمدينة الحديثة التي تحمل اسم عسقلان، توجَد على مسافة أقل من كيلومترين إلى الشمال الشرقي من موقع عسقلان القديمة، وأقل من 20كم شمال مدينة غزة. وتذكر الموسوعة البريطانية أن موقعَها الحيوي كان يجعل منها دائمًا مفتاح السيطرة على جنوب غربي فلسطين.
كانت عسقلان دائمًا وأبدًا -هي وغزة بالطبع- صمام الأمان لمصر، وبوابتها الشرقية. وقد التفت المصريون إلى هذا مبكرًا للغاية، فقد خضعت عسقلان لحكم الفراعنة في القرن الثالث عشر قبل الميلاد في عهد الفرعون مرنبتاح الثاني، وما إن ضعفت دولة الفراعنة خلال القرون التالية، خضعت عسقلان للكنعانيين ثم الإسرائيليين، ثم انتزعها الملك الأشوري سنحاريب وبعده البابليون ثم الإسكندر الأكبر، الذي بعد وفاته، كان المدينة ساحة للصراع بين وريثتيْ دولة الإسكندر، دولة البطالمة في مصر، والحيثيِّين في الشام.
بعد ذلك استولى الرومان على عسقلان حتى جاء الفتح الإسلامي في القرن السابع الميلادي، ثم تتابعت السيطرة عليها الدول الإسلامية المتتابعة، الأموية والعباسية والطولونية والإخشيدية والفاطمية. ويُلاحَظ أن الدول الإسلامية المستقلة التي كانت تتخذ من مصر معقلها، كانت تحرص على السيطرة على فلسطين عامة، وعسقلان وغزة بوجه خاص.
الحصار الصليبي لعسقلان
جاءت الحملة الصليبية الأولى إلى الشام أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، ونجحت خلال أعوامٍ في التوغل جنوبًا لتستولي على بيت المقدس بعد مذبحةٍ تاريخية، وتسيطر على الكثير من أراضي الشام، لاسيّما الساحل، وتُنشيء لها 4 إمارات وممالك فيها. في عام 1099م، حاول الصليبيون السيطرة على عسقلان، لكن استماتتْ مصر الفاطمية في الدفاع عنها، وأرسل وزير مصر القوي الأفضل بن بدر الجمالي حملة عسكرية تلوَ أخرى برًا وبحرًا للحيلولة دون سقوط عسقلان، التي تحرس البوابة الشرقية لمصر، وبالفعل نجحت مصر الفاطمية في الحفاظ بصعوبة على عسقلان لأكثر من نصف قرنِ ضد الغزوات الصليبية المتكررة. وكان من أبرز ما يحدث الفارق في دعم عسقلان ضد أي حصارٍ صليبي، وصول الأسطول المصري محمَّلًا بالمدد البشري والتسليحي وبالمؤن لكسر الحصار، ودعم صمود الحامية.
بحلول منتصف القرن الثاني الميلادي، كانت الدولة الفاطمية في مصر قد أنهكتها الأزمات والصراعات السياسية، والنزاع المذهبي بين الطائفة الإسماعيلية المستعلية في مصر، والنزارية (الحشاشون)، وإقدام الأخيرة على اغتيال بعض الخلفاء مثل الآمر بأحكام الله عام 1130م، وفشا الفساد بين الوزراء وكبار رجالات الدولة مستغلين ضعف الخلفاء، والذين تولّى بعضهم مقاليد الأمور أطفالًا، مثل الفائز بالله الفاطمي ذي السنوات الخمس. وقد وصف المؤرخ الكبير ابن الأثير في «الكامل في التاريخ» تلك الحالة المزرية للدولة المصرية قائلًا:
اقرأ أيضًا: عمّات فاطميات: حكايات «الكَيد العظيم»
تزامن هذا التحلل في مصر الفاطمية، مع سورة من العنفوان لمملكة بيت المقدس الصليبية، التي طمعت في انتزاع عسقلان، كمقدمة للولوج إلى مصر، التي عانت من أزمة سياسية حادة عندما قُتِل الوزير العادل بن السلَّار عام 1153م=548هـ، ولم يوجد حكومة قوية وفعَّالة في مصر لترسل الدعم السنوي المعتاد إلى عسقلان، فاهتبل الصليبيُّون الفرصة، وفرضوا حصارًا مُطبِقًا على المدينة الساحلية المهمة.
صمدت عسقلان لأسابيع، ودافع عنها أهلها بجسارة، حتى إنهم كانوا يخرجون من بواباتها للهجوم على الصليبيين المُحاصِرين لهم، حتى إنهم في إحدى الهجمات دفعوهم لأميالٍ بعيدًا عن السور، لكن ما لبث الحصار أن اشتد، ولم يصل إلى المدينة المعزولة أي مدد فارق من مصر أو الشام، فتفاقمت الخلافات بين المُدافعين عنها، لم تصمد أمام هجوم بري وبحري متزامن، وسقطت عام 1154م= 548هـ بعد صمودٍ لسبعة أشهر.
أسهب المؤرخون العرب والمسلمون، لا سيَّما المعاصرون لهذا الحدث الجلل، في التباكي على سقوط عسقلان في قبضة مملكة بيت المقدس الصليبية، فقد مرت سنوات طويلة قبل هذا الفتح لم يسجل فيها الصليبيون نصرًا كبيرًا ضد المسلمين، إذ منذ جهاد ملكيْ حلب عماد الدين زنكي ثم ابنه نور الدين محمود، انقلبت الموازين كثيرًا لغير صالح الصليبيين.
وكان من أبرز النتائج المباشرة لسقوط عسقلان في قبضة الصليبيين، أن اندفع ملك حلب العادل نور الدين بن زنكي، الذي كان أبرز رافعي لواء الجهاد ضد الصليبيين آنذاك، للسيطرة على دمشق، فكان هذا نقطة فارقة في مصير الشام والمنطقة. وكان نور الدين قد أراد إمداد عسقلان وفكّ حصارها قبل سقوطها، ولكنه لم يتمكن من عبور الأراضي الخاضعة لملك دمشق مجير الدين أبق المتحالف مع الصليبيين. وقد ثار أهل دمشق ضد ملكها بمجرد وصول جيش نور الدين إلى أسوارها، وكان لسقوط عسقلان دور بارز في نقمة الدمشقيين ضد ملكهم المتحالف مع أعداء الأمة. وبعد دمشق، طمح نور الدين إلى أن يضم مصر إلى دولته الشامية المتسعة، بعد أن كشفت واقعة عسقلان مدى الاهتراء الذي آلت إليه الدولة فيها.
لم تقتصر الرغبة في السيطرة على مصر على نور الدين بن زنكي، فقد كان ملك بيت المقدس الصليبي القوي أمالريك يتحرَّق طمعًا إلى الهيمنة على مصر وثرواتها المادية والبشرية الهائلة، فأدى الصراع على السلطة بين وزراء مصر شاور وضرغام، واستنجاد كل منهم بدعمٍ خارجي إلى اندلاع نزاعٍ مرير من أجل السيطرة على مصر، استمر خمس سنوات (1159م – 1164م)، بين دولة الزنكيين ومملكة بيت المقدس الصليبية، شهد ثلاث جولاتٍ من الصدام، انتهت الأوليان بالتعادل وانسحاب الطرفان من مصر، بينما انتصر الزنكيون في الثالثة، وانتزعوا مصر، وأصبح رجلهم أسد الدين شيركوه ثم ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي وزراء مصر، وما لبث صلاح الدين بعد سنواتٍ قليلة أن ألغى الخلافة الفاطمية في مصر، واستقل لنفسه بحكم مصر وجعلها قاعدة دولته الأيوبية الجديدة، وانطلق منها لضم الشام إلى مصر بعد وفاة نور الدين بن زنكي وتمزق دولته في الشام.
اقرأ أيضًا: نيرون مصر الذي كافأهُ صلاح الدين بما يستحق
وكان توحيد مصر والشام للمرة الأولى منذ عقودٍ طويلة، حدثًا إستراتيجيًا فارقًا في تاريخ المنطقة، وفي مصير الوجود والاستيطان الصليبي في المنطقة، فقد تمكنَّت الدولة المركزية القوية (الأيوبية ثم المملوكية) لاحقًا، والمهيمنة على مصر وأجزاء واسعة من الشام، من تنظيم جهدٍ عسكريٍّ فعَّال ضد الصليبيين على مراحل ونقلاتٍ متتالية، حتى إنهائه وتطهيره بشكلٍ تام في عام 1291م في عهد السلطان المملوكي الأشرف خليل بن قلاوون.
عسقلان: تحرير وتدمير وتحرير
بعد الانتصار الساحق الشهير على الصليبيين في موقعة حطين الفاصلة (1187م = 583هـ)، اندفع صلاح الدين الأيوبي بقواته ليسيطر سريعًا على أكبر قدرٍ من المناطق التي احتلَّتها مملكة بيت المقدس الصليبية، لا سيَّما الساحلية، وكانت عسقلان من بينها.
لكن لم يهنأ المسلمون طويلًا بالسيطرة على عسقلان، فقد اضطُرَّ صلاح الدين الأيوبي إلى تدميرها، حتى لا يحتلَّها الصليبيون الذين نجحوا بوصول الحملة الصليبية الثالثة من أوروبا نجدة لهم في استعادة بعض المناطق التي حرّرها صلاح الدين، ومن أبرزها عكا في ساحل فلسطين، والتي خرجوا منها مندفعين بجيشهم جنوبًا صوب عسقلان.
وقد سجَّل المؤرخون حزن صلاح الدين الشديد لاضطراره إلى هذا الحل المؤلم، حيث نُسِبَ إليه قولُه:
وهكذا في عام 587هـ = 1191م، وتحت قصف دموعهم المنهمرة، شرع جنود صلاح الدين ومعهم أهل المدينة، في هدم وتخريب كل ما في عسقلان التاريخية من شجر وحجر، حتى لا يجد فيها العدو شيئًا يستفيدُ منه. وبعد أشهرٍ من تلك الواقعة، وعجز أيٍّ من الطرفيْن عن حسم المعركة عسكريًا، عُقِد صلح الرملة 588هـ = 1192م بين صلاح الدين، وملك إنجلترا ريتشارد قلب الأسد قائد الحملة الصليبية، الذي حفظ للمسلمين القدس وبعض مكتسبات ما بعد حطين، بينما احتفظ الصليبيون بما استعادته الحملة الثالثة في الساحل الشامي لا سيَّما عكا. ثم عهد ملك دمشق الصالح عماد الدين إسماعيل الذي تحالف مع الصليبيين ضد ابن أخيه الصالح أيوب سُلّمت عسقلان إلى الصليببيين، فبنوا فيها حصنًا، لكن انتزعه منهم جيش مصر عام 1247م= 645هـ.