كأنها جمهورية كأن
ظل علاء الأسواني يتكلم عن مشروعين لا يفارقان ذهنه لحظة؛ هما نادي السيارات وجمهورية كأن، ولربما سمعت عن مشروع جمهورية كأن منه منذ عشر سنوات ونيف.
مؤخرًا وبعد فترة توقف طالت، جاءت جمهورية كأن، والخلفيات المعقدة المحيطة بها تقول إن معظم دور النشر تحمست لها ثم خافت تبعات نشرها. لقد صار علاء الأسواني شخصًا غير مرغوب فيه Persona non grata يخشى الكل ضريبة العمل معه، وهو سيناريو يذكرنا ببلال فضل منذ أربعة أعوام.
قرأت القصة.. الحقيقة التي لا يماري فيها أحد هي أن الرجل ممتع حقًا. وهو مصر على أن يظل ممتعًا مهما كره النقاد ذلك. هو يؤمن بفن الرواية بتعريفه العتيق؛ أي (الحكي). أن تنتظر حتى الليل في لهفة لتعرف ما حدث. وهو مصر على الطريقة الديكنزية في أن يجعل الرواية متحفًا للشخصيات الفريدة الممتعة. بحيث أنك قد تنسى الرواية لكن الشخصيات تلاحقك طيلة الوقت.
هذه هي النقاط المؤكدة، أما الباقي فأنت تعرف التذوق المزاجي لدى الناس. ادخل (جود ريدز) ولتر من يعتبر الرواية قمة القمم العالمية، ومن يعتبرها أفشل عمل كتبه إنسان على وجه الأرض. وأنت تعرف طبعًا أن جزءًا من هذا النقد ذو طابع إيديولوجي. من لا يحب موقفه من 30 يونيو سوف يعتبره روائيًا فاشلًا، وقد قرأت حمارًا ما يقول إن يعقوبيان مسروقة من ميرامار، ونادي السيارات مسروقة من حفلة التيس !!!!! واضح أنه لم يقرأ الروايات الأربع.
بالنسبة لي أضع رواياته في الترتيب التالي: يعقوبيان – كأن – شيكاغو – نادي السيارات. السياسة أخذته من الفن نوعًا في نادي السيارات وأعتقد أنها أكثر رواية أرهقته.
لست ناقدًا محترفًا ولا أعرف كيف أرتب أفكاري، لذا سوف أعرضها في عدة نقاط:
_ اللغة محكمة وخالية من الأخطاء، وهو شيء كان يجب أن يكون بديهيًا، لكن صار من العسير اليوم أن تقابل كاتبًا يجيد اللغة العربية. ما تراه في النهاية هو حصيلة عمل المصحح. لكن علاء الاسواني يسيطر على لغته سيطرة تامة.
_ هناك مكونات وأجزاء معينة يستعملها علاء الأسواني مثل الميكانو من قصة لأخرى، فيعيد ترتيبها ليخلق مواقف جديدة. مثلًا شخصية الضابط المتدين الذي يعذب الأبرياء ولا يفوت فرضًا – الثري الراقي الذي يعد بالمفهوم التقليدي فاسد الأخلاق، لكنه أكثر شخصيات القصة طهرًا وصدقًا، وبالطبع هناك الحب الجسدي بينه وبين خادمة أو مدبرة منزل نبيلة تحبه فعلًا، وهناك ضغوط المجتمع ضده بين أخت مثل دولت أو زوجة أو أولاد.. هناك علاقات تدور في قمة المجتمع فوق رءوسنا ولا نعرف عنها أي شيء. لم يستعمل الأسواني قطعة ميكانو الشاب الشاذ جنسيًا هذه المرة، وإن استخدم قطعة ميكانو مهمة جدًا هي ضحية الأمن الذي آمن بالعدالة ثم أدرك مع الوقت أن ديانة الدولة هي الظلم، وأن الدم هو الحل الوحيد. لن أعطي تفاصيل حتى لا أدمر نهاية الرواية، لكنها نهاية قوية جدًا.
_ الأسواني كعادته لا يجد مشاكل في استعمال الجنس في قصصه، بل هو يستعمله هنا بشكل فاق كل قصصه السابقة. هناك صفحات فيها كم شتائم يثير ذهولي، وليس الحين حين مناقشة هذا، لكني أرى أن هذا يرفع السقف لأجيال قادمة من الكتاب. فيما بعد لن تكون أسماء الأعضاء الجنسية التي تقال بالعامية كافية. هناك كذلك أجزاء مثل تعرية ضباط الأمن لزوجات المساجين، يحكيها بالتفصيل الشديد لدرجة أنك تجد أن بعض السادية يتسرب لنفسك!
_ كالعادة تشعر إلى حد ما أن علاء الأسواني يتجه نحو القارئ الغربي الفرانكفوني أولاً. يكتب ما يروق له. لاحظت في كل رواياته أنه لا يتكلم عن إسرائيل، ولعل هذا يعكس مطمحًا شريفًا لجائزة نوبل.. إذ لن يحصل على نوبل من هاجم إسرائيل أبدًا.
_ ثمة نغمة توثقية واضحة تذكرنا بالمسرح الملحمي وبيتر فايس ومعظم أعمال صنع الله إبراهيم. لقد وضع مقاطع كاملة من شهادات الفتيات ضحايا العذرية ومذبحة محمد محمود وكشوف العذرية. لا أعتقد أنك ستجد هذا التوثيق في أي رواية أخرى تستند على ثورة يناير في خلفيتها. أضف لهذا أنه لم يعد هنك شك لمن يقرأ القصة من موقف علاء من ثورة يناير وحركة 6 إبريل وموقفه من المجلس العسكري. يمكن دائمًا في الرواية أن تزعم أن هذه آراء الأبطال وليست آراءك، لكن من السهل هنا أن تدرك أن هذا رأي الكاتب الذي يطلق سراح كاتب المقال من حين لآخر.
_ إن لم تخني الذاكرة لا يوجد نموذج واحد في الرواية يمثل الاتجاه الإسلامي المستنير. هناك شيخ الإعلام الناجح المتألق الذي يستخدمه أمن الدولة لإقناع أب مكلوم بالتنازل. بعد هذا هناك خضوع مطلق من الإخوان لأمن الدولة وتحالف تام. بعض العبارات قيلت في غرف مغلقة فلا تعرف كيف عرف أنها قيلت. وعلى كل حال كنت أتمنى ان تتضمن القصة 30 يونيو ورابعة. لكنها انتهت فقط عندما كان الإخوان يشيدون بالعسكر ويتحدثون عن العرس الديمقراطي. كنا نريد معرفة أكثر عن لحظة الشقاق. علاء يكره الإخوان بعنف لكننا كنا نطالبه بالعدل.
جمهورية كأن هي في النهاية الجمهورية التي يبدو فيها كل شيء كأنه حقيقي بينما هو وَهْم. نفس ما قاله إبراهيم عيسى يومًا عن المركب المتهالكة التي يطلقون عليها نورماندي تو.
على السطح هناك مؤسسات وبرلمان ودستور ومحاكم. بينما لو دنوت لوجدت كل شيء كأنه كذلك.
لا شك أن جمهورية كأن رواية بالغة الأهمية تضاف إلى أعمال د. علاء الأسواني المتميزة كلها، وإن كنت أتوقع لها صعوبات في التوزيع لأنها تحمل اسم ذلك المعارض الشريف.