أروى صالح والجيل الضائع في الشيوعية المصرية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
ثار الجدل بين جيلين من الماركسيين المصريين حول الموقف الواجب عليهم تجاه ناصر والنظام الذي أسسه، البعض هُزموا، والبعض الآخر تم اصطفاؤهم، ولا زال فشلهم يطارد اليسار المصري إلى اليوم. خمسون عامًا بعد وفاة ناصر.
في يونيو 1985، كتبت الماركسية المصرية أروى صالح من منفاها الاختياري في إشبيلية – المدينة التي شبهتها بأعماق مصر الجنوبية – خطابًا لرفيق لم تسمه. في هذا الخطاب، صبت غضبها ونارها على «من يسمون بالماركسيين الموهومين» من جيل الخمسينيات والستينيات في مصر، الذين وجدوا مهنة ثانية في قيادة الحركة الطلابية البازغة فيما بين 1970-1973، ومعهم أضاع جيلها «أهم سنوات حياتنا»:
كانت أروى صالح ناشطة سرية متمرسة، من قيادات الحركة الطلابية التي هددت في بداية السبعينيات بإسقاط نظام الرئيس أنور السادات الجديد الذي لا يحظى بالشعبية، لها عدة مؤلفات وترجمات في الأدب الماركسي، عضو سابق في اللجنة المركزية للمنظمة اليسارية الأكثر راديكالية في هذا الوقت، حزب العمال الشيوعي المصري.
كانت في إشبيلية بسبب الاكتئاب، بسبب تقززها من أفعال العديد من رفاقها السابقين، وبسبب الهزيمة السياسية الساحقة لليسار المصري في بداية العقد، والتي خلفت لديها خيبة أمل في احتمالية التغيير الثوري.
الحليب المسموم
إن الأسباب التي دفعتها لليأس عديدة، لكن جميعها نتجت عن فشل جيلها من الماركسيين الثوريين في مقاومة الهجمة النيوليبرالية في السبعينيات والنظام ما بعد الاستعماري الكئيب الذي بشرت به. في نقدها الذي شمل مسائل الطبقية والتمييز الجنسي والطائفية والأبوية والميول الستالينية فيما يتعلق بالسرية المفرطة والروح التكتلية كانت الفكرة المركزية هي الجزء من المسئولية الذي يتحمله الماركسيون المصريون من حقبة الستينيات.
طبقاً لأروى، كانت مساهمتهم الرئيسية كمعلمين وموجهين لـ «الموجة الثالثة» الناشئة من الحركة الشيوعية هو عرقلة ومنع أي احتمال لتطورها المستقل:
لقد اتخذ شيوعيو جيل الستينيات مواقف مختلفة حول نظام جمال عبد الناصر وجملة أخرى من المسائل. ولم يكن كل من هذه المواقف جدير بالاحترام كونها صادرة من زمرة هادئة من اليساريين دمرتها هزيمة 1967. وبدلًا من تركنا لابتكاراتنا – بدلاً من إعطائنا المساحة لنكتشف كيف نحيا واقعنا ونغربل اليسار من اليمين خلال التجربة – قاموا بإرضاعنا حليبهم المسموم.
بشكل عام، هذه «المواقف المختلفة» كانت تعبر عن جانبي الجدال المر الذي حمى وطيسه بين الشيوعيين المعتقلين في السجون المصرية في النصف الأول من الستينيات. تيار حاجج حول أن النظام الناصري كان يمثل نوعًا من التقدم صوب الاشتراكية، وبالتالي استحق الدعم الكامل من الشيوعيين المصريين، حتى وهم يُعذَّبون في السجن. التيار الآخر أصر على أن الممارسات غير الديمقراطية للدولة واستبعاد العمال وقطاعات أوسع من المواطنين من إدارة المجتمع ووسائل الإنتاج تجعل من المعارضة الشيوعية المستمرة للدولة الرأسمالية ضرورة.
عمليًّا، تُرجمت هذه المواقف في تصويت بنعم أو لا أو المقاطعة في اجتماع موسع للشيوعيين المصريين لتقرير مصير الحزب في 1965 بعد إطلاق سراحهم من السجن. صوَّت المجتمعون بأغلبية ساحقة لقرار حل الحزب الشيوعي المصري.
في الخطاب، تركز أروى غضبها على «القادة العاطلين» – هؤلاء الذين وجدوا أنه قد تم سجنهم وإيذاؤهم أو حُرموا حق التوظف بعد أن رفضوا حل الحزب والانضمام للاتحاد الاشتراكي العربي الذي أسسه ناصر – والذين أعادوا التجميع لتأسيس منظمات سرية جديدة، جندوا فيها العديد من الأعضاء الشباب من الحركة الطلابية مثلها. وفقًا لأروى، فإن الماركسية «كانت مجرد وسيلة سهلة للغزو» لهؤلاء الرجال «متوسطي الموهبة» الذين عارضوا ناصر «سلبيًّا» دون توفير أي بديل حقيقي، التذكرة الأكيدة للسلطة ولوضعية الكبار المتعالين بالنسبة لأطفال السبعينيات الذين سوف يكونون «ضحيتهم».
من المثير للاهتمام أن غضبها لم ينل هؤلاء الذين انضموا بحماس للاتحاد الاشتراكي العربي وصفوف انتلجنسيا الدولة المتضخمة – هؤلاء الذين اختاروا «أداء نصف أغنية داخل قفص ناصر» – على الأقل لأنهم كانوا متسقين.
سيرة ذاتية لجيل مُجهض
الخطاب واحد من مادتين من المراسلات الشخصية الملحقة بنهاية مؤَلَّف أروى «المبتسرون»، نقد انتقائي ومفزع للحركة الشيوعية المصرية في النصف الأخير من القرن العشرين تمت كتابته عام 1991 لكنه لم ينشر إلا بعد خمس سنوات. يقتفي الكتاب تطور فكر وخبرة أروى كامرأة في الحركة الشيوعية، ويقدم رؤية شفافة بشكل استثنائي لموضوعات الطبقة والعرق والجندر والإمبراطورية التي أشعلت حيوية جيل جديد من الماركسيين وأكاديميي ما بعد الاستعمار في السنوات الأخيرة.
كانت أروى ناشطة ثورية حافظت على إيمان لا يهتز «بحقيقة الماركسية» على مدى حياتها. لقد تم تقديمها للمرة الأولى للنشاط اليساري كفتاة في الخامسة عشرة من عمرها تترنح، مع الأمة المصرية، في أعقاب هزيمة 1967 على أيدي إسرائيل. (لقد وجدت نفسها فورًا في مغازلة رومانسية مؤذية مع رفيق يكبرها بعشرين عامًا.) بحلول عام 1970، برزت ككادر قيادي في الحركة الطلابية التي اكتسحت الجامعات المصرية وميادين المدينة مطالبة بإنهاء المأزق العسكري. هذا المد كان يهدد بزعزعة نظام أنور السادات الانتقالي الجديد.
في السنوات القليلة التالية قاد الشباب المصري حركة واسعة النطاق، مدعومة بشكل كبير من معظم قطاعات المجتمع المصري، ضد سياسة السادات «اللاسلم واللاحرب» والتي علاوة على أنها لم تؤدِّ إلى استعادة الأرض المفقودة، فإنها أيضًا كانت تعني أن الطلاب سيطلبون للتجنيد بدلًا من تعيينهم عند التخرج. الأمر الذي كان انعكاسًا ساخرًا لمصائر آبائهم تحت الميثاق الاجتماعي لناصر، وهو الوعد الذي كان جيل أروى على وشك أن يتحرر من وهمه تمامًا.
في أكتوبر 1973، فقط حين بدأت الحركة تتسع خارج نطاق التجمعات الطلابية وتلتحم بفيض من التحركات في المصانع وأماكن العمل (كانت لا تزال مملوكة للدولة)، أطلق السادات حرب أكتوبر. مزيج من نجاحه الأولي في عبور قناة السويس مع مهارة في عقد الصفقات بعد الانتكاسات العسكرية اللاحقة، ودعاية مطنبة سمحت للسادات بالخروج من الحرب كقائد منتصر مع نجاحات وطنية مهمة في سجله.
كان هذا إلى حد ما كافيًا للسادات لتعزيز سلطته والبدء في تطبيق سلسلة من الإجراءات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعيدة المدى التي تراجعت عن كل السياسات المميزة والبارزة في حياة وسياسات مصر الناصرية. هذا التغير في السياسة جاء جزئيًّا بأمر من صندوق النقد الدولي، لكنه أيضًا كان يتحضر جزئيًّا بتغيرات مرئية بالفعل منذ 1966 (حين تحولت مصر لأول مرة لصندوق النقد الدولي للمساعدة المالية في تلافي إفلاسها الوشيك، بالرغم من رفض عرض صندوق النقد الدولي وقتها).
الثورة المفقودة
في يناير 1977، سحقت قوات الشرطة والجيش «انتفاضة الخبز»، التي شكلت امتدادًا لحركات الطلبة والعمال في 1971-73 و1974-76، والتي شهدت احتجاجات جماهيرية وأعمال عنف عبر البلاد. ومع ذلك، بحلول 1979 كان السادات يتجول في القدس ونشأ سلام بين مصر وإسرائيل بعد معاهدات كامب دافيد، وكان الانفتاح – سياسة فتح مصر للرأسمال الخاص – يجري على قدم وساق. بنظرة كئيبة في يناير 1980، فإن انتفاضة 1977، التي وسمها نشطاء من جيل السبعينيات بالثورة المفقودة، لا بد أنها بدت وكأن الاشتراكية العربية تأخذ نفس احتضارها الأخير.
السمة الرئيسية لكتاب أروي صالح، هي على وجه الدقة البحث في هذا الصعود الحاد للحركة الاحتجاجية وانهيارها السريع والبحث عن أسباب هذا المسار. ويقدم عنوان الكتاب عرضًا مسبقًا لإجابتها ويستدعي تنبؤات أنطونيو جرامشي عن الفراغ «حين يحتضر القديم بينما الجديد لم يولد بعد»: بالعربية، «المبتسرون» تعني «الخديج» أو «المولود ميتًا».
عند أروى، كانت انتفاضات السبعينيات مشروعات غير ناضجة قام بها جيل من الخدج الذين لم يستطيعوا استثمار التعبئة السياسية الناجحة حول القضية الوطنية في دفاع ناجح عن المسائل الاجتماعية والاقتصادية التي حرَّكتهم في البداية كماركسيين. بتوظيف خليط من النقد الأدبي والنظرية والسيرة الذاتية النفسية والشهادة الشخصية، يمكن قراءة الكتاب كبحث ومحاولة مؤلمة لتتبع جينوم اليسار المصري لتحديد الخلل الجوهري.
قدمت أروى الكتاب كمحاول لحل «معضلة نضال التحرر الوطني». إنه لائحة اتهام قاطعة، ونظرة ودية للموجتين الثانية والثالثة من الشيوعيين المصريين – الموجة الأولى تغطي العقد بين 1920-1930 – وعلاقتهم المرتبكة «بالمسألة الوطنية» (ومن ثم بالناصرية، حيث تقاطع الاثنان عمليًّا).
أسرى الحنين للماضي
أثناء كتابة مقدمة «المبتسرين» في 1996، خمس سنوات بعد تأليف الكتاب، قررت أروى ترك محتوياته كما هي، وقدمت نقدًا لاذعًا بشكل واضح لما كتبته بنفسها خاصة «الهموم الوطنية» في الجزء الأول من الكتاب. بإعادة قراءة المؤَلَف، صُدمت أروى لاكتشافها أن الوعي السياسي لجيلها من الشيوعيين ينتمي «تحديدًا للماضي الذي تصدت لنقده بل حتى إدانته». وبهذا فهي تعني أنه «وبكل المرارة» التي يشعرون بها تجاه نظام جمال عبد الناصر، فإن أبناء جيلها كانوا أيضًا «يتحولون بسرعة لسجناء لحنينهم إلى هذا الزمن».
لقد اتضح أنهم لم يكونوا «نفي» عصر ناصر ولا «ممثلي الطبقة العاملة». في الحقيقة لم يكن للطبقة العاملة اهتمام بقيادتهم خارج إطار مسألة النضال من أجل السيادة الوطنية (فيما يخص إسرائيل)، ولم يكونوا، تحت أي ظرف، على وشك كنس النظام الناصري من الأرض، هذا ما ظهر أن السادات كان يفعله بدقة.
بالنسبة لأروي، يمكن رد الصعود والفشل السريعين للحركة إلى تقليد قديم بين الشيوعيين يتمثل في صياغة المطالب الاجتماعية والاقتصادية بمصطلحات وطنية. وقد جادلت بأنهم قد رفعوا شعار «الإمبريالية هي العدو الرئيسي» لمرتبة القداسة، مستدعين القضية الوطنية بشكل فعال باعتبارها القضية الحقيقية الوحيدة في البلاد، أو على الأقل «الوحيدة التي تحظى بالاهتمام الحقيقي من قبل الجماهير»:
لقد فهمت أروى أن التهديد الحقيقي جدًّا الذي مارسته الإمبريالية قد ساهم في هذا التعزيز لأولوية القضايا الوطنية. لكنها أيضًا رأت أن الشيوعيين المصريين قد مددوا الفرضيات القديمة للكومنترن حول المسائل الوطنية والاستعمارية ليقدموا مآثر بهلوانية في دفاعهم عن أسوأ تجاوزات الناصرية. فطبقًا لهذه الفرضيات – وبالطبع طبقًا لفلسفة الثورة الخاصة بناصر – ستقوم الثورة في البلاد المشابهة لمصر على مراحل متتابعة، المرحلة الأولى سياسية (لتحقيق السيادة وتقرير المصير) والثانية اجتماعية (لاجتثاث اللامساواة الطبقية).
في توقيت نشر «المبتسرين»، تبلورت المشكلة في ذهن أروى باعتبارها نابعة في نهاية المطاف من الموقع المهم الذي شغلته الوطنية في خطاب الشيوعيين المصريين. وتشير المقدمة لاستنتاجها النهائي أنه لا حل جاهز لمعضلة الكتاب: في نفس الوقت الذي كانت فيه النضالات الثورية مرتبطة عضويًّا بالمسألة الوطنية، لم تعد المسألة الوطنية قادرة على على تغذية بذور التحرر الثوري، وتتساءل «هل يعد هذا نوعًا من عدمية ما بعد الوطنية؟» لتجيب بعد ذلك «في هذه اللحظة، قطعًا».
تاريخ الشيوعيين المصريين
بالرغم من استخدامها لغة رقعة الشطرنج الخاصة بزمن الحرب الباردة، فإن قراءة أروى صالح لأسباب ضعف الحركة الشيوعية المصرية تعد تصحيحًا مفيدًا لكثير من التأريخات الموجودة. في الواقع لقد شدد إطار تفسير الحرب الباردة على أهمية الأولويات التي وضعتها الدول الأجنبية في تحديد استجابة الشيوعية المصرية: بالنسبة لوالتر لاكور وشيمون شامير، كان الاتحاد السوفييتي هو الفاعل الأهم، بينما اعتبر أنور عبد الملك أن العلاقات الاقتصادية الجديدة بالولايات المتحدة وألمانيا الغربية في الستينيات هي التي تفسر قمع الدولة للحركة الشيوعية.
وقد رد آخرون حل الحزب الشيوعي المصري في 1965 لقرار طوعي اتخذه الشيوعيون المصريون بإلغاء وجود منظمتهم، إما بسبب القمع (رفعت السعيد وطارق إسماعيل) أو إيمان حقيقي بمشروع الاشتراكية العربية الناصري (محمد شفيق العجواني)، أو التعبئة المثيرة للسخرية فيما بعد 1956 لتيار المراجعة العالمية الجديد (محمود حسين، الاسم الحركي الذي استخدمه مؤلفا الكتاب المهم «الصراع الطبقي في مصر 1945-1971»)، وطبقًا لهذا التفسير، فإن هذا التيار قد شجع الشيوعيين المصريين على «أن يتبعوا بلا خجل مسارًا هيأته لهم انتهازيتهم على أي حال، تحت مسمى إرباك البرجوازية برفع مصالح الطبقة البروليتارية في إطار حركة وطنية».
إن أروى في محاججتها تستدعي استنتاج جويل بنين في دراسته المهمة عن الماركسية المصرية والإسرائيلية، «هل كان العلم الأحمر يرفرف هناك؟» وقد أشار بنين إلى أن «ماركسية الأمميتين الثانية والثالثة الاقتصادوية والاختزالية» قد ترتب عليها «فهم غير كافٍ للوطنية وقوتها السياسية» من جانب الماركسيين المصريين:
مستندين على كتابات ستالين وماو، كانت لديهم رؤية ميكانيكية لنضالات التحرر الوطني باعتبارها مرحلة ابتدائية ضرورية سوف تتبعها بلا شك سياسات الصراع الطبقي.
وهذا ما قادهم لشرعنة الخطاب السياسي للوطنية، وفي خلال ذلك «يخلقون شروط نزع شرعية مشروعهم السياسي الطبقي والأممي». وقد استنتجت أروى، تمامًا كجويل بنين، أن الشيوعيين المصريين كانوا «باحتضانهم للحركة الوطنية قد سقطوا أسرى لها، وفي النهاية لقوا مصرعهم على أيديها»، فلم يكن بإمكانهم المزايدة على ناصر أبدًا، ولا حتى على شبحه، فيما يخص الشرعية الوطنية:
رهان خطير
لكن أروى تطلب منا أن نكون أكثر عطفًا في تقييمنا لهذه اللحظة، وتذكرنا بأن الشيوعيين المصريين كانوا قد حوصروا بوعي وطني معادٍ للاستعمار «اختاره لهم التاريخ». إن الحدود التي فرضها الاستعمار على حركات الجنوب العالمي كانت كلها حقيقية جدًّا. لم يكن هذا ببساطة فهم غير كافٍ من قبل الماركسيين المصريين للوطنية، ولم يكن ترديدًا ببغاويًّا عن غير قصد للنظرية الماركسية الغربي؛ لقد كانوا واعين تمامًا للمخاطر المتأصلة في المشروع الوطني.
إن مجادلة أروى – ويجب أن أضيف، نقدها الذاتي – هي بالتحديد أن الماركسيين المصريين لم يكونوا حالمين بشأن التوتر المحتمل (أو التناقض) بين المسألتين الوطنية والاجتماعية. لقد ساروا قدمًا وراء تحقيق السيادة الوطنية إما لأن مهنهم الأدبية والسياسية اعتمدت على ذلك، أو لأنهم آمنوا حقًّا – وهو إيمان منطقي وإن لم يكن فوق النقد – أن النضال الوطني كان أكثر إلحاحًا، أن التهديد الإمبريالي كان أكثر خطرًا من أي تهديد آخر.
وبينما كانت رؤيتها للمجموعة الأولى شديدة السخرية، حيث امتلأت بهم قائمة الوزراء المصريين ورؤساء الجامعات والمحررين في فترة ما بعد 1967 (لويس عوض ومحمود أمين العالم كمثالين). في نفس الوقت كانت المجموعة الثانية تضم عددًا أكبر ممن مروا بنفس التجارب التي ألهمت العديد من الشعوب المستعمرة – من منظري الاستعمار كفرانز فانون وألبرت ميمي – للإيمان بأن الوطنية كانت مهمة اليوم في عصر التحرير.
من منظورهم، لم يكن هناك اختيار غير السير وراءها، حتى مع إدراك أن هذا كان – كما يشير ميمي – «رهانًا خطيرًا، حيث إن المسافة بين الوطنية والفاشية أقصر من المسافة بين الوطنية والثورة».
على أي حال، باعتبارها ابنة كل من ثورة ناصر والأممية الثالثة، كانت أروى أكثر ميلًا لصالح رفاقها القدامى، حتى إن كانت قد تمنت أن يصعدوا جبلًا ليموتوا. كما كانت أكثر تعاطفًا مع دوافعهم حيث قالت: «ليس هناك ما نخجل منه هنا. بل إن الأمر كله كان منطقيًّا …».
ما وجدته أروى أكثر مدعاة للخجل، ربما، كان فشل جيلها في النظر عبر الصرح الهش للمشروع الوطني، عدم قدرتهم على عمل كشف حساب والحكم بإفلاسه حتى حين كان ينهار أمام أعينهم. كان هذا هو الحال بعد مرور عقد على وفاة ناصر، وفي الواقع يبقى كذلك اليوم أيضًا.
في النهاية، كانت أروى مترددة حين حاولت الإجابة على سؤال ما الذي كان بإمكان جيلها فعله مختلفًا (بما أن معاداة الاستعمار حتمت الوطنية)، مع إدراكها للمهمة المستحيلة التي تواجه من سيأتون بعدهم (لأنه لم يكن من السهل القضاء على الوطنية).
«وجود رائع ومكتمل»
لسنوات قليلة بعد اتفاقيات كامب ديفيد، استمرت أروى، التي كانت وقتها عضو اللجنة المركزية لحزب العمال الشيوعي، في كتابة المقالات السياسية وترجمة الأدبيات الماركسية لتعميمها بواسطة منظمتها السرية. في منتصف الثمانينيات، أدت أزمة اليسار، وخصوصًا الاعتداءات الجندرية بين رفاقها، أدت إلى إرباكها بالكامل. توجهت إلى منفاها الاختياري وقضت السنوات الخمس التالية تقاوم الأفكار الانتحارية وتسعى للدعم النفسي مستندة إلى خبرة التزامها ونشاطها الثوري:
لقد كنت طموحة. أردت أن أحيا الوجود بكل روعته واكتماله، أن أهرب من الملل المميت لأسرة من الطبقة الوسطى لكن تم سحقي على كل صعيد. لقد عانيت لكني أيضًا كنت متحيرة تمامًا. لماذا تمت الإساءة إليَّ بينما لم أحلم أبدًا بإيلام أحد؟
حين ظهرت في مصر مرة أخرى في 1991، كانت لديها ترجمة لكتاب التروتسكي الفلسطيني توني كليف «الصراع الطبقي وتحرير المرأة». بصراحة، فإن المحرر، صلاح عيسي، غيَّر عنوان الترجمة العربية إلى «نقد الحركة النسوانية». وطبقًا لأمينة النقاش، فإنه حين رفض عيسى تغيير العنوان، هددت أروى بسحب الكتاب إذا لم يُسمح لها بجملة افتتاحية فيه توضح أن رفيق مذكر قام بإملاء عنوان هذا الكتاب الأساسي في الماركسية النسوية. (وبكل أمانة تجاه المحرر، كان عنوانه على الأرجح أكثر صلة بمحتوى الكتاب من العنوان الأصلي الذي وضعه كليف).
كان نقد أروى للعلاقات الجندرية بين الماركسيين الثوريين في الفصول الأخيرة من الكتاب – تذكير صارخ بصمت اليسار المصري عن المسألة في الدعاية العلنية – هو مساهمتها الأقيم والأكثر إيلامًا للقلب، ومحاولة تلخيص هذا النقد هنا قد يعد ظلمًا لإرثها ولخبرة كل النسوة الثوريات الأمس واليوم – قامت سماح سليم بترجمة مخلصة لـ «المبتسرين» كجزء من القائمة العربية الجديدة التي تنشرها Seagulls books الكائنة بكولكاتا.
يكفي أن أقول إن رفاق أروى بعد أن قرروا أن الصراع الطبقي خاضع للقضية الوطنية، باشروا بالتخفف من شعورهم بالذنب، ومن مهامهم الثورية بإدراج قضية الجندر والتحرر الجنسي ضمن التقلبات الأبدية «لإلحاح الصراع الطبقي».
لم تجد أروى في هذا الفشل شيئًا منطقيًّا، كما لم تستطع الشعور بأي تعاطف معه. في حين أن تقييمها تم تأكيده بشكل ساحق من خلال رد الفعل المسموم من قبل رفاقها عند نشر الكتاب في 1996، الذي تعرضت بعده للهجوم والمضايقات والنبذ. في النهاية قادها كامل التجربة للقفز من حافة بلكون في الطابق الحادي عشر بإحدى شقق القاهرة في 1997.