بروتس ويهوذا وعشري: كولاج فني عن خيانة الأصدقاء
هل تخيلت يومًا شعور يهوذا الإسخريوطي في عشائه الأخير مع السيد المسيح وهو يعلم في قرارة نفسه أنه خائن؟ بل يزداد الأمر سوءًا عندما ينظر المسيح بكل الوداعة والحب والسماحة التي خلقها الله لتلاميذه ويقول: أنا أعلم أن من بينكم خائنًا، وأنا أسامحه، تمر على يهوذا كل تلك الأحداث عقب طقسهم المعتاد، حيث يغسل المسيح أقدام تلاميذه، بئس الموقف الذي وضعت نفسك به يا يهوذا!
حتى أنت يا بروتس! الطعنة الأشهر في تاريخ قبل الميلاد
في ملحمته الشهيرة «يوليوس قيصر»، يستمد شكسبير أحداث المسرحية المكونة من خمسة فصول من الأحداث الفعلية التي عايشها قيصر نفسه بداية من انتصاراته وتعيينه ديكتاتورًا دائمًا على روما، حتى المؤامرة ضده التي اشترك فيها أعز أصدقائه، أركوس بروتوس.
وفي خاتمة تلك الملحمة التراجيدية في فصلها الخامس يجتمع مجلس الشيوخ بما فيهم بروتوس الذي تم إقناعه بقتل صديق عمره لتحيا روما، ولما كان حب روما في قلبه لا يضاهيه شيء لم يأخذ الكثير من الوقت ليقتنع، يذهب إليهم قيصر، يتناقشون حول مطالبهم التي يرفضها قيصر بسبب نرجسيته، يحتد النقاش، ينهالون على قيصر بالطعنات من كل صوب، يسقط أرضًا، وأخيرًا يتلقى الطعنة القاتلة في ظهره من بروتوس بعد أن كان يحتمي به منهم، ينظر له والدهشة تملأ عينه، يتساءل: «حتى أنت يا بروتوس؟» ليقابله الرد: «إني أحبك، ولكنني أحب روما أكثر»، فما كان من قيصر إلا أن سقط أرضًا بعد طعنة صديقه القاتلة وهو يقول: «إذاً فلتحيا روما، وليسقط قيصر».
أما عن المخرج أولي إدل في تجربته لتقديم أسطورة يوليوس قيصر في عام 2002، فيصور هذا المشهد، وبالأخص من بداية الطعنات من أعين قيصر نفسه؛ المفاجأة، الاضطراب العام، الخوف والغضب من ناحيته تظهر في حركة مشوشة للكاميرا وموسيقى توحي بالطابع الملحمي بآلات نفخ نحاسية توحي بالغلظة، ومن ناحية أخرى نرى مقتطفات من حالة الرعب على وجه بروتوس، وبعد كم هائل من الطعنات يهرب الجميع ويبقى قيصر صامدًا ينظر باستجداء لصديقه، تهدأ الموسيقى نوعًا ما لتتماشى مع مشاعر قيصر الذي تعرض لخيانة قذرة لتوه وتمهد للخيانة الأكبر، يهرب الجميع وفجأة، تأتيه طعنة بروتوس لتسقطه أرضًا، وفي الخلفية نواح أوبرالي يناسب شخصًا على وشك الموت على يدي أفضل أصدقائه، يركع قيصر ويقول وهو ينازع: «أنت!» ولم تكن تلك الطعنة دليلًا كافيًا له على تعرضه للخيانة، فظل يتشبث بصديقه فيقوم الآخر بدفعه عنه ليسقط أخيرًا، ميتًا!
ولم يكن الفن التشكيلي كذلك أقل اهتمامًا بهذه اللحظة الملحمية الملهمة، فنجد لوحة شهيرة رسمت في بدايات القرن التاسع عشر للرسام الإيطالي فينتشنزو كاموتشيني، الذي استوحى من ملحمة قيصر لوحته بعنوان «وفاة يوليوس قيصر»، فنجد تجمع المتآمرين على قيصر ومن ضمنهم بروتس – الذي بالمناسبة يعتقد وفقًا لبعض المراجع أنه ابن غير شرعي لقيصر – على اليمين، ومن بين انطباعات كثيرة ترسم على وجوه أعضاء مجلس الشيوخ بين الغضب والغل والاندهاش نجد ابنه/ صديقه لم يقدر على النظر في عينه مباشرة.
يهوذا يحضر أسوأ عشاء في حياته
ومن تجمع مجموعة من البشر في لوحة يعود وقتهم إلى قبل الميلاد ننتقل إلى لوحة أخرى تجمع مجموعة من البشر أيضًا، ولكن هؤلاء زمنهم بعد الميلاد، أو هو الميلاد نفسه، في اللوحة الأشهر في تاريخ الفن التشكيلي للمبدع ليوناردو دافنشي «العشاء الأخير» ، نجد المسيح في المنتصف ويلتف من حوله تلاميذه الاثنا عشر ومن بينهم يهوذا الخائن، وقيل الكثير في تفسير تلك اللوحة التي تعد الأشهر بالتأكيد، ولكن خذ من وقتك دقيقة وتأمل هذا المنبوذ القابض على كيس بيده! نعم هو يهوذا الذي جرت العادة أن يصور منفردًا معزولًا في جانب آخر من اللوحة كما هو الحال في لوحة أندريه ديل كاستانجو في القرن الخامس عشر، عوضًا عن ذلك نجده وسط الحواريين، بل هو أقربهم للمسيح، والحقيقة لم يكن هذا هو الاختلاف الوحيد في لوحة دافنشي، بل نجد المسيح بدون هالته المعتادة، كما اختار دافنشي لحظة إخبار تلاميذه بوجود خائن ليجسد بها «العشاء الأخير» في حين جرت العادة أن يتم تمثيل اللحظة التي يقسم بها المسيح خبزه و يخبر تلاميذه أنه سيضحي بجسده من أجلهم ومن أجل خلاص البشرية بأكملها، وعن سبب اختياره لهذه اللحظة بالأخص، يرجع النقاد ذلك لما فيها من حركة يمكن تصويرها وكأنها لقطة سينمائية بلغتنا الحالية، فمن اليمين لليسار ستجد ثلاثة عشر شخصًا، كل منهم يحمل على وجهه انطباعًا بشريًّا برع دافنشي في تصويره.
دعونا نقترب للوحة أكثر، للحد الذي يسمح لنا برؤية المسيح عن قرب، ستجد على وجهه كل تعبيرات الهدوء الذي لا يتناسب مع موقفه، فهو يعلم أنه غدًا سيتجرع أسوأ ألم عرفته البشرية وهو الصلب حد الموت، ومع ذلك ستجده هادئًا حكيمًا مبتسمًا راضيًا، ويشير إلى خبزه المقدس وباليد الأخرى يشير لطبقه، هذا الطبق الذي قضى على التساؤلات وقضى على يهوذا كذلك، يتساءل “توماس” على يمين المسيح وهو يشير على نفسه إذا كان هو الخائن الذي تحدث عنه المسيح، فيجيبه المسيح أن الخائن أكل معي في نفس الطبق، وقتها يتأكد يهوذا أن المسيح يعلم أنه الخائن، ومع ذلك غسل قدمه قبل العشاء وسمح له أن يأكل معه في نفس الطبق، وعن يهوذا في اللوحة نجده في بؤرة الظلام ولا يظهر كامل وجهه، ومع ذلك تجد عليه ملامح الخزي بسبب ما ارتكب، ولعل ذلك السبب هو الذي جعل وجهه يشع بكل هذا السواد من اللوحة.
تقول الأسطورة إن «عشري صاحب صاحبه» فهل صدقت؟
إذا واجهت أي صعوبة في الإجابة على السؤال المطروح في بداية المقال عن إحساس يهوذا أثناء العشاء الأخير لما للشخصيات من قدسية دينية، فدعني أعرض لك الموقف بشكل آخر ونغير السؤال، ترى ما شعور عشري وهو يحتسي كوب الشاي الأخير له مع إبراهيم على المقهى، وهو يعلم أن المعلم «هيربي إبراهيم الليلة»، أعتقد أنك لن تحتاج للكثير من الوقت حتى تجيب عن هذا السؤال، فأداء عمرو واكد في هذا المشهد بالتحديد قال الكثير.
وعلى الرغم من أن واكد ممثل مشهور عالميًّا ومحليًّا، وله العديد من الأدوار العالمية مع نجوم عالميين، فإن دوره كعشري في فيلم إبراهيم الأبيض من إخراج مروان حامد هو درة أعماله، ولا يضاهيه أي دور آخر.
وعن علاقة إبراهيم بعشري يمكنك معرفة مدى عمقها من الدقائق الأولى في الفيلم، فنجد إبراهيم يتصدر للذهاب لسيد شيبة لإرجاع «الكيس» على الرغم من أن عشري هو من فقده، وكأنه منقذه ومخلصه، بعدها يختار المخرج عشري ليقوم بدور المعلق الصوتي على الأحداث، ويبدأ بوصف إبراهيم وشجاعته وقوته،فضلًا عن حكمته، لتكون بداية إرساء علاقة ثنائية تؤكد كل الدلالات أنهما فرد واحد وكل متكامل، تعاهدا الحفاظ على بعضهما على بعض.
ويستمر الفيلم في تأكيد هذا الخط الخاص بعشري وإبراهيم بشكل جانبي متضافرًا مع باقي الخطوط الدرامية، وفي الثلث الأخير من الفيلم تبدأ هذه العلاقة في الاهتزاز، بدأه عشري عندما حاول اغتصاب حورية في عشة إبراهيم وهو يعلم كم تعني له، ومع خروج إبراهيم من السجن، تبدأ معاناة عشري في النظر في عيون إبراهيم مباشرة، بالأخص أثناء عتابه له، يزداد ألمه عندما يعانقه إبراهيم معلنًا عن سماحه له، فينفجر في البكاء!
وبعدما تنجح «حورية» في إقناعه بتسليم إبراهيم، يعود عشري لمسكنه ويحاول الانتحار ويفشل، وأثناء حواره مع إبراهيم الذي يبدؤه بقوله«أنت عارفني بقى». يتألم عشري لمعاناة صديقه في حبه لحورية، وفي نفس الوقت تبدأ الحرب النفسية على عشري بسؤال: “بتوع إيه الخمس بواكي دول يا عشري”.
على المقهى، وإبراهيم في أقصى درجات السكر تقابله أقصى درجات القلق والتوتر والندم والشعور بالخزي جميعًا تظهر على وجه عشري، يظهر المعلم ورجاله في حصان طروادة ترافقهم موسيقى هشام نزيه وتجليات من الشيخ زين محمود، توحي بأنك على وشك مشاهدة ملحمة بنكهة روحية، حينها، وحينها فقط يدرك إبراهيم أن “عشري صاحب صاحبه قد سلمه في مقابل خمس بواكي فقط”. ومع سيل الدم والعنف، وفي محاولة أخيرة من عشري بعيون مليئة بالدموع يحاول إنقاذ إبراهيم، ولكن رجالة الزرزور تقرر أنه حان الوقت ليأخذوا السر الإلهي من عشري، يصرخ إبراهيم باسم صديقه الذي فارق الحياة لتوه.
بدافع الحب غالبًا اختار عشري تسليم إبراهيم للمعلم لتأديبهما معًا، على أن يكتشف إبراهيم أنه خان صداقته معه وحاول التهجم على حبيبته التي من أجلها خاطر ويخاطر بكل شيء، وإن كان على إبراهيم أن يكتشف خيانته فعليه أن يكون ميتًا في نفس اللحظة كعقاب مستحق، كذلك باع يهوذا المسيح في مقابل كيس من الفضة بخس ثمنها، ولكنه كان ضعيفًا، لم يكن إيمانه وحبه قويّين كما حاول المسيح أن يعلم تلاميذه دائمًا، وكذلك طعنة بروتوس كان سرها هو المحبة، فهو أحب روما أكثر من صديقه وأبيه غير الشرعي، ولنفس سبب الحب كانت طعنته هي القاتلة لقيصر لأنه من شخص أحبه كثيرًا، ولهذا بالتحديد الخيانة من الأصدقاء تكون هي الأصعب، لأنك تحبهم وآخر ما يخطر على بالك أن يكون هذا الحب هو سبب الألم والموت أحيانًا!