السلاح القديم الجديد: «المدفعية» في الحروب الحديثة
على مدار الساعة تصل الأسلحة الدولية لدعم أوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي، لكن النجاح الأكبر للقوات الأوكرانية دائمًا ما يُقال إنه بسبب نوع محدد من السلاح المُرسل إليها، المدافع. مدافع هاوتزر التي توفرها دول العالم لأوكرانيا دائمًا ما تميزت بصناعة الفارق في الحروب، لأنه بالإمكان جرها وسحبها بسهولة، وتتحرك على شاحنات متحركة بدلًا من أنظمة الدفاع التي تتحرك على المجنزرات. وتستطيع تلك المدافع مع التوجيه الدقيق إصابة أهدافها على مدى 500 كيلو متر. ويمكن للمُطلق إطلاق 4 قذائف في أقل من دقيقة ويستغرق أقل من 3 دقائق لتجهيزه لإعادة الإطلاق.
الوصول لهذه الحالة المثالية من المدافع سريعة الإطلاق خفيفة الوزن سهلة التحرك، سبقه عديد من المراحل. اختلفت تلك المراحل لكنها دائمًا ما اتفقت في كونها قادرة على قلب أي معركة لصالح من يملك المدفع. يمكن اعتبار المقلاع كالإرهاص الأول لفكرة المدفعية. لكن أول استخدام لقذيفة بارودية كان عام 1132 ميلادية على يد عائلة سونج الحاكمة لاختراق أسوار إحدى المدن، ثم بدأت البشرية في تطوير تلك القذائف وتلافي أخطائها.
تنوعت القذائف من الصخور والباورد وأحيانًا سهام ضخمة أو بقايا من حطام أرض المعركة، لكنها كانت ضخمة ويصعب تحريكها، مثل المدفع الذي استخدمه الأتراك في حصار القسطنطينية عام 1453 ميلادية، إذا استخدموا مدفعًا يزن 19 طنًا ويحتاج إلى 200 رجل لتحريكه يساعدهم في جره 60 ثورًا، ويمكن إطلاقه 7 مرات فقط في اليوم الواحد.
ومع دخول القرن السادس عشر، وتطور صناعة الحديد والبارود، أصبح من الممكن صناعة مدافع أقل حجمًا ليظهر أول مدفع يتنقل على عجلات متحركة. المدفع يجر على عجلتين كبيرتين، وله ذيل حديدي لمنع ارتداده وسقوطه للخلف، لكن هذا المدفع رغم تطوره لم يستطع مجاراة سرعة تغير معطيات أرض المعركة، وحركة الجنود التي تتغير باستمرار مع تغير حركة الجنود المقابلين لهم، ومع تطور البنادق أصبحت المعارك سريعة وتعتمد على المناورة والاختباء، فتظهر المعارك اللاحقة في القرن وما تلاه دون ظهور حقيقي للمدافع، وتراجعها لصالح البنادق.
المدافع تُنقل بالطائرات
لكن عادت المدافع للظهور بعد اختراع الكبسولة. كيس من القماش يربط المقذوف والبارود معًا، ما جعل تحميل المدافع أكثر أمانًا وأسرع، لكن واجههم مشكلة بقاء بضع قطع القماش داخل المدفع، وتم التغلب عليها باختراع قطعة حديد على شكل حلزون ولها مقبض لتنظيف قلب المدفع، وأعاد الجنرال جوستافوس أدولفوس استخدام المدافع في المعارك، لكن ظل التحام المشاة هو من يحدد نتيجة المعركة رغم ظهور مدافع أقل وزنًا وحجمًا.
وظهرت المدافع جلية في القرن التاسع عشر، في المراحل المتأخرة من الحرب الأهلية الأمريكية. خصوصًا مع وضع الفرنسي جان بابتسيت تصميمًا موحدًا للمدافع، ما سهل تصنيع وتطوير المدافع بتصميم موحد على مستوى العالم، وتم اختراع المشعل ذي الحجر لإطلاق المقذوفة بعد أن كانت المدافع تعمل بإشعال كمية قليلة من البارود بواسطة عود ثقاب أو فتيل ثم تصل النار للمقذوفة، وكانت معضلة تلك الطريقة هي أن مياه الأمطار كان تطفئ الشعلة، أو يؤدي استعمال بارود أكثر من اللازم إلى اشتعال كبير.
وبقدوم الحرب العالمية الأولى حفرت القوات في الجهة الغربية خنادق كبيرة وخاضت المعارك من مواقع ثابتة. بهذا الثبات والبطء في الحركة عادت المدفعية لدور البطولة مرة أخرى، فكان معظم القتال تراشقًا بالمدافع. وقصف الألمان عام 1918 باريس بمدافع عملاقة أُطلق عليها مدافع باريس، وكانت تقصف المدينة من على بعد 120 كيلومترًا. لكن بدخول الطيران في المعادلة تضاءل دور المدافع، لسهولة اكتشافها وتدميرها.
وتلافى العالم ذلك الخطأ حاليًا بنقل المدافع في أرض المعارك عبر الطائرات المروحية، في ما يُعرف باسم النقل الجوي للمدافع، وبذلك أصبحت للمدافع حرية حركة أكبر، وبرزت المدافع مرة أخرى عام 1953 حين أطلقت الولايات المتحدة أول قذيفة مدفعية لها رأس نووي صغير بمدفع عيار 280 ملم. فظهرت المدافع النووية وأصبحت المدافع الأصغر حجمًا حديثًا لديها القدرة على إطلاق رؤوس نووية.
الألمان يصنعون العمالقة
المدفع يتكون من سبطانة ماسورة لها فتحتان. الفوهة حيث تخرج القذيفة، والحجرة، الترباس، حيث توضع القذيفة. ويتم تحديد حجم المدفع بعياره، أي بقطر القذيفة التي توضع فيه. ثم يوجد في المدفع المغلاق، أو كتلة الترباس الذي يُغلق حجرة القذف. ويوجد في المغلاق الإبرة التي تشتعل أو مجموعة الإطلاق. وتكون الماسورة من الداخل إما ملساء أو لها بتعرجات، التعرجات هدفها أن تسبب دوران القذيفة بحيث تنطلق ومقدمتها للإمام فتحافظ على ثباتها، أما في حالة الماسورة الملساء فكانت القذائف تحتوي على ذيل يوجهها.
وفي الحرب العالمية الثانية عرف العالم فائدة المدافع حين أوجعته المدافع الألمانية التي حرص الألمان بعد انتهاء العالمية الأولى على تطويرها بأفضل صورة ممكنة، فاستخدموا مدافع لدك الحصون والخنادق. خصوصًا مع اعتناق فرنسا لعقيدة التحصينات الثابتة مثل خط ماجينو. فابتكر الألمان مدفع جوستاف بوزن 1500 طن، فكان بذلك أضخم مدفع في التاريخ. وعياره 800 ملم. وقذيفته وزنها 7700 كيلو جرام، ومسافة إطلاقه 47 كيلو مترًا. ومن أبرز انتصاراته تدمير مخزن للذخيرة على عمق 30 مترًا تحت الأرض.
وصنع الألمان عملاقًا آخر يدعى دورا وشارك في حصار ستالنيجراد، لكنهم فككوه حين انهزموا أمام السوفييت، مخافة أن يستخدمه السوفييت ضدهم. وللسخرية قدّم الألمان للعالم مدفعًا يُدعى «إيفر جرين» (الأخضر دائمًا) من عيار 150 ملم. هذا المدفع دائم الشباب من أجداد مدافع الهاوتزر المعروفة اليوم، الهاوتزر مدافع طويلة المدى تطلق قذائفها في مسار مقوس، ما جعلها حلقة وصل بين مدافع الكانون، المشاة، التي تطق قذائف أخف في مسار شبه مستقيم. ومدافع المورتر، التي تطلق قذائف ضخمة تصعد لأعلى بشدة تهبط بشكل شديد التقوس لتحدث سقوطًا مريعًا. وكان الهاوتزر السلاح الأبرز في الحرب العالمية الثانية.
أما مدافع المورتر فتكون ذاتية الحركة عبر وحدة تنقل تشبه الدبابة، وهدفها الأساسي تدمير الحصون. مثل المورتر كارلجيرات، فكان وزنه 137 طنًا، وقذيفته وزنها 2 طن. وخرج منه للعالم 7 قطع فقط. وشارك في حصار ليننجراد، وفي قصف وارسو عام 1944.
المدافع تستعيد مجدها
لكن المفاجأة أن أكثر المدافع التي أحدثت أثرًا في الحرب العالمية الثانية كان مدفعًا خفيفًا، 75 ملم فقط. قصير الماسورة، وتستخدمه المشاة كسلاح من أسلحتها ما قلب الموازين لأن المدفعية لم تكن من أسلحة المشاة قبل تلك اللحظة، وكان ذلك المدفع تحديدًا يمكن أن تجره الخيول أو يحركه الجنود، وكانت أعطاله شديدة الندرة، ويطلق أكثر من 12 قذيفة في الدقيقة. بسرعة 210 أمتار في الثانية. وإمكانية تفكيكه لـ10 قطع ليحمله الجنود منفردين، ويصعدون به الجبال إذا لزم الأمر.
بهذا المدفع الصغير نسبيًا دخلت المدافع في العقل العالمي كسلاح للمشاة أيضًا وبدأت معارك تصغير حجم المدافع وزيادة قوة قذائفها بغض النظر عن حجمها، حتى يتسنى للجنود حمله على الكتف مثلًا أو إعادة فكه ونصبه بسرعة في أماكن متعددة خصوصًا أن المدافع لا تحتاج حماسة قوية من الجندي ولا بسالة في القتال كما كان السيف والبندقية يتطلبان منه، فببضع شهور من التدريب البسيط يمكن لأي جندي أن يصبح مدفعيًا ماهرًا.
ولكون المدافع تخفض من تكاليف خسائر الأرواح في المعارك، نجد إسرائيل في صدارة الدول التي تعمل على تطوير مدافعها بشكل دائم، فكشفت إسرائيل منذ شهور عن أحدث مدفع هاورتز لديها يحمل اسم سيجما عياره 155 ملم، وقيمة المدفع الواحد 125 مليون دولار أمريكي. يحمل المدفع على مقصورة متحركة مضادة للألغام، ويجلس فيها 3 أفراد محاطين بنظام حماية من كافة أنواع الرصاص، ويتميز المدفع بنظام تحميل وتلقيم أوتوماتيكي بالكامل.
المدفع الإسرائيلي الجديد ينضم لقائمة معدودة للغاية من المدافع المرموقة في العالم. مثل مدفع بِي إل زد- 52 الصيني. وهو أول مدفع بنظام تحميل شبه أوتوماتيكي، ويُطلق 4 قذائف كل 15 ثانية. ويضرب أي هدف على بعد 100 كيلو متر. ولا يحتاج الطاقم لمغادرة المركبة التي تحمل المدفع أثناء إعادة التلقيم أو الإطلاق. أما مدفع كواليستيا، الذي يسميه الروس إله الحرب، فيُوجه بالليزر، ويعد من أنجح المدافع في العالم ويتميز بأنه يستطيع الدوران وإطلاق النيران في اتجاهات مختلفة بفارق زمني قصير.
المدفعية صارت في الحروب الحديثة أشبه ما يكون بالضربة القاضية في الملاكمة. فبعد أن كانت مجرد أسلحة تضمن لحاملها مساحة من الأرض الخالية ليتقدم فيها، باتت أكثر تطورًا ودقة لتتمكن من تدمير أي نقطة تُوجه إليها. تراجع الغرب عن استخدامها وتوجه للصواريخ الموجهة والطائرات المسيرة، لكن ظلت روسيا والصين على عادتهما في تطويرهما. وهو ما أثبتته الحرب الأوكرانية الأخيرة.
وعادت الولايات المتحدة للاعتراف بأن المدافع التي أحالتها للتقاعد مثل الهاورتز كان خطأ، وتداركته بإدخالهم مرة أخرى للترسانة العسكرية وتسليم كميات منه لأوكرانيا بعد أن رأت المدفعية الروسية وهي تمهد الطرق لقوات القيصر وتدك الخنادق والحصون.