الرحم الصناعي: هل أصبحنا على مشارف استزراع البشر؟
تنظر مئات الآلاف من السيدات، ممن يعانين من أمراضٍ في الرحم أو قنواته تمنع الحمل، إلى اختراع الرحم الصناعي الخارجي، على أنه حلم فردوسي، فهو الأمل الوحيد لهن في الإنجاب دون الوقوع في المحاذير الأخلاقية لما يُعرَف بـ (الرحم البديل)، والذي يجعل امرأة أخرى تشارك بدمها ولحمها في إنتاج الجنين.
لكن هل نحن بالفعل على مشارف الوصول إلى اختراع رحم خارجي فعَّال يُعتَمَد عليه في القيام بنفس ما يقوم به الرحم الطبيعي وبنفس مستوى الفاعلية؟
الإجابة كما سنرى في السطور التالية، هي: نعم ولا.
ما هو الرحم الصناعي؟
قطع العديد من الباحثين أشواطًا كبيرة في مسار ابتكار رحمٍ صناعي يُعتَمَد عليه، لكن حتى الآن ما تزال تلك التقنية تحت التجريب والاختبار، والهدف النهائي الذي ما يزال بعيدًا عن المتناول حتى الآن، والذي يرغب العلماء في الوصول إليه هو امتلاك القدرة على إنتاج رحمٍ صناعي قادرٍ على استبدال ما يفعله الرحم الطبيعي بشكلٍ تام، وبالتالي التمكن من إتمام حملٍ كاملٍ من الألف إلى الياء خارج الرحم الطبيعي.
النماذج التي يعمل عليها العلماء حاليًّا كأرحامٍ صناعية هي محاكاة للرحم الطبيعي، فهي تحتوي على وعاء يعمل كحافظة، وحاليًّا في الدراسات التي تُجرى على حيوانات التجارب يكون عبارة عن أكياس بلاستيكية مُصنَّعة بشكلٍ خاص ليتلاءم مع المهمة. ويحتوي الوعاء على سائل يُناظر السائل الأمنيوسي الطبيعي الذي يُحيط بالجنين داخل الرحم، ويعمل على امتصاص الصدمات وحماية الجنين، ويساهم في نمو جهازيْه الهضمي والبولي. وكذلك يجب أن تشمل منظومة الرحم الصناعي وسيلة لأكسجة دم الجنين إمَّا داخليًّا أو خارجيًّا، وكذلك لضخ المغذيات إلى دمه، مما يعني ضرورة إنتاج ما يشبه المشيمة الصناعية لتتولى تلك المهمة.
في عام 2017، نُشر في دورية Nature العلمية الشهيرة، أن فريقًا من الباحثين نجح في عمل رحمٍ صناعي تمكَّن من الحفاظ على حياة حَمَلٍ جنين لحوالي أربعة أسابيع. يشمل هذا الرحم الصناعي نظامًا لضخ الأكسجين إلى جسم الجنين عبر حبل سُريٍّ صناعي، وأحيط جسمه بسائل يشبه السائل الأمنيوسي الطبيعي. وخلال الأسابيع الأربعة، تمتع الجنين بمعدلاتٍ طبيعية للعلامات الحيوية، مثل نبض القلب وضغط الدم ومعدلات الأكسجين في الدم، وكذلك شهد جسمُه نموًا طبيعيًّا مقارنة بنظرائه في الحمل الطبيعي، بما في ذلك النمو الطبيعي للرئتين، وكذلك لأنسجة المخ. واختيار الحملان لمثل هذه التجارب لم يحدث عبثًا، إنما راجعٌ إلى التشابه في الحياة الجنينية بين أجنة الحملان والإنسان.
في نفس العام، أعلن فريق من الباحثين اليابانيين والأستراليين توصلهم إلى إنتاج رحمٍ صناعي قادر على الحفاظ على حياة أجنَِّة الحملان في مراحل مبكرة من الحمل، حيث صمد 7 من أصل 8 من أجنَّة الحملان المبكرة لمدة خمسة أيام كاملة في الرحم الصناعي، وهو عبارة عن حافظة شفَّافة تحتوي على سائلٍ أمنيوسي يُفلتَر ويجدَّد أولًا بأول، ويضخ إلى جسم الجنين المغذيات والأكسجين المذاب والمضادات الحيوية عبر حبلٍ سري. وقد نُشرت نتائج البحث في دورية أمراض النساء والتوليد الأمريكية المرموقة AJOG. واعتبر الباحثون أن ما فعلوه يوازي الحفاظ على حياة جنين إنسان يولد مبكرًا في الأسبوع 22 إلى 24 من الحمل، وهو أقصى مدة حاليًّا تعتبر الحد الأدنى الذي تقدر الحضَّانات فائقة الجودة على التعامل معه حتى الآن.
في عام 2019، أعلن فريق طبي هولندي أنهم يحرزون تقدمًا كبيرًا في إنتاج رحمٍ صناعي خارجي، وأنهم يتوقعون بمعدل التقدم الحالي أن ينجزوا تلك المهمة في خلال عشرة أعوام. وقد تلقى هذا الفريق الهولندي في ذلك العام دعمًا ماليًّا كبيرًا يقدَّر بحوالي 4 ملايين و660 ألف دولار أمريكي من أجل إتمام هذا المشروع الطموح.
والتصميم الذي يعمل عليه الفريق الهولندي عبارة عن خمس بالونات يعوم الأجنة داخلها في سائل مُعد خصوصًا ليشبه السائل الأمنيوسي الطبيعي داخل الرحم، وتتصل بتلك البالونات خراطيم خاصة لنقل السوائل والدم من وإلى الجنين، إلى مشيمة صناعية تُضاهي المشيمة الطبيعية وتتصل بالجنين عبر حبلٍ سري كما يحدث في الحمل الطبيعي. وكلما نما الجنين أكثر، وزاد حجم جسمه، نُقِلَ بشكلٍ آمن من البالونة إلى بالونة أكبر من الخمس.
واعتبر فريق الباحثين في لقاءٍ مع هيئة الإذاعة البريطانية BBC، أن مشروعهم يُعتبر تطويرًا لفكرة الحضَّانات الموجودة حاليًّا، مع تلافي مشاكلها الحالية.
كذلك تمكَّن باحثون في معهد وايزمان في الكيان الصهيوني من ابتكار رحمٍ صناعي نجح في إنضاج بلاستيولة (من المراحل الجنينية المبكرة التي تنتج بعد انقسام النطفةٍ الملقَّحة) إلى جنين فأر كامل الأعضاء، وبقائه على قيد الحياة 11 يومًا، وهو ما يمثل حوالي نصف مدة الحمل الطبيعية.
جديرٌ بالذكر أن من أكبر التحديات الحيوية التقنية التي يواجهها مسار البحث في الرحم الصناعي هو التعقيد الشديد في بناء المشيمة، التي تتكون داخل الرحم مع الحمل، وتعمل كواجهة حيوية للاتصال بين الدورتيْن الدمويَّتيْن للأم وللجنين، يحصل من خلالها الجنين على ما يحتاج لحياته ونموه من أكسجين ومغذيات. هذا التعقيد، يجعل من الصعوبة بمكان حتى الآن ابتكار مشيمة صناعية ذات كفاءة وتكلفةٍ مادية مقبولة.
تحديات أخلاقية جمَّة وهندسة جديدة
إلى جانب التحديات الفنية والتقنية التي ما يزال لزامًا على الفرق البحثية تجاوزها للوصول إلى رحمٍ صناعي كامل، فالتحديات الأخلاقية لا تقل بروزًا وخطورة، فالاستبدال التام المنشود للحمل الطبيعي سيُفقد البشرية ما يمثله من قيمة معنوية ونفسية مهمة، تخلق رابطة الأمومة المتينة بين الأم والجنين الذي نما في أحشائها وغذَّته من لحمها ودمها. كما أن إنتاج الأجنة بكثافة خارج الرحم قد يؤدي شيئًا فشيئًا إلى نزع الأنسنة عن عملية الحمل وتحويلها شيئًا فشيئًا إلى عملية إنتاج مادية تشبه ولو جزئيًّا الإنتاج الحيواني، مع فوضى أكثر في عملية الإجهاض التي ستُصبح أكثر سهولة بضغطة زر.
وهناك جانب آخر مهم من المنظور الأخلاقي، حيث يمكن لابتكار رحمٍ صناعي كامل أن يُتيح للمثليين جنسيًّا المتزوجين أن يحصلوا على أطفال بشكلٍ أسهل بمجرد الحصول على متبرعين لهم ببويضات أو حيواناتٍ منوية، دون الحاجة إلى رحمٍ بشري بديل لإتمام الحمل. مما سيضاعف بشكلٍ كبير أعداد الأطفال الذين يربَّوْن في أُسرٍ مثلية، وما يحمله هذا من تبعات تربوية واجتماعية ونفسية لم يتَح للدراسات النفسية والاجتماعية حسمَ أبعادها.
في المقابل، سيؤدي توافر الأرحام الصناعية الكاملة إلى القضاء على ظاهرة تجارة الأرحام البديلة التي بدأت تتفشَّى في البلدان الغربية، والتي تُجيز الرحم البديل قانونيًّا، والتي غالبًا ما يُصاحبها محاولاتٌ للالتفاف القانوني حول الاشتراطات، وكذلك استغلال غير أخلاقي للحاجات النفسية والمادية للأطراف المشتركة في الأمر.
حضَّانات أكفأ: الهدف الأقرب واقعيًّا وأخلاقيًّا
في مقابل التحديات الأخلاقية التي ذكرناها في الجزء السابق، فلعلَّ أبعدَ جانبٍ في قضية الرحم الصناعي، بعيدًا عن إثارة الجدل الأخلاقي، هو أن تكونَ بديلًا أكثر فاعلية عن الحضَّانات الحالية، والتي يُلجَأ إليها لإنقاذ الأطفال المبتسرين. تلك المهمة التي تصبح أكثر صعوبة، بل مستحيلة كلما وُلد الجنين باكرًا قبل إتمام مراحل نموه في رحم الأم.
ومن المعلوم أنَّ السبب الأكبر لوفاة حديثي الولادة هو الولادة قبل الأوان Prematurity، فهي مسئولة كما يذكر المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC عن أكثر من 16% من وفيات الأطفال حديثي الولادة. وقُدِّرَتْ نسبة الأطفال الذين يُولَدون قبل الأوان (قبل الأسبوع 37 في الحمل) في الولايات المتحدة الأمريكية، عام 2021، بحوالي 10.5%.
الهدف القريب الذي يمكن تحقيقه ببعض التطور في هذه التقنية، هو أن تتيح الفرصة للتعامل مع أجنَّة بشرية أكثر نضجًا، لتجتاز بها مراحل حرجة تصعُب على الحضَّانات الحالية، بمعنى أن تُستَخدَم تقنيات الرحم الصناعي في إنقاذ الأطفال المبتسرين المولودين قبل الأسبوع 22 من الحمل، وهو الحد الأقصى الذي يمكن للحضَّانات الحالية إنقاذه، وكذلك تقليل المضاعفات الصحية المزمنة على نمو الرئتيْن والمخ وغيرهما من الأعضاء الحيوية لدى الكثير من الناجين من الأطفال المبتسرين.