الذكاء الاصطناعي يحاول إنقاذنا ويكتشف مضادًا حيويًا جديدًا
لم تُحسن البشرية استغلال النعمة الفريدة التي أتاحَتها لنا الأقدار باكتشاف العبقري إلكساندر فلمنج للبنسيللين عام 1928، أول مضاد حيوي فعّال يقتل البكتيريا، وينقذ أرواح الناس منها، وما تلاه من اكتشاف وتطوير عشرات المضادات الحيوية مختلفة المدى والفاعلية، والتي أسهمت في إنقاذ حياة الملايين من البشر، وجعل ذكريات الأوبئة البكتيرية الفتّاكة خيالًا من الماضي ولو إلى حين.
أساء الكثيرون استخدام ذلك الكنز، لا سيّما بإعطاء المضادات الحيوية لكل ما هبَّ ودبّ من الأدوار المرضية، وحالات العدوى، مما تسبّبَ في نجاح أنواع عديدة من البكتيريا في تطويرِ مقاومة فعّالة ضد كل المضادات الحيوية تقريبًا، مما جعل من المشاهد شبه اليومية – حتى في أحدث مشافي العالم المتقدم – ظهور نتائج مزارع بكتيرية لبعض المرضى، تُنذر بوجود بكتيريا عالية الضراوة، ومقاوِمَة لكافة المضادات الحيوية المتاحة.
في الولايات المتحدة وحدَها، والتي تمتلك أقوى منظومة صحية في العالم، يُصاب نحو 3 ملايين إنسان بعدوى بكتيرية مقاوِمَة في العام الواحد، يسقط منهم أكثر من 35 ألف ضحية، وهو رقم تعجز بعض الحروب الكبيرة عن التسبُّب فيه في عامٍ واحد. ويُنذرُنا الراسخون في هذا العلم بأنه إذا لم تُكتشَفْ مضاداتٌ حيوية جديدة بحلول عام 2050م، فإنَّ البكتيريا المقاومة ستفتكُ بحياة 10 ملايين إنسان سنويًا.
اقرأ: سوء استخدام المضادات الحيوية .. انتحار جديد للإنسانية
ومما زاد الطين بِلَة، رغم الكثير من جهود المنظمات الصحية الدولية، والهيئات الصحية المحلية لا سيَّما في الدول المتقدمة في احتواء ظاهرة سوء استخدام تلك المضادات، والبكتيريا المقاومة، أَنَّ البحث العلمي الطبي لأكثر من عِقديْن كامليْن، قد عجز عن التوصل إلى مضادات حيوية جديدة، لأسباب متنوعة، من أبرزها ضعف المردود بالنسبة لشركات الأدوية، والتي تفضل التركيز على أبحاث أدوية السرطان الباهظة على سبيل المثال. أي أن عدوَّنا – البكتيريا – يتسلح يوميًا بالمزيد من آليات المقاوَمَة ضد أفتك أسلحتنا، بينما تجمَّدت ترسانتُنا عند مستوى تقنيات أواخر القرن العشرين.
أمام تلك المعطيات الخطيرة، تفاقمت الهواجس بأن البشرية على وشكِ العودة إلى عصر ما قبلَ البنيسيللين.. لكن كان لمئات الباحثين المرابطين على الجبهة في تلك الحرب الضروس آراء أخرى.
منذ أشهر قليلة، بشَّرَنا فريق بحثي من جامعة مكماستر الكندية، يضم الباحث المصري عمر الحلفاوي، بالتوصل إلى مضادٍ أولي قادر على مواجهة بكتيريا MRSA المُقاومة، وأن أبحاثًا أخرى قادمة على الطريق في هذا المجال الخطير. واليوم، نحن على موعدٍ مع نقلةٍ جديدة، أهدتْنا إياها التقنيات الحديثة، قد تكونُ سببًا في اكتشاف عديدٍ من المضادات الحيوية القادرة على مقارعة كافة أنواع البكتيريا الضارية والمقاوِِمَة.
التقنية الحديثة تضرب مُجدّدًا
في النصف الثاني من شهر فبراير/ شباط 2020م، أعلن فريقٌ بحثي من معهد ماساشوستِس للتقنية MIT عن نتائج أولية واعدة في مجال إنتاج مضادات حيوية جديدة. استخدم الباحثون أحد تطبيقات الذكاء الاصطناعي المشهورة، والمعروفة باسم تعليم الآلة أو Machine learning، والتي تسمح إنتاج تطبيقات ذكية قادرة في ذاتها على استيعاب البيانات الموجودة، وتحليلها، والاستنباط الذاتي منها، والقياس عليها من أجل التصرف في مواقف لا تتوافرُ فيها بيانات كاملة. باختصار، إكسابُ الآلة القدرة على التعلم، كما يفعل عقل الإنسان.
اقرأ أيضًا: جوجل تبسّط لنا كيفية تعلم الآلة
غذى الباحثون التطبيق ببيانات أكثر من 2300 مركب أظهرت فعالية ضد بكتيريا الإيشريشيا كولاي، وذلك ليتعرف الذكاء الاصطناعي على آلياتٍ مختلفة لهزيمة البكتيريا. على مدار أيام، فحص التطبيق القادر ذاتيًا على التوصل إلى استنباطاتٍ غير تقليدية، أكثر من 100 مليون من المركبات المختلفة، شاملةً تلك البعيدة في تركيبها الكيميائي عن المضادات الحيوية المعروفة، والتي أصبحت البكتيريا على معرفة وطيدة بها، أهَّلتْها لمقاومتها بفعالية. من بين هذا الكم الهائل من المركبات، انتقى الباحثون 100 مركب الأوائل على قائمة اختيارات التطبيق، لتُعرض لاختباراتٍ لاحقة، فيما يشبه التصفيات.
الهاليسين، هو اسم المركب الأفضل الذي توصّلَ إليه الذكاء الاصطناعي في تلك التجربة، ليكون مضادًا حيويًا واعدًا. للمفارقة، كان الهاليسين بالأساس تحت البحث كدواءٍ لمرض السكر، لكنه لم يُظهرْ تفوُّقًا كبيرًا حتى الآن في هذا المجال. وفي مفارقة أكبر، مقتبسة من أجواء التنمية البشرية، أثبت هذا المركب أن عدم النجاح في مجالك الأصلي، لا يعني أنك لن تنجح بشكلٍ متميز في مجال آخر لا يقل أهمية.
أظهرَ الهاليسين نتائجَ باهرة في التجارب على الفئران في المعمل، تجعل منه مضادًا حيويًا واسع المجال، قادرًا على الفتك بالعديد من الأنواع البكتيرية الخطرة، والأكثر شهرةً في مقاومة المضادات الحيوية المتاحة مثل البكتيريا المسببة للسل – الدرن – والأسيْنيتوباكتر Acinetobacter التي ظهرت منها سلالات مقاومة لكافة المضادات الحيوية، وكذلك المكوَّرات المعوية enterococci المقاومة للكاربابينيم – من أقوى المضادات الحيوية – وأيضًا بكتيريا الكوليستريديَم. وكان من اللافت أن التركيب الكيميائي للهالسين مختلفٌ عن معظم المضادات الحيوية المعروفة، مما أظهر أهمية التقنية الجديدة في اكتشاف مثل هذا المركب من خارج الصندوق. وهنا 8 مركبات أخرى أظهر نتائج جيدة، إلا أنها أقل كفاءة من الهاليسين.
ومن المُبَشّر أن آلية عمل المركب الجديد ضد البكتيريا مختلفة كثيرًا عن المضادات الحالية، فهو يعطل حركة البروتونات عبر الجدار الخلوي للبكتيريا، وبعد أكثر من شهر من الاختبارات المعملية عليه، لم تظهر أي سلالات بكتيرية مقاوِمَة ضد تلك الآلية. كذلك فإنَّ التقنية التي استُخدمَت للتوصل إلى الكشف الحالي يمكن ببعض التعديلات استخدامَها للتوصل إلى علاجاتٍ لأمراضٍ عُضالٍ أُخرى مثل السرطان، وبعض الأمراض العصبية المستعصية الأخرى.
هل أجهَزْنا على البكتيريا المُقاومَة بالضربة القاضية؟
رغم تفاؤلنا بالنقلة العلمية التقَنية الجديدة، فإنها ما تزال خطوةً أولى، تحتاج إلى شهورٍ وسنوات من البحث المتواصل حتى تتجاوز مراحل التطوير المطلوبة وصولًا إلى منتجٍ نهائي يمكن إنتاجه على نطاق واسع، ليصل إلى أرفف الصيدليات، ودواليب المشافي، وأوردة المرضى حول العالم. كما أنه لا ضمانة على أن سوء استخدام المضادات الجديدة لن يحدث مستقبلًا ليلحقُها بسابقيها. جديرٌ بالذكر أنَّ الفريق البحثي ما يزال يأمل في التشارك مع فرقٍ أخرى أو شركات أو جهاتٍ تمويلية وفنية، لمواصلة الأبحاث، وتطويرها إلى استخدام التقنية في تصور وتخليق مركبات من العدم يمكن لها أن تعمل كمضادات حيوية فائقة القوة والدقة.
إذًا، فالمعركة مع البكتيريا ما تزال مُستَعِرة، وبأيدينا نفس الأسلحة القديمة إلى حين. والواجب الأول هو حسن استغلال ما معنا، بالتخلي عن العبث في تعاطي المضادات الحيوية دون حاجة طبية حقيقية، كما يفعل الكثيرون باستخدامها ضد أدوار البرد الفيروسية العادية.
اقرأ أيضًا: مجموعة البرد .. هيا ندمر المناعة ونُغذي البكتيريا
ومن الضروري أيضًا التروّي في استخدام المضادات الحيوية واسعة المجال – مثل مجموعة الكاربابينيم carbapenems ذروة سنام عائلة البنيسيللينات، وغيرها – والتي تمثل الملاذ الحالي ضد الإصابات البكتيرية القوية، وحالات التسمم البكتيري العام. وهذا الأمر مسئولية الجهات الصحية، الملزمة بتقنينها كما تفعل مع الأدوية المخدّرَة، لأن سهولة الوصول إليها جعلت الكثير من الأطباء يستخدمونها ضد الأدوار البكتيرية الأقل خطورة.
وبقي كذلك أن ننشر الوعي الخاص بين أفراد المنظومة الصحية، والعام لدى عموم الناس، بخطورة قضية المضادات الحيوية على حاضرنا ومستقبل أطفالنا.