استخدموا المكياج وألفوا الحكايات: فن التمثيل عند عرب الجاهلية
يبدو لأغلب الباحثين أن بداية التأريخ لفن التمثيل (المحاكاة) عند العرب تبدأ من أواسط القرن التاسع عشر، وتحديدًا مع تكوين مارون النقاش أول فرقة مسرحية عربية في بيروت عام 1848م، بعد أن تأثر بهذا الفن حين زار إيطاليا.
ولكن الثابت، بحسب ما تتفق أغلب المصادر، أن «خيال الظل»، هذا العرض التمثيلي، كان شائعًا في القرون الإسلامية الوسطى، حيث عرفه العرب في العصر العباسي الثاني، وشاع في الدولة الفاطمية ثم الأيوبية والمملوكية والعثمانية.
خيال الظل فن مسرحي يعتمد على تحريك الدمى من خلف ستار، فيظهر خيالها للمشاهد، معبرًا عن حكاية معينة.
ولكن أستاذ الأدب العربي الشهير الدكتور محمد حسين الأعرجي، يرى أن لفن التمثيل جذورًا عند عرب ما قبل الإسلام، واستمر في القرون الإسلامية الأولى، وتطور تدريجيًا بحسب ما فصَّل ذلك في دراسة له بعنوان «فن التمثيل عند العرب».
ولكن ماذا عن قواعد ممارسات هذا الفن عند العرب القدامى، هل مارسوا التأليف والإخراج والتمثيل الجماعي، ماذا عن الديكور والماكياج، هل كان لهذه الأساسيات أصول لديهم ولو بدائية؟ هذا ما نوضحه.
الكرج و«المونولوجست»: من الجاهلية حتى العصر الأموي
في ضوء تعريفنا للشكل الأول من التمثيل بأنه «فن المحاكاة»، يُمكننا اعتبار أن أول إرهاصة لنشاط تمثيلي على ما يبدو عند عرب الجاهلية، كانت السعي بين جبلي الصفا والمروة في مكة، خلال الحج، في محاكاة للسيدة هاجر أم النبي إسماعيل، حين كانت تقطع تلك المسافة بين الجبلين وتصعدهما، بحثًا عمن ينقذها هي وابنها من العطش، ففعلت ذلك 7 مرات، وهو نفس عدد الأشواط التي قطعها الحجيج قبل الإسلام وبعده.
يقول الدكتور محمد يوسف نجم في كتابه «صور من التمثيل في الحضارة العربية.. من الكرج حتى المقامات»: إن وثنية العرب كانت معقدة تقوم على معبد وصنم وسادن وقرابين وطقوس و«شعائر تمثيلية».
وينقل نجم عن شاعر صدر الإسلام حسان بن ثابت، قوله:
ثم يفسر «نجم» كلمة «ميامس» على أنه مأخوذة من لفظة «Mimus» اللاتينية، التي تعني «الممثلين الهزليين»، أي أن العرب كان لديهم دراية بالتمثيل الهزلي.
ولكن الأعرجي لا يرى فيما سبق أدلة واضحة على وجود لفن التمثيل بمفهومه الاحترافي، وإنما كانت مجرد إرهاصات لهذا الفن، كنوعٍ من المحاكاة البدائية لقصص لعبت دورًا مركزيًا في صياغة العقلية العربية.
أما البداية، فيرى الأعرجي أنها كانت في العصر الأموي (661: 750م – 41: 132هـ)، حين كانت مدينتي الكوفة والمدينة المنورة مركزين للمعارضة السياسية، فقرر ساسة بني أمية إلهاء أهلهما عن ذلك بـ«الكُرَّج». وفي هذا العصر ظهر أداء تمثيلي، بشكلٍ فردي.
ومن وصف الأعرجي نستشف أن هذا الأداء فيما يبدو يشبه ما يؤديه المونولوجست في العصر الحديث.
ويستشهد أستاذ الأدب العربي بديوان الشاعر الشهير في العصر الأموي، جرير (تـ728م)، لافتًا إلى تكرار مصطلح «الكرج» أكثر من مرة به، بمعناها الفني، وربما الوحيد لدى العرب، في إطار مشاحناته الشعرية مع خصمه اللدود الفرزدق.
و«الكُرّج» كلمة غير عربية، تسمى بها لعبة مجسمة للحصان، وتتخذ للعب، بحسب «لسان العرب». وتدل مصادر عدة أنها ارتبطت بشكل وثيق بالتمثيل الهزلي.
وكان الكرج معروفًا من قبل العصر الأموي (عصر جرير والفرزدق)، ففي كتاب «الروض الآنف» للسهيلي، الذي يُقدِّم شرحًا لسيرة النبي التي كتبها ابن هشام، نقرأ أن الكرج كان من الأدوات التي يلعب بها المخنثون، وهو ما يأخذنا إلى أن هذا الكرج كان موجودًا من قبل النبي، إذ ليس من المعقول أن يكون قد استحدث في عهد النبي، يقول الأعرجي.
الفن التمثيلي الأول في العصر الأموي الذي استخدم فيه الكرج، هو فن الحكاية، هذا الذي هدد «مخنث» بأن يذكر جرير فيه إذا هجاه بالشعر، حيث قال: «إن هجاني أخرجت أمه في الحكاية»، بحسب ما جاء في «الأجوبة المسكتة» لابن أبي عون.
ولم يكن وصف الرجال بـ«المخنثين» مقصودًا به أمرًا جنسيًا محضًا، وإنما كان تأنيثهم على سبيل المجاز، حيث كان لديهم «لينا في القول، وخضابًا في الأيدي والأرجل كخضاب النساء، ولعبًا كلعبهن»، بحسب ما يذكر السهيلي في «الروض الأنف».
والليونة والرقة من الحساسية التي يفترض أنها تنطبع على أي فنان، ولكن العرب كانوا يرونها صفات أنثوية، وإذا أتى بها الرجال فهم مخنثون.
أما فن الحكاية فهو المحاكاة، فـ حاكيت فلانًا، أي فعلت مثل ما فعل، وقلت مثل قوله سواء لم أجاوزه، بحسب «لسان العرب». وهذا التعريف ربما نراه منطبقًا على ما نراه في فن التمثيل اليوم. فالأصل في الحكاية أن تكون تقليدًا للآخرين بإعادة تقديم كلامهم وحركاتهم، أو بمعنى أدق تقمص شخصياتهم.
ونجد الجاحظ يعطي تعريفًا للحكاية على أنها ليست مجرد قصِّ ما حدث، وإنما قصه بأداء تمثيلي، معتبرًا أن هذا الحكاي صاحب مهنة لها قواعد، حيث يقول في «البيان والتبيين»:
ويضيف الجاحظ موضحًا أن المحاكاة لم تكن في اللسان ومحاكاة الأصوات فقط، وإنما كانت في لغة الجسد أيضًا، فيقول:
ويبدو من قول الجاحظ أن الحكاية كانت فنًا هزليًا، يشبه ما يفعله المونولوجست في زماننا، إذ يبالغ المحاكي في محاكاته، ويجمع الطرائف ويقلد أشكال من يحاكيهم.
وبهذه المبالغة أيضًا تصبح المحاكاة فنًا ساخرًا ناقدًا، ولذلك هدَّد المخنث بتقليد أم جرير في حكايته، ما كان سيؤلم جرير وينتقص منه في أعين الناس.
العصر العباسي وحكاية أكثر احترافية: تمثيليات قصيرة
بسبب ازدهار التجارة في العصر العباسي (750: 1517م)، نتج ثراء فاحش للبعض، وخلق ذلك هوة كبيرة بينهم وبين من سواهم، بخاصة الفلاحين الذين تعسف الولاة والعمال في تحصيل الضرائب منهم، ما أدى إلى اندفاع الناس أو طوائف منهم إلى الهزل والبحث عما يضحكهم، وبالتبعية لذلك ازدهر فن الحكاية، وتكسب من يعملون بها منها.
وجاء في «مروج الذهب» للمسعودي، أن الخليفة العباسي المعتضد أحضر ابن المغازلي، وكان من الحكائين، فقال له: بلغني أنك تحكي وتُضحِك، وأنك تأتي بحكايات عجيبة ونوادر. فرد: نعم يا أمير المؤمنين، الحاجة تفتق الحيلة، أجمع بها الناس، وأتقرب بها إلى قلوبهم، وبحكايتها ألتمس برهم، وأتعيش بما أناله منهم…».
بجانب احتراف فن الحكاية، والأداء التمثيلي الفردي، تطور الأمر في العصر العباسي إلى التمثيل الجماعي، فيما يشبه التمثيلية، ويوضح الأعرجي أن الحكاية لم تكن تُؤَدَّى بشكل فردي فقط، أو المسرحية حديثًا.
ويروي أبوالفرج الأصفهاني في كتابه «الأغاني»، عن محمد بن خلف وكيع، قصة تعود إلى زمن الخليفة العباسي الأمين بن هارون الرشيد (توفي 198هـ)، مفادها أن عبدالله بن محمد الخلنجي الذي تولى قضاء الشرقية في بغداد، كان من عادته الجلوس في المسجد مستندًا إلى أحد أعمدته الأسطوانية، ويأتيه المتخاصمون للفصل بينهم، وكان من عادته ألا يتحرك من وضع إسناد ظهره ورأسه إلى العمود، إلا حين يأتيه متخاصم أو أكثر.
وفي مرة أعد له شخص- وُصِفَ بأنه كان ماجنًا- حيلة ليسخر منه (مقلب)، فوضع مادة لاصقة (غراء) على العمود، وحين استند الخلنجي إلى العمود التصق غطاء رأسه بالعمود دون أن يشعر، وبعدها أتى إليه خصمان ليحتكما إليه، فاعتدل في جلسته وأقبل بجسده إلى الأَمام، وهنا انكشفت رأسه، فغضب الرجل وعلِم أنها حيلة أعدت للسخرية منه.
تحولت هذه الحكاية إلى تمثيلية يحاكيها الممثلون، حيث يقول الأصفهاني: «واشتهرت القصة في بغداد، وعمل له علوية- المغني- حكاية أعطاها للزفانين والمخنثين (فأخرجوه) فيها».
من هذا النص نستنتج أن هناك من يلقن المحاكين قصة يخرجونها، وكأنه كاتب سيناريو، فيؤدونها وفق أصول فنهم (أخرجوه) وما يهدفون إليه من الضحك.
وقد رأينا أن علوية أعطى القصة للمحاكين، ومن المرجح أن يكون قد أضاف لها وصاغها بطريقة فنية، حيث جاء في نص الأصفهاني: «عمل لها حكاية»، وكان يمكن أن يكون النص: أخبر الحكائين بها.
وكان يمكن أن يحصل الحكاؤون على القصة من ألسنة الناس، بما أنها شاعت، ولكنهم أخذوها من علوية تحديدًا، الذي أعد لها حكاية، لأنها حرفته، أي أنه كان يمارس فن التأليف.
ديكور ومكياج وممثلون: تكنيكات فنية في إخراج الحكاية
بعيدًا عن جانب التأليف، نلاحظ أن قصة الخلنجي تقوم على أكثر من شخص، وهم: القاضي الخلنجي نفسه، والماجن الذي وضع الغراء على أسطوانة المسجد، ثم الخصمان اللذان قدما يحتكمان إليه، أي أن الحكاية تستلزم 4 ممثلين على الأقل لتأديتها.
ونستنتج أيضًا أن من يؤدون الحكاية لا بد أن يلبسوا ملابس معينة، على الأقل غطاء الرأس الخاص بالقاضي (هو أساس الحبكة الفنية لحكاية الخلنجي)، ويجوز الماجن أيضًا، لتمييزه عن الخصمين اللذين أتيا للاحتكام فيما بينهما، وهنا نحن أمام ما يشبه عمل «الاستايلست في زماننا».
كذلك لا بد من وجود عمود يشبه عمود المسجد، أي أننا أمام ضرورة لإعداد ديكور خاص بالحكاية.
ومما يرجح اهتمام الحكائين (الممثلين) بالأزياء في العصر العباسي، أن الحسين بن شعرة، الحكاء الشهير، حين أراد أن يحاكي حاكم مصر والشام أحمد بن طولون في مجلس أحمد بن محمد ابن المدبر «دخل خزانة الكسوة، ولبس منها مثل ما كان على أحمد بن طولون» بحسب ما يذكر البلوي في «سيرة أحمد بن طولون».
كذلك يخبرنا البيهقي في «المحاسن والمساوئ»، أن المجتمع العباسي كان فيه من «يحتال في وجهه حتى يجعله مثل وجه خاقان ملك الترك، ويسوده بالصبر والمداد، ويوهمك أنه وَرِم»، أي يضع المكياج الذي يمكنه من تمثيل الشخصية.
وفي حيل النخاسين (تجار الرقيق) أنهم «إذا أرادوا أن يطولوا الشعور أن يوصلوا في طرفه من جنسه، وإذا أرادوا الوضع من الإماء أن يلصقوا في الأصداغ شعرًا أبيض ليحث البيَّع على قبض الثمن» بحسب ما ذكر ابن بطلان في «رسالة في شرى الرقيق وتقليب العبيد».
ومن تلك الروايتين يتبين أنهم في هذا العصر عرفوا فنون المكياج، وعرفوا تركيب «باروكة الشعر».
أين كانت تؤدَّى الحكاية؟
لم تذكر المصادر أن هناك مسرحًا أو مكانًا مخصوصًا لأداء الحكاية، وإنما يمكن أن نستشف ذلك من قصة ذكرها الأنصاري الشرواني في «حديقة الأفراح».
حيث يروي أن رجلًا صوفيًا في زمان الخليفة العباسي المهدي، كان يأخذ الناس إلى تل، يومي الإثنين والخميس، وهناك يقدّم ما يشبه مسرحية يحاكم خلالها خلفاء سابقين.
على التل الذي كان يصعده والناس تلتف حوله وتشاهد، كان يأتي الرجل بغلمان ليحاكوا أبا بكر، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان وابنه يزيد، فيأتي بكل غلام يمثل شخصية من الشخصيات المذكورة، فيجلسه أمامه ويحاسبه، وكأنه (الصوفي) هو الله، فيرضى عن هؤلاء جميعًا بعد محاكمتهم، ويأمر بإدخالهم «أعلى العليين»، باستثناء معاوية ويزيد فيأمر بأن يوقع بهم في الهاوية.
من هذه الحكاية نستنتج أن هناك مكانًا معتادًا للرجل يذهب إليه في أوقات منتظمة (الإثنين والخميس)، وهذا المكان (التل) مرتفع عن الأرض المسطحة، ويستطيع جمهوره مشاهدته بوضوح وهو عليه، ومن فوق هذا المكان يصنع محاكاة ليوم القيامة، ويحاسب حكام المسلمين عما فعلوه.
كذلك كان في دمشق ما عُرف بـ«الميدان الأخضر»، وهو مكان مستدير ومحاط بسور، يذهب إليه الناس كل يوم سبت، ليشاهدوا «حلق المشعبذين، والمَسَاخِرة، والمغنين، والمصارعين، والفصالين»، بحسب ما ذكر القزويني في «آثار البلاد وأخبار العباد».
ويهمنا من هذا النص «المَسَاخِرَة»، وهم المحاكون الذين يؤدون حكاياتهم المضحكة في الميدان الأخضر.
السماجة والمضحك: من أنواع الحكاية
في زماننا هناك أنواع للفنون التمثيلية، يطول عدها، ولكن ماذا عن القرون الوسطى، وما شهدته من أنواع تمثيلية بدائية؟
ذكرنا أن خيال الظل شاع جدًا، بخاصة في العصر المملوكي وما بعده، وعرفناه ببساطة، ولكن قبل ذلك ربما نلحظ نوعين من التمثيل، بجانب الحكاية التقليدية.
ففي مجالس الخلفاء العباسيين، نلحظ مصطلحي «السماجة» و«المضحك»، بخاصة في القرن الثالث الهجري، وهما من فنون الحكاية.
السماجة، هو فن تطور في العصر العباسي، وكان حكرًا على قصور الخلفاء وحاشيتهم، يقول الأعرجي، موضحًا أنها كانت دائمًا مرتبطة بعيد النيروز دون سواه.
النيروز عيد فارسي، ولكن بتتبع أخبار حفلاته في قصور الفرس لم يُعثر على شيء يفيد أن ملوك الفرس كانوا ينصبون السماجة فيه.
وأول خبر يورده الأعرجي عن السماجة كان عام 219 هجرية، وتحديدًا في قصر الخليفة العباسي المعتصم.
السماجة هي تمثيل هزلي كوميدي، فأصحابها يؤدون بحركات بعض الناس ويمثلونهم في أصواتهم ويظهرون في مظاهر مضحكة، بحسب ما يقول الشابشتي (توفي 388هـ) في «الديارات». ويجوز أنها كانت أقرب لاستعراضات البلياتشو كما سنوضح.
في السماجة تُستخدم التماثيل والكرج، أما في الحكاية العادية فلم يكن يشترط ذلك، ومما جعل السماجة لا تُلعب إلا في قصر الخلفاء هو التكلفة الكبيرة التي تحتاجها، من تماثيل وأدوات وديكورات.
قطر الندي بنت خمارويه، زوجة الخليفة العباسي المعتضد بالله، أعدت لزوجها الخليفة سماجات في أحد أيام النيروز، بلغت تكلفتها 13 ألف دينار، بحسب ما يذكر الرشيد بن الزبير في «الذخائر والتحف».
ومن لوازم السماجة أيضًا أن يلبس من يؤديها أقنعة، وصفها الطبري في تاريخه بأنها «صور السماجة». كذلك هي مصحوبة باستعراضات راقصة، كما يوضح الرشيد الزبير.
أما المضحك، فكان يُسمَّى أيضًا بـ«المُساخِر»، وكان له أجر معلوم في مجالس الخلفاء والأكابر، بحسب الرشيد الزبير، واشتهر من المضحكين «عبادة المخنث»، وكان أبوه من طباخي الخليفة العباسي المأمون، وكان عبادة مساعدًا له، ولكن حين مات الوالد اتجه عبادة إلى «العيارة والخلاعة»، بحسب وصف «الديارات»، وكان المأمون يحبه ويحضره ليضحكه.
ومن المضحكين أيضًا «الحسين بن شعرة»، الذي كان يضحك الخليفة العباسي المتوكل، بحسب «المكافأة» لأحمد بن يوسف الكاتب.
ومنهم أيضًا أبوالورد، الذي قال عنه الثعالبي: «كان من عجائب الدنيا في المطابية والمحاكاة. كان يخدم مجلس المهلبي الوزير، ويحكي شمائل الناس وألسنتهم… ويضحك الثكلان…».
ولم يكن للمضحكين قواعد واضحة لفنهم، ولكنهم كانوا موهوبين في الإضحاك الارتجالي، وما يجعلنا ننسبهم إلى فن التمثيل كمحترفين، أنهم كانوا يحصلون على أجور مقابل إضحاكهم، إضافة إلى أسس ثانوية دلت عليها رواية عن أبي العبر الهاشمي- وهو من المضحكين- حيث قال، بحسب ما جاء في «جمع الجواهر في الملح والنوادر» للقيرواني:
كنا نختلف- ونحن أحدث- إلى رجل يعلمنا الهزل، فكان يقول: أول ما تريدون قلب الأشياء. فكنا نقول إذا أصبح: كيف أمسيت. وإذا أمسى: كيف أصبحت؟ وإذا قال تعال، نتأخر إلى الخلف…».
والرواية تشير إلى وجود معلم لفن الكوميديا، وتشير إلى ما يشبه القواعد في هذا الفن، وهي فعل عكس ما هو مألوف، لإحداث المفارقة، وهي روح الكوميديا.
نص تمثيلي مكتمل
في نهاية المقالة لا بد من الإشارة إلى العثور على كتاب بعنوان «حكاية أبي القاسم البغدادي»، وهو من تأليف أحمد بن محمد أبي المطهر الأزدي، نشره المستشرق آدم متز بهايدلبرج عام 1902، وكتب له مقدمة.
القصة التي حكاها المؤلف في الكتاب تدل أحداثها أنها لم تتجاوز القرن الرابع الهجري، أو القرن الخامس على الأكثر.
هذا الكتاب، ربما يكون هو الحكاية التمثيلية العربية الوحيدة التي وصلتنا مكتوبة من القرون الوسطى، وفيه نلحظ تكنيكًا في الكتابة يميل إلى أن يكون قريبًا من «السيناريو»، أو من فن الكتابة المسرحية؛ ففيه تحديد لزمن عرض الحكاية، وفيه وصف للمَشَاهِد (السيناريو) مصحوب بنص أحاديث من في هذه المشاهد (الحوار).