كتاب «فن الحب»: الوقوع في الحب أم الوقوف على الحب؟
هل لنا أن نسأل ما السر وراء السعي الدائم لمتابعة الأفلام الرومانسية ومطالعة الروايات العاطفية؟ تسحرنا برقيات الحب، تبكي عيوننا تلك الرسائل التي تجسد رغبتنا الملحة لوجود شريك نتقاسم معه أفراحنا وأحزاننا. نجرّد أنفسنا من كل الخيلاء أمام المحبوب لنبثه لواعج قلوبنا، كما في مناجاة كافكا لحبيبته ميلينا حين كتب إليها:
إن كان ستندال، الروائي الفرنسي، يرى أننا نقع في الحب حين يقول: «أن تقع في الحب، هو أن تشعر فورًا أنك مبتهج لسبب ما، وهذا السبب لا يمكن أن يكون مبهجًا إلا لأنه يجسّد شكلًا مثاليًا». فإن إريك فروم يرى أننا «لا نقع على الحب» بل «نقف على الحب»، بمعنى أن الحب واستمراريته ليس وليد صدفة ما، بقدر ما هو «فن» له أصوله وطرق تعلمه.
هل من المعقول أن أعقد دورة تدريبية على غرار دورات إعداد القادة، لتعليم كيف تحب في سبعة أيام وخمس ساعات وعشر ثوانٍ؟ كتابنا هذا يقر بأن للحب أصولًا كباقي الفنون من رسم أو تصوير أو نحت، وهذه الأصول علينا إدراكها قبل خوض غمار الحب حتى يؤتي ثماره.
يؤكد فروم على أن الحب هو الغاية القصوى التي نحيا لأجلها على اختلاف أنواعه: حب لله، وحب للنصف الآخر، وحب أخوي، وحب للذات، وحب أمومي، وحب أبوي، وحب جنسي شبقي.
فما هي ماهية الحب؟
يشير فروم إلى أن ماهية الحب تتمثل في العمل من أجل شيء لجعله ينمو ويزدهر، فالحب والعمل في فلسفته لا ينفصلان. فالحب حل وجودي لتخوف الإنسان الدائم من شعوره بالوحدة والانفصال، هذا الخوف يدفعه إلى الاتحاد مع شريك آخر يستطيع معه مواجهة تلك المخاوف.
ماذا يعطي المحب للمحبوب؟
تسمو قيمة الحب عند إريك فروم بالعطاء المطلق، ويصف فروم ذلك بعبارات في منتهى الجمال، حين يصف عطاء المحبوب بقوله:
ماذا يستلزم العطاء في الحب؟
يتطرق فروم للإجابة على هذا السؤال بقوله:
أنواع الحب
تتعدد أنواع الحب، بدءًا من حب الإنسان لذاته، فعلى خلاف المشهور بين الناس، فإن محبة الذات ليست نوعًا من الأنانية، بل هي مطلب أساسي حتى يستطيع الإنسان أن يمنح الحب لغيره، فالأديان حضت على أن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وحب النفس يتوافق مع الدعوة إلى حب الإنسانية جمعاء وأولها أنفسنا التي بين جنباتنا.
حب الإنسان لشريكه، وهنا تكمن كبرى مصائبنا! إذ بدعوى الحب؛ تنعدم المساحة الشخصية الخاصة بالشريك، وتنكر عليه فرديته، ويذوب كل طرف في شخصية الآخر، ويحاول كل شريك تشكيل الآخر حسب رغبته. محددًا له طبيعة علاقاته الجديدة، وتفضيلاته وهواياته، متجاهلًا طبيعته النفسية والفكرية. كما في مسرحية «بيت الدمية» لإريك إبسن، التي تتطرق لعلاقة مسز هيلمر مع زوجها حين أدركت أنها لم تكن في نظره سوى دمية يحركها بخيوط رغباته الخفية، وآثرت أن تكون نسيج وحدها.
بينما يتجلى الحب عند إريك فروم في مفارقة مدهشة: أن اثنين يصبحان واحدًا، ومع هذا يظلان اثنين! إذ إن الانصهار في بوتقة الحب الآخر لا يلغي شخصية الشريك.
يتطرق فروم في كتابه للحديث عن مشكلة الشريكين اللذين يعيشان في ذكرى حب ماضٍ متوهم، أو على أمل حب مستقبلي، وينسيان الحاضر فيموت الحب!
أما عن حب الله، فيستفيض إريك فروم في تحليله ويستشهد بمقولة جميلة لابن الرومي:
لا يغفل إريك فروم الحديث عن الحب الأمومي، فيذكر نقطة في غاية الأهمية، فبعض الأمهات تتحول علاقتهن مع أولادهن إلى علاقة تملكية، وتنظر إلى أطفالها كجزء من ممتلكاتها التي لها حرية التصرف بها، وتسيير حياتهم وفق ما تعتقده هي مناسبًا، وترى أن على أولادها رد الجميل لقاء تضحياتها، وسهرها على تربيتهم، وترفض تحت شعار المحبة، أو التعلق، أيّ محاولة للانفصال عنها أو معارضتها. يقول فروم:
أصول فن الحب
يقوم الحب عند إريك فروم على عدة ركائز: أهمها الإيمان بإمكانيات الشريك، ودفعه لتطويرها ومساعدته على تحقيق أحلامه، والعمل الدائم على تحفيزه للإنتاج وتحقيق ذاته، وهذا الأمر يستلزم التخلص من الأنانية والغيرة التي قد يتخوف البعض بسببها من تفوق الشريك عليه، كما تستلزم القدرة على المخاطرة في سبيل من نحب، والشعور الدائم بالمسؤولية الواعية نحو الشريك، بحيث لا تتحول إلى نوع من الهيمنة والتسلط تحت ستار السادية، أو نوع من الخضوع المذل مثل المازوخية.
تتفق هذه الرؤية مع ما ذهب إليه البرفيسور فكتور فرانكل في كتابه «الإنسان يبحث عن المعنى» حين ذكر:
«فن الحب» كتاب حافل بالتحليل النفسي، بلغة واضحة بعيدة عن التوصيفات الاصطلاحية المعقدة، لعلنا نفهم سبب خيبات الكثيرين من العلاقات التي خاضوا غمارها تحت مسمى الحب، بينما هي تتصف بكل شيء إلا الحب نفسه! ولنتذكر الأغنية الفرنسية التي تقول: «الحب ابن الحرية».