فن الفشل: إميل سيوران مدافعًا عن البطالة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
لم يُثقل إميل سيوران [1911-1995] نفسه بعبء وظيفة حقيقية باستثناء سنةٍ وحيدةٍ مؤلمةٍ قضاها مدرساً للفلسفة في إحدى المدارس الثانوية بوطنه رومانيا. فكما صرح قرابة نهاية حياته، «لقد تجنبت مهانة السلك الوظيفي مهما كان الثمن. وفضلت أن أعيش كطفيلي بدلاً من أن أدمر نفسي بتحمل إحدى الوظائف». عندما اختار الرحيل إلى فرنسا عام 1937، كان ما يهمه أن باريس هي «المدينة الوحيدة في العالم التي يمكنه أن يعيش بها فقيراً دون أن يشعر بالخزي، ودون تعقيدات أو مواقف درامية».
سار سيوران على درب سلفه الكلبي القديم ديوجين السينوبي (ابن مدينة سينوب) وصنع من فقره وساماً فلسفياً للعزة والكرامة. فراح يعتمد على عطف الغرباء وكرم الأصدقاء فيما يقيم أوده. ويرتدي ما يجود به الخيّرون من ملابس مستعملة أو يقوم على تسليتهم بما أوتي من ظرفٍ وألمعيةٍ وسعة معرفة مقابل وجبة طعام. وكان ليفعل أي شيء إلا أن يلتزم بوظيفة محترمة.
فعدم فعل أي شيء في عالم يبدو الجميع فيه مهموماً بعمل شيء ما –أي شيء– هو ما ألهم سيوران بأن هذا هو أسلوب الحياة الوحيد الذي يستحق اتباعه والدفاع عنه. فالحياة الخالية من الفعل والطموحات العملية والانهماك في العمل، وكل أسباب القلق، هي شكل الحياة الذي يعطى العيش معنى. فكما يقول سيوران: «كل ما هو طيب يأتي من الدعة، من عجزنا عن اجتراح أي فعل، أو إنجاز خططنا ومشاريعنا». كان هذا مبدؤه الذي اهتدى به. ذات مرة عندما سأله صحفي عن عاداته في الكتابة، كانت إجابته غاية في الصراحة: «معظم الوقت لا أفعل أي شيء. أنا أكسل إنسان في باريس … فليس هناك من يفوقني كسلاً إلا عاهرة بلا زبائن».
ربما كان سيوران يقول هذا على سبيل المزاح، ولكن كسله كان أمراً جاداً. لقد كان مشروع حياة مضنياً، منحه قصارى جهده وتفانى في خدمته أيما تفانٍ. فلقد سلك هذا النهج لا لكسل يَطْبَعُ شخصيته بشكل خاص، ولكن لظمأ لا يرتوي للمعرفة والفهم. فكما لاحظ أوسكار وايلد [1854-1900] قبل سيوران بعقود، «ألا تفعل شيئًا البتة لهو أصعب الأشياء في الدنيا، هو الأصعب والأكثر إعمالاً للعقل والفكر». إذا كان لنا أن نفهم العالم، فعلينا أن نكف عن الفعل فيه: علينا تأمله. فالتأمل والفعل عدوان لدودان. والتقاعس عن الفعل يكسبنا منظوراً لرؤية كل شيء بحياد كوني. والكسل والدعة يولدان عمقاً في الرؤية ومنظوراً فلسفياً حقيقياً.
لم يكتسب سيوران رؤاه العظيمة من الكتب أو معاهد العلم الراقية، بل من السير على غير هدى في شوارع باريس ومن السُّهادُ المُؤَرِّق الذي كان ينهش لياليه. ولم ينهل الفلسفة من أساتذته، ولكن من أحاديثه مع الشحاذين، والسكارى وبائعات الهوى. وعلى خطى الكسالى العظام الآخرين الذين يحتشد بهم تراث التأمل –من أمثال بارتلبي بطل هرمان ميلفل أو أُبلوموف بطل إيفان جونشاروف– صار سيوران مؤهلاً لاستكناه سهوب العدم الشاسعة التي تستبق مجيئنا للوجود، التي سوف تتلوه. كانت الوظيفة التي استحوذت عليه استحواذاً هي التحديق بشجاعة في وجه الخواء، حتى وإن ظل عاطلاً عن العمل معظم حياته.
وهكذا بعد أن تجلت لسيوران «رؤية التفاهة الكونية»، قرر أن أفضل شكل ممكن للحياة الاجتماعية هو العيش كمتطفل –كفاشل. ففي عالمٍ خِلْوٍ من كل معنى، كما قال: «ثمة شيء وحيد ذو أهمية، ألا وهو أن تتعلم كيف تكون فاشلاً». أصبح اعتناق الفشل، واستغلاله أفضل استغلال، والتوحد معه، المشروع الأعظم في حياته. كان طموح سيوران أن يصير فاشلاً ويتفانى بكل شغف في تحقيق ذلك مثلما يطمح الآخرون لبناء مجد لأنفسهم في مجال التجارة والأعمال أو الحياة الأكاديمية أو عالم السياسة. فقد أدرك مبكرًا أن الفشل يضعنا في المكان الأمثل لفهم سيرورة الحياة الاجتماعية، وكيف يمكنها أن تحول تفاعلاتنا الاجتماعية خلسة إلى شكل من أشكال العبودية الذاتية. الأمر الأهم، أن الفشل يمنحنا المفتاح لسر الحياة المرصود: ففي القلب من العالم –ونحن بداخله– ليس ثمة إلا مشروع فاشل. دعونا نفصل الأمر بعض الشيء.
جميعنا نفشل طيلة الوقت، في صغير الأشياء وكبيرها، ولكن فشلنا الأكبر قد يكون، كقاعدة، أننا لا نفهم الفشل. وطالما أننا غير مؤهلين للتفكر فيه، فلا يمكننا أن نفطن إلى دلالته الأوسع في حياتنا. فقد رسّخ فينا تاريخ طويل من التطور البشري الاندفاع بغير تبصر نحو كل ما يعظم فرصنا في البقاء على قيد الحياة في هذا العالم، ومن ثم مطاردة النجاح السريع. فتأمل الفشل، مثله مثل تأمل أجلنا المحدود وفنائنا، لا يُحَسّن فرصنا في النجاة. الفشل هو انبثاق العدم في قلب الوجود، ورغم الاستنارة الروحية التي يحققها تأمل العدم، فإنه لا يمكن فهمه من الناحية التطورية. لذلك عندما يحيق بنا الفشل –وهو حاضر دائماً– ننحو غريزياً نحو المضي قدماً، دون أن نكترث كثيراً أو ندرسه بعمق. ولربما كان هذا واحداً من أحلى انتصارات الفشل علينا: فعلى مستوى أعمق فنحن جٌبلنا على الفشل، بل والفشل بشكل مُتَردٍ (وهذا يشمل انهيارنا النهائي: وهو الفناء الجسدي) ومع ذلك تعودنا أن نبقى في نعيم جهلنا برسالة الفشل الخفية لأن نهج تفكيرنا لا يمكن أن يتصالح معه، تماماً مثلما لا يتصالح مع فكرة الموت نفسها.
ولنأخذ مقولة بيكيت عن كيفية الفشل بشكل أفضل، وهي المقولة التي يسترسل معلمو الاعتماد على الذات، ورجال الأعمال الذين تحولوا إلى مرشدين روحيين، وغيرهم ممن يقدمون مساعدات للمشاكل الحياتية في ترديدها بلا توقف. إذا استمعت إلى هؤلاء الحكماء، فليس هناك ما هو أسهل من العثور على إنجازات رائعة بعد تجارب كارثية. ومن هذا المنظور، فتجارب الفشل دائما حُبلى بإمكانيات التحقق، كشجارات المحبين، التي تجعل مصالحتهم في النهاية أكثر حلاوة – وهي حيلة صغيرة لإضافة نكهة التوابل لعلاقة عظيمة بالأساس. ومع ذلك، فما لا يذكره هؤلاء الحكماء هو ما يأتي مباشرة بعد مقولة الفشل المفضلة لديهم. فبالنسبة لصامويل بيكيت، هناك ما هو أفضلُ من الفشلِ بشكلٍ أَفضل: وهو الفشل بشكل أسوأ. الإخفاق مقابل الانهيار التام. الاستسلام. البحث عن مخرج. انتهاء الصلاحية. إليك السياق الأوسع لروايته القصيرة «هيا إلى الأسوأ» (1983)، وهو السياق الذي يتم إغفاله عادة من باب الراحة: «حاول مرة أخرى. افْشل مرة أخرى. أفضل مرة أخرى. أو أفضل بشكل أسوأ. افْشل بشكل أسوأ مرة أخرى. بل وأسوأ مرة أخرى. حتى تصاب بالغثيان للنهاية. حتى تتقيأ للنهاية». الفشل لا يؤدي بالضرورة إلى النجاح، بل لمزيد من الفشل – فشل مهين، مؤلم لا يحتمل. هل ذكرت لكم أن بيكيت كان صديقاً لسيوران؟ كتب له بيكيت ذات مرة: «بين خرائبك أَشْعُرُ أنني في بيتي».
تجميل الفشل بمعسول الكلام ما هو إلا جزء من عملية اجتماعية أكبر. فكل ما يبعث على البؤس والإزعاج والكآبة في ثقافتنا يجري تحييده وتعقيمه واستبعاده من المشهد على وجه السرعة. وليس الدافع لذلك أسباباً تتعلق بالصحة العقلية بقدر ما تتعلق بالعوامل الاقتصادية والاجتماعية. فلكي نكون أعضاءً منتجين في المجتمع، قادرين على كسب مبالغ ضخمة من المال وأن ننفق فوق طاقتنا، وأن نحصل على قروض لكي ندفعها مع الفوائد، فنحن بحاجة لأن نظل مكبلين بتلك «النظرة الإيجابية». فالرأسمالية لا تزدهر بفضل الانطوائيين والمكتئبين والميتافيزيقيين. فلن يُقْدم بنكٌ محترم على إقراض أحد العملاء اليوم ليفقد هذا العميل صوابه في الغد ويقرر أن يذهب مذهب هنري دافيد ثورو في هجر مظاهر الحياة المتمدينة المترفة والعيش في حالة من التسامي الروحي الزاهد في أحضان الطبيعة.
قد يشكل أصحاب الميول التأملية وذوو الخيال مصادر خطورة، شأنهم شأن العدميين من الفلاسفة. فإذا تُركَت أعدادهم لتتزايد دون كبحها، بإمكانهم أن يقوضوا أعتى المجتمعات حماساً للعمل والاجتهاد. لهذا السبب يجب مراقبة هذه الميول المضادة للمجتمع عن كثب واجتثاثها من جذورها إذا استلزم الأمر. ولهذا السبب ينتشر جيش جرار من المعالجين النفسيين، ومن يطلق عليهم مدربو الرفاه والسلوك المثالي في الحياة، وخبراء الاعتماد على الذات، والعاملين بمجالات الترفيه، ورجال التعليم، والمستثمرين وغيرهم من ذوي النفوس الخيرة ليضمن أننا لن نقع البتة على الجانب المظلم للوجود، دع عنك التحديق في هاوية العدم، كما اعتاد سيوران أن يفعل. وهذا أمر إشكالي حتى عندما يجابهنا خلال تأمل الفن أو الأدب. فالكتب العظيمة التي تسبر هاوية الروح الإنسانية (إذ لا تتناول الكتب التافهة هذا الأمر) تتصدرها الآن تنبيهات تحذيرية. فمن الواضح الآن أن استنشاق الأدب الجاد أصبح في خطورة التدخين. ومن المؤكد أن صناعة تجميل الحياة بالكلمات المعسولة قد أحال الحياة في المجتمعات الحديثة إلى حياة مصطنعة، بل لحد كبير إلى محاكاة ساخرة للحياة، ولكن يبدو أن معظم الناس لا تكترث. لأن الغفلة والتفاهة تشكلان بعداً آخر للحياة الحديثة.
تلك هي حكمة سيوران المتوحشة – أو ربما كانت كذلك. إذ لا يمكن أن تفوتك المفارقة الساخرة. فلو قدر لك الإنصات له، فهو «لم يستطع القيام بأي شيء جاد» على مدار عمره، ورغم ذلك فقد قدم في كتبه بعضًا من أكثر الاستبصارات عمقًا بالوضع الإنساني المغترب الذي نرزح تحته جميعنا.