فن التوابيت: الوداع الأخير لأئمة الإسلام
منذ العصور الإسلامية الأولى برع الصنَّاع المسلمون في صياغة أبدع المصنوعات الخشبية، والتي تدل على براعته ونبوغه الكبير في هذا المجال، وخير دليل على ذلك التحف الخشبية الباقية الموجودة في العديد من المتاحف العالمية والمباني الأثرية، ولعل أقدمها تلك الحشوات الخشبية الموجودة داخل المسجد الأقصى بمدينة القدس الشريف.
سرعان ما لبث أن أصبح فن الحفر على الخشب إحدى العلامات البارزة في مسيرة الفن الإسلامي عدة قرون طوال، وساعدهم في ذلك دعم ورعاية الحكام والخلفاء المسلمون لهم من حيث توفير كافة الإمكانيات اللازمة ليتمكنوا من تنفيذ كافة مهامهم الموكلة إليهم بكل حرفية، ولعل أبرز تلك التحف الخشبية هي التوابيت التي صنعها السلاطين والحكام المسلمون للأئمة والفقهاء الذي ساهموا في إثراء الحياة العلمية حتى يومنا هذا.
وفي هذا المقال سوف نسلط الضوء على أبرز التوابيت الخشبية التي صناعها سلاطين وحكام الدول الإسلامية تعظيماً لأئمتهم أئمة العصر، إجلالاً وتعظيماً لهم لما قدموه من علوم دينية وأخرى دنيوية ساهمت في رقي الحضارة الإسلامية وإعلاء شأنها بين سائر الأمم آنذاك.
التحف الخشبية
أبدع الفنانون والصنَّاع المسلمون تحفاً خشبية حارت لها العقول، ولكن فقد الكثير منها بسبب قابلية الخشب للتلف بسبب الحريق أو السرقة، أو بسبب العوامل الجوية مثل الرطوبة المختلفة التي تؤدي إلى عطب الكثير منه وتلفه.
كانت مصر -ولا تزال- من الدول الفقيرة في زراعة الأخشاب الجيدة الصالحة لأعمال النجارة، لذلك كان الصناع المصريون يستوردون أجود أنواع الخشب الصالحة للصناعة من سوريا وتركيا والتي يكثر فيها أشجار الأرز والصنوبر، وأشجار الأبنوس من السودان، فضلاً عن أخشاب الزان والساج والبلوط من جنوب أوروبا، ويذكر المؤرخ المقريزي في خططه أنه كان للخشب أسواق مهمة في مدينة الفسطاط منذ العصر الطولوني.
وعلى الرغم من فقر مصر في زراعة الأخشاب الصالحة لأعمال النجارة، صاغت أنامل صنَّاعها أبدع التحف الخشبية المتقنة منذ عصر القدماء المصريين، وخير دليل على ذلك تمثال شيخ البلد «كعبري» المحفوظ في المتحف المصري بميدان التحرير، ثم توارث القبط أسرار هذه الصنعة حتى وصلت إلى أسمى درجات الإتقان والدقة، وعند مجيء الفتح الإسلامي إلى مصر توارث المسلمون هذه الصنعة وصاغت أناملهم تحفاً تحار لها الألباب، واحتلت حرفة النجارة والنقش على الأخشاب مكانة مرموقة بين سائر الفنون التطبيقية الأخرى، ومن هذه التحف الخشبية المنابر ودكك المقرئين وكراسي وصناديق المصاحف والأبواب والشبابيك والتوابيت وغيرها من التحف الخشبية الأخرى.
طرق صناعة المعجزات الخشبية
تعددت الطرق الصناعية لكافة الأشغال والتحف الخشبية في العصور الإسلامية المختلفة، نوجز أهمها، وذلك على النحو التالي:
1. الحفر
ازدهر فن الحفر على الخشب منذ القدم حتى صدر الإسلام، ثم استمر لقرون إسلامية طوال حتى العصر العثماني وللحفر طرق عدة، منها: الحفر البسيط، والحفر البارز، والحفر الغائر، والحز غير العميق، والحفر المائل أو المشطوف الذي اختص به طراز سامراء الثالث، والذي انتشر في شتى ربوع العالم الإسلامي.
2. التجميع والتعشيق
تعرف هذه الطريقة الصناعية لدى الأتراك باسم كندكاري (Kündekari)، وهي عبارة عن حشوات هندسية بسُمك معين تجمع بعضها مع بعض على السطح الخشبي المراد زخرفته، وتعشَّق داخل الإطارات المعدة سلفاً، وتكوِّن بذلك أشكالاً هندسية متنوعة ونجمية.
هذه الطريقة من ابتكار النجارين المسلمين سُطرت بأسمائهم، ومن أبرز الوحدات الزخرفية المنفذة بهذه الطريقة الصناعية هي الأطباق النجمية، حيث تتطلب هذه الطريقة دقة ومهارة كبيرة وفائقة وصبر.
ولعل ندرة الأخشاب في مصر جعلت الصانع يلجأ إلى هذه الطريقة الصناعية ليستفيد من كل قطعة خشب صغيرة لكي ينفذها بهذا الأسلوب، وترجع أقدم التحف الخشبية المنفذة بهذه الطريقة الصناعية منذ العصر الفاطمي، ثم لاقت هذه الطريقة الصناعية رواجاً وشهرة واسعة في عصر المماليك في ذلك الوقت.
3. التطعيم والترصيع
عرفت هذه الطريقة الصناعية منذ العصور القديمة السابقة على الإسلام، ثم توارثها المسلمون حتى بلغت على أيديهم شأناً عالياً للدقة والإتقان في تنفيذ جميع ما أنتجوه من تحف خشبية مختلفة، أما عن المواد المستعملة في التطعيم والترصيع هي السن والأبنوس والعظم والصدف والعاج وأنواع مختلفة من الأخشاب الثمينة مثل خشب الورد والكمثرى ذات الألوان المغايرة عن أخشاب الصناعة، وهذا التفاوت في اللون يُظهر جمال العناصر الزخرفية، ثم راجت التحف الخشبية المنفذة بهذه الطريقة على الكثير من التحف الخشبية التي ترجع إلى العصر المملوكي في مصر.
إبداع توابيت الأئمة
عاش الصنَّاع والفنانون المسلمون عصراً ذهبياً في كنف السلاطين والخلفاء في مختلف العصور والأسر الإسلامية التي حكمت أرجاءً شتى من مشارق الأرض إلى مغاربها، ولاقوا كل أوجه الدعم والعناية والرعاية لهم، حتى صاغت أناملهم أجل أروع التحف الخشبية، من أبرزها التوابيت الخشبية التي أقامها السلاطين على قبور الأئمة والفقهاء وآل البيت تعظيماً وإجلالاً لهم، ومن أبرزها:
1. تابوت الإمام الشافعي
يُعتبر هذا التابوت الخشبي المصنوع من خشب الساج الهندي من أروع التحف الخشبية التي وصلتنا من العصر الأيوبي، له شكل مستطيل يعلوه غطاء منشوري أو هرمي الشكل، ويزخرفه مجموعة من الزخارف الهندسية المتنوعة قوامها أشكال نجمية سداسية وأطباق نجمية وأشكال هندسية مختلفة من مثلثات ومعينات وغيرها، بالإضافة إلى الزخارف النباتية المتقنة التي تملأ الحشوات الهندسية بالتابوت وقوامها أفرع نباتية مختلفة ملتفة، مراوح نخيلية وأنصافها، أوراق وعناقيد العنب منفذة بأسلوب الحفر البارز وتجميع وتعشيق الحشوات بعضها مع بعض.
وعند مقدمة التابوت نجد نقشاً كتابياً بداخل لوحة مستطيلة الشكل محفورة بالخط الكوفي المزهر يتضمن نسب الإمام الشافعي وتاريخ وفاته، وحول هذا النقش الكتابي شريط كتابي ضيق يتضمن نقشاً كتابياً آخر بالخط الكوفي يتضمن عبارة “الملك لله”، نصها:
أما توقيع صانع تابوت الإمام الشافعي ويُدعى «عبيد النجار» المعروف بـ «ابن معالي» الذي نبغ في حرفته من أسرة نبغت في حرفة النجارة، حيث وُجِد توقيعٌ لأحد أفراد أسرة هذا الصانع، ويُدعى «سليمان بن معالي»، على منبر السلطان نور الدين محمود بالمسجد الأقصى بمدينة القدس الشريف.
أما توقيع صانع التابوت الخشبي «عبيد النجار المعروف بابن معالي» فقد ورد في نهاية الجزء الهرمي أو المنشوري الذي يعلو التابوت منقوشاً بخط الثلث ونصه:
2. تابوت مشهد الإمام الحسين
صُنع هذا التابوت الخشبي من خشب الساج الهندي، مستطيل الشكل المتبقي منه ثلاثة أضلاع فقط، أما الضلع الرابع فمفقود، في عام 1939م تم نقل هذا التابوت من أسفل قبة المشهد الحسيني إلى متحف الفن الإسلامي بالقاهرة، لا يقل هذا التابوت روعة وجمالاً عن تابوت الإمام الشافعي، ويتضح من أسلوب الصناعة وتنفيذ مختلف الزخارف النباتية والهندسية والنقوش الكتابية عليه أنه معاصر لتابوت الإمام الشافعي، بل ذهب بعض علماء الآثار إلى أن صانع تابوت الإمام الشافعي وتابوت الإمام الحسين –رضي الله عنهما– قد صُنِعَا بيد صانع واحد.
ويحفل هذا التابوت بالعديد من النقوش الكتابية بالخط الكوفي وخط الثلث، تتضمن آيات قرآنية بداخل لوحات مستطيلة على أرضية من الزخارف النباتية مثل «نصر من الله وفتح قريب» و«الملك لله» و«العزة لله» و«وما بكم من نعمة فمن الله» و«ثقتي بالله» و«التوفيق بالله» و«إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا» (سورة الأحزاب آية 33) و«رحمت الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد» (سورة هود آية 73) وغيرها من آيات الذكر الحكيم المنقوشة على التابوت، فضلاً عن الحشوات السداسية وأشكال نجمية سداسية وأشكال معينات التي تزخرف التابوت، بالإضافة إلى الزخارف النباتية الدقيقة المنفذة على التابوت، قوامها مراوح نخيلية وأنصافها وأوراق العنب ثلاثية وخماسية وعناقيد العنب، ولفائف نباتية متماوجة.
3. تابوت سيد محمود الحراني
يحتفظ متحف الفنون التركية والإسلامية بمدينة إستانبول بأحد أدق وأروع التحف الخشبية وهو تابوت سيد محمود الحراني المصنوع من خشب الجوز الصلب، له شكل مستطيل يعلوه غطاء منشوري الشكل، ونقش على التابوت مجموعة من الزخارف النباتية المتمثلة في الأغصان النباتية المتماوجة ينبثق منها مجموعة من البراعم زهرية صغيرة ومراوح نخيلية وأنصافها وأوراق متعددة البتلات منفذة بالحفر البارز، فضلاً عن النقوش الكتابية الأثرية التي تملأ جميع جوانب التابوت بخط الثلث الجلي، والتي تتضمن تاريخ صنع هذه التحفة عام 667هـ والبسملة شهادة التوحيد والصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – وآيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة وأشعار باللغة الفارسية، ولعل أهم تلك النقوش الكتابية ما يشير إلى صاحب التابوت وتاريخ صناعتها ونصها:
كما ورد على هذه التحفة البديعة الصنع توقيع صانعها (رستم بن خليل النجار) أحد أبرز الصناع الأتراك الذين تعلموا حرفة النجارة منذ نعومة أظافرهم على يد أكابر الصناع الشوام أو الأرمن الذين هاجروا من موطنهم إلى آسيا الصغرى هرباً من جحيم المغول، حيث ورد توقيع هذا الصانع على أحد جوانب التابوت بصيغة: «عمل رستم بن خليل النجار».
4. تابوت مولانا الإمام جلال الدين الرومي
صُنع تابوت مولانا جلال الدين الرومي من خشب الجوز، له شكل مستطيل يغلق عليه غطاء نصف دائري، ويتضمن التابوت زخارف نباتية وهندسية بديعة ومتقنة منفذة بأسلوب الحفر البارز للزخارف النباتية والنقوش الكتابية، وطريقة التجميع والتعشيق لتنفيذ الزخارف الهندسية.
وهذه التحفة الخشبية التي تعد من أجل التحف الخشبية السلجوقية ترك أحد الصناع الشوام توقيعه عليها ويدعى «عبد الواحد بن سليم المعمار»، الذي هاجر من موطنه ببلاد الشام للاستقرار في الأناضول، فضلاً عن تشابه الزخارف المنفذة على هذا التابوت الخشبية بالعديد من التحف الخشبية الباقية في بلاد الشام.
ويتضمن تابوت مولانا الإمام جلال الدين الرومي نقوشاً كتابية بخط الثلث منفذة بالحفر البارز تتضمن مديحاً وتعظيماً له ونصها:
5. تابوت الإمام الليث بن سعد
تسابق سلاطين مصر في عصر الدولة المملوكية في تجديد عمارة تربة الإمام الليث بن سعد، وخصوصاً السلطان الأشرف قايتباي والسلطان قانصوه الغوري اللذين كانا يقصدان قبر الإمام الشافعي وقبر الإمام الليث بن سعد الواقع بالقرافة الصغرى قرب تربة الإمام الشافعي بمدينة القاهرة للتبرك بهما، وقراءة ختمات القرآن وتوزيع الصدقات، لكن ما يعنينا في هذا المقام التجديد الذي قام به والي مصر في العصر العثماني آنذاك الأمير موسى جوربجي ميرزا مستحفظان عام 1138هـ على عمارة التربة تتضمن صنع مقصورة خشبية دقيقة مطعمة بحشوات صغيرة من العاج والصدف بأسلوب فني دقيق الصنع حول تابوت الإمام البسيط.
وقد سجل الأمير موسى جوربجي ميرزا مستحفظان العمارة التي جددها على تربة الإمام الليث بن سعد أسفل القبة ونصها: