ثنائية الفن والأدب: سعاد حسني وصلاح جاهين
«سعاد حسني» و«صلاح جاهين»، تلازم هذان الاسمان طويلًا على الشاشة، وبزغا معًا في سماء الفن والأدب، وبرغم تواجدهما السابق على الساحة الفنية والأدبية، فإنهما تألقا معًا كما لم يكونا من قبل.
كان لصلاح جاهين – الذي تحل ذكراه في الواحد والعشرين من أبريل/ نيسان – قدرة خارقة في جعل النص كائنًا حيًا يسير على قدمين، نصًا من روح ودم يجاريك حزنك، وفرحك، وشجونك، وآمالك؛ فيصف بدقة في رباعياته ما يعجر عن وصفه غيره من الشعراء في جمع من الأبيات، فيصف أحزان الشباب وكأنه واحد منهم، وينطق بما لا ينطقون فيقول:
في حالات الفرح العارمة ليس هناك أجدر منه على تصوير الفرح والنشوة حتى وإن كانت عابرة؛ إذ إن روح الطفل بداخله تلهيه عن كآبات الكون مادام شعر يومًا بنشوة فلا يهم ما يحدث بعدها:
هذه الحالة المتفردة من الإبداع لدى صلاح جاهين كانت بحاجة لروح طفلة مشاكسة تجسدها فنيًا على الشاشات، والحقيقة لا نستطيع أن نجزم من أضاف لمن: هل أضافت سعاد حسني لأعمال صلاح جاهين روحًا على روحها، أم أنه هو الذي شكلها بعجينته الإبداعية الخاصة، فخلق تلك الحالة الفذة من الإبداع التي رأيناها وعشناها معهم على الشاشات، بدءًا من «خلي بالك من زوزو» حتى «هو وهي»؟
لكن كيف بدأت الحكاية؟ حكاية «زوزو» الفتاة الفاتنة التي تسحر كل من رآها رغم بساطتها. تحكي سعاد حسني في حوار تليفزيوني لها عن شخصية «زوزو»، فتقول إن هذه الشخصية من نسج خيال صلاح جاهين، وأنه كان يتخيلها بوضوح ويتخيل ردود أفعالها – حيث كانت طبيعية – وأنها تجسد شخصية الفتاة البسيطة الطموحة، العاشقة، أبية النفس، والتي تتميز بالجرأة والصلابة، وأنه استطاع أن يولف هذه الصفات معًا ببساطة، وهذا هو سر استحسان الناس لتلك الشخصية.
تكررت التجربة مرة أخرى عام 1979 في فيلم «المتوحشة»، الذي نسج فيه جاهين هذه المرة شخصية الفتاة البسيطة العفيفة، المتبرئة من انحطاط البيئة التي تنتمي إليها، عن الفتاة الواعية رغم بساطتها بالفوارق الثقافية التي تفصل بينها وبين حبيبها فتطلب منه أن يعلمها، رغم رفضه في البدء وإصراره على أن الحب وحده يكفي، فتجيبه:
ينتقل بنا في نهاية الفيلم إلى الواقعية المريرة، وهي أن الفتاة تفضل أن تضحي بحبها في سبيل ألا تصير عبئًا على هذا الحبيب، ووصمة عار في تاريخه الحافل بالإنجازات.
الأغاني التي جمعتهما
لم يكن صلاح جاهين مجرد كاتب سيناريو أضاف لسعاد حسني لونًا جديدًا من ضمن ألوانها الفنية المتعددة، بل أضاف لها نكهة فنية خاصة تجسدت في الأغاني التي قدماها معًا، وحده صلاح جاهين استطاع أن يجعل للأغنية معنى في الفيلم وليس مجرد حشو في متن النص.
سعاد حسني لم تكن تعد نفسها مطربة، لكن كان لصلاح جاهين رأي آخر في رقة وعذوبة صوتها التي تتجلى حتى في الكلام، فلم يخلُ فيلم من أفلامهما معًا أو غيرها من الأفلام إلا وكتب لها فيه أكثر من أغنية، بدءًا بأغنية «يا واد يا تقيل» ومرورًا بأغنية «بمبي» و«الدينا ربيع» التي ارتبطت في ذهننا بأعياد الربيع، فلا نشعر بقدوم الربيع إلا على كلمات «أغنية الدنيا ربيع»:
ظلا هكذا يمتعاننا معهما، وكل منهما يطربنا بطريقته، جاهين يطربنا بأشعاره السهلة الممتنعة، وسعاد حسني تطربنا بصوتها الرقيق الذي لا يخلو من مسحة دلال أنثوي ليست لغيرها، فلا هو كلّ عن الكتابة ولا هي امتنعت عن الغناء الذي صرحت بأنها لا تجيده.
وجد جاهين في صوت سعاد حسني روح الطفلة ودلال الأنثى وثورة الثائرة وحنو العاشقة؛ فلم يفارقها في عمل من أعمالها بكلماته وأغانيه، وأبدعا مرة أخرى في المسلسل التليفزيوني «هو وهي»، وكانت كلمات التتر تحمل من الرمزية والفكاهة ما يختصر المسلسل كله في كلماتها البسيطة المعبرة:
هذا العمل التليفزيوني حافل بالأغاني والمعاني التي ترتبط بقضية المساواة بين الرجل والمرأة، وبسطوة المال، وهنا أبدع صلاح جاهين في تجسيد هذه المعاني بشِعر يتردد صداه في آذاننا بصوت «السندريلا». حتى مع تغير الزمان بقيت أغنية «البنات» سلاح فتاك تباهي به الفتيات الفتية في أجواء المشاحنة المدرسية. وأغنية «الشوكولاتة» التي تحمل تدلل المحبوبة على حبيبها في تحقيق ما تريد، وأغنية «آه يا هوى» التي تعلن صراحة أن الحب لا يعترف بالمادة، وغيرها الكثير والكثير من الأغاني والمعاني التي جسداها معًا. وختامًا أنتجا لنا سيمفونية عيد الأم الخالدة التي نرددها جميعًا صبيحة عيد الأم:
«وقف الشريط»..
المعجزات تحدث لكنها حتمًا إلى زوال، عشنا مع تلك المعجزة الأدبية الفنية طويلًا، لكن لسوء الحظ انكسر أحد أضلاعها بوفاة الملهم والأديب، الذي كان يرسم بكلماته لوحات فنية من الإبداع تحاكيها «السندريلا» على الشاشة.
برحيل صلاح جاهين في الواحد والعشرين من أبريل/ نيسان لعام 1986 – والذي تحل اليوم ذكراه – بطل مفعول السحر، وبقيت سعاد حسني وحدها فنانة بلا ملهم، معجزة بلا نبي، لوحة بلا ريشة فنان. هناك في وحشتها في لندن ومع أفول نجم سعاد حسني وتكالب الحاجة والمرض عليها، لم تجد ما يؤنس وحشتها سوى كلمات ملهمها ومعلمها، والتي ألقتها بصوتها الذي طالما أحبه، ها هي الأخرى تودعه بصوتها و«وقف الشريط في وضع ثابت»، وأسدل الستار على حالة فريدة من الفن والأدب التي لم تتكرر من قبل.