أرسين فينجر: لهذا يجب عليكم احترام «البروفيسور»
قد يختلف الكثيرون في تقييم «أرسين فينجر» ومدى نجاحه وفشله في السنوات العشر الماضية مع «أرسنال». البعض يرى أنه فشل بشكل كبير في إدارة النادي الذي أوصله فيما سبق إلى القمة. آخرون يرون أنه تعامل بشكل مقبول مع الأدوات المتاحة له في ظل الظروف المالية السيئة التي مر بها النادي مسبقًا.
وكعاملين في المجال الإعلامي يقع على عاتقنا قول الحقيقة وتعريف الناس بها. يتوجب علينا تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي انطبعت في عقول البعض عن «فينجر»؛ لأنه ليس من الإنصاف أن نختصر مسيرته و نقولبها بقالب ساخر كما تتناولها صفحات «الساركازم» التي تفتقد بالمجمل للرؤية الرياضية والتحليل الدقيق للظروف التي مر بها واختبرها.
سنلقي الضوء على المراحل التي سبقت رحلته الإنجليزية والتي أثرت فيه بشكل بالغ. سنتحدث عن الرجل النكرة بالنسبة للإعلام الإنجليزي لحظة إعلان أرسنال الاتفاق معه عندما كتبت إحدى الصحف في صفحتها الأولى «!Arsene Who». سنتحدث عن رجل طويل القامة نحيل القوام لديه نظارة كبيرة تجعله أشبه بمدرسي الجغرافيا والفيزياء.
رُبّ صدفة خير من ألف ميعاد
في عام 1989، سافر «أرسين»_وكان حينها مدربًا لموناكو_ إلى لندن في رحلة قصيرة خلال فترة الراحة الشتوية للدوري الفرنسي. خطط «فينجر» للبقاء لمدة ليلة واحدة في لندن ثم السفر في اليوم التالي إلى تركيا لمتابعة إحدى المباريات هناك. لكن في لندن حدث لقاء بالصدفة مع أحد الأشخاص وكان هذا اللقاء بمثابة الخطوة الأولى لأرسين فينجر باتجاه إنجلترا.
كان «فينجر» جالسًا في بهو أحد الفنادق فشاهدته امرأة وعرفته على الفور بحكم أن زوجها هو «دافيد دين» نائب رئيس نادي أرسنال. الزوجة سألت «دافيد»: هل تعلم أن مدرب موناكو متواجد هنا؟ فأجابها بالنفي.
توجه «دافيد» إلى البهو وقدم نفسه للفرنسي وسأله كم ستطول زيارته، فأخبره «فينجر» بأن رحلته إلى تركيا ستكون مساء الغد، دعاه «دين» إلى المنزل وأخبره بأنه سيجتمع بأصدقائه ولم يرفض «أرسين» الدعوة.
طوال السهرة كان «دافيد» منبهرًا من ذكاء الفرنسي وثقافته العالية. أدرك سريعًا أنه مختلف عن من عرفهم من المدربين سابقًا. لم يتحدثا في الكرة كثيرًا بل كانت سهرة تعارف وتسلية فقط، لكن بعد رحيل أرسين لمعت في رأس «دافيد» فكرة عندما كان ينظر للقمر.
«Arsene for Arsenal» وكما وصف «دين» بنفسه وبشكل شاعري بأنها مكتوبة في النجوم، كأنه القدر المحتوم الذي سيحدث في يوم من الأيام.
مرت السنين وأكمل «فينجر» مشواره مع «موناكو» معتمدًا فيه على سياسة الاهتمام بالمواهب الشابة التي كان أبرزها كل من «جورج ويا، تيري هنري، ليليان تورام، إيمانويل بيتي». حقق خلال هذه السنوات عدة نجاحات بإحرازه الدوري الفرنسي وكأس فرنسا ووصوله لنصف نهائي دوري الأبطال ونهائي كأس الكؤوس الأوروبية.
في عام 1994 تواصل بايرن ميونخ مع موناكو من أجل الفرنسي لتعيينه خلفًا لفرانز بيكنباور كمدرب للفريق، لكن إدارة موناكو رفضت التخلي عنه واقتنع «أرسين» بالبقاء، لكن بعد ذلك بأشهر قليلة تمت إقالته بسبب سوء النتائج. لم يفكر به البايرن مرة أخرى بسبب تعاقده مع «تراباتوني».
كل شيء عاد في بلاد السومو
ذهب «فينجر» بعد ذلك في رحلة جديدة إلى اليابان لتدريب «ناغويا غرامبوس» ليختبر نفسه هناك ويكتشف ثقافة جديدة أضافت فيما بعد الكثير لشخصيته وخبرات لم يكن يتوقعها. هذه الخبرات لم تتعلق بالجانب الكروي فحسب، بل علمته كثيرًا على الجانبين الإنساني والاجتماعي. الفرنسي يعزي نجاحه مع أرسنال ولو بشكل نسبي لهذه التجربة التي غيرت نظرته للكثير من الأمور وأثرت فيه بشكل عميق.
وكما كان لقاؤه مع «دين» بالصدفة، كان لقاؤه مع اليابانيين عن طريق الصدفة أيضًا. حدث ذلك في أحد اجتماعات الفيفا في الإمارات عام 1994، حيث كان «فينجر» في تلك الآونة عضوًا في اللجنة الفنية للفيفا ومسؤولًا عن تحليل كأس العالم. ألقى الفرنسي محاضرات للمدربين من الدول الناشئة في كرة القدم ومنها اليابان التي بدأت في تلك الفترة بتطوير كرة القدم. أحد المسؤولين الحاضرين لشركة «تويوتا» المالكة لنادي ناغويا تواصل معه بعد إعجابه بخطابه وعرض عليه فكرة تدريب النادي، استمرت المفاوضات لشهرين قبل أن يرضخ «فينجر» لأفكاره التي تحثه على قبول تجربة جديدة لمدة عام ونصف.
انطلق الدوري الياباني في عام 1993، ناغويا كان قد أنهى الموسم في المراكز الأخيرة قبل وصول «فينجر»، وبعد ذلك حصل على المركز الثالث ولقب أفضل مدرب في عامه الأول. وفي العام الثاني حقق الوصافة ولقب كأس اليابان، ليخلف فينجر وراءه إرثًا للنادي الياباني وللكرة اليابانية بشكل عام، حيث ذكر أحد لاعبيه عبارة كررها «فينجر» كثيرًا في اليابان وساهمت في إبراز الأسلوب الهجومي للمنتخب الياباني حيث قال:
تجربته الآسيوية كان لها منافع متبادلة بين فينجر واليابان. هذه التجربة أعادت بناء الثقة بين «أرسين» واللعبة بعد الشرخ الذي أحدثته فضيحة تلاعب مارسيليا بنتائج المباريات في عام 1994. لم تكن هناك قوانين للهبوط في الدوري الياباني،أتاح هذا الأمر للفرنسي أن يركز على كرة القدم فقط وليس النتائج. اكتشف أن كرة القدم هي الأهم و سار على نفس النهج مع أرسنال. تعلم أيضًا عديد الأمور في آسيا أهمها نظام الحمية المعتمد على الخضار المسلوقة والسمك والابتعاد عن السكريات والدهون.
تعلم «فينجر» أيضًا أمرًا هامًا في بلاد السومو وهو احترام الخصم واحترام الخاسر. كانت التجربة عظيمة بالنسبة له عندما تابع مبارزات مصارعة السومو الشهيرة في اليابان.
الحلم المنشود
استمرت صداقة «فينجر» و«دين» منذ أول لقاء حصل في شتاء 1989. كان الإنجليزي يسعى طوال هذه المدة لتحقيق حلمه وهو إيصال الفرنسي إلى دكة إستاد هايبوري. بعد بداية غير جيدة لأرسنال في عام 1996، قرر النادي إقالة المدرب وتعيين رجل جديد، الخيارات عديدة وأهمها «يوهان كرويف» و«بوبي روبسون»، لكن في خاطر «دافيد» مدرب واحد فقط ويسعى لإقناع مجلس الإدارة للموافقة على اقتراحه. حصل دين لاحقًا على ما يريد وحقق حلمه بعد إقناعه لمجلس الإدارة بتعيين «فينجر».
القرار كان مفاجئًا وصادمًا جدًا بالنسبة لجماهير النادي، فهي لم تسمع باسمه من قبل، وكانت أغلب عناوين الصحف تسخر من قرار النادي بسبب الاستعانة بمدرب أجنبي ليس لديه تاريخ كروي حافل. إحدى الصحف عنونت على غلاف صفحتها الأولى «Arsene who» وكل هذا بسبب التقوقع الإعلامي والتركيز على أخبار المملكة المتحدة فقط. لم تعرف الصحف من هو «فينجر» على الرغم من ظهوره قبل عام في حفل جوائز الفيفا رفقة «جورج ويا» الذي خص الفرنسي بنجاحه بعد تحقيق الكرة الذهبية في ذلك العام.
غلاف صحيفة ايفنينج ستاندارد (أعلى) – دافيد دين وأرسين فينجر (أسفل)
فينجر جلب معه المعرفة إلى إنجلترا، أمر لم يكن يميز المدربين المتواجدين هناك. منذ اليوم الأول كان الفرنسي مدركًا لطبيعة التحديات التي ستواجهه في إنجلترا. بكل تأكيد لم تشكل له اللغة عائقًا بقدر ما كانت أفكاره هي من تشكل العثرة في البداية بسبب طرقه التدريبية الجديدة ونظامه الصحي الذي لم يعجب اللاعبين في البداية. منذ الحصة التدريبية الأولى كان الأمر مختلفًا، أتى «فينجر» إلى الحصة وبيده مؤقت زمني، الحصص التدريبية كانت أقصر مما اعتاد عليه اللاعبون لكنها كانت أكثر حدة وتنتهي وفق الجدول الزمني الذي وضعه فينجر بالثانية، على عكس التدريبات البدنية الكلاسيكية واختبارات القوة والتحمل وتمارين القفز في الهواء كما السابق.
قام «فينجر» أيضًا بتغيير قائمة الطعام، فمنع اللاعبين من تناول المواد الغنية بالسكريات والدهون والكاتشب. ظهرت على القائمة الخضروات المسلوقة كالبروكولي بالإضافة إلى السمك المشوي والدجاج المسلوق والباستا، حيث جرت العادة أن يتناول اللاعبون الأومليت والبقوليات ورقائق البطاطس قبل المباراة.
ذهب الفريق لخوض المباراة الأولى ضد بلاكبيرن. قبل يوم كامل من المباراة وأوامر «فينجر» لا تتوقف بل تزداد باستمرار. في يوم المباراة وقبل توجه الفريق إلى الملعب، أمر «أرسين» اللاعبين بإجراء تمارين «Stretching» لمدة نصف ساعة وهم داخل الفندق.
خطاب «أرسين فينجر» للاعبيه قبل لقائه الأول أمام بلاكبيرن روفرز.
كان «أرسين» يعرف تمام المعرفة بأنه يجب أن يطبق أفكاره بشكل تسلسلي وليس دفعة واحدة، لأن التغيير الشامل سيخلف وراءه آثارًا سلبية على الفريق. حافظ على أغلب لاعبي الفريق ولم يقم بتغييرات كبيرة على قائمة الفريق في أول موسمين. كان أشبه بالديكتاتور اللين بعض الشيء وكان انقلابه هذا خاليًا من الدماء على الرغم من ارتفاع معدل أعمار لاعبي الفريق.
حجر الأساس
منذ بداية مشواره التدريبي، كان لدى «فينجر» قناعة كبيرة باللاعبين الأفارقة ومعجبًا للغاية بقدراتهم الكروية. بداية من موناكو حتى هذه الآونة مع أرسنال. «أرسين» يرى الأفارقة لاعبين مبدعين ويلعبون بروح كبيرة. يمتلكون سرعة وقوة وخفة الحركة. هذا من الصعب العثور عليه في لاعبين آخرين. لذلك كان للاعبين الإفريقيين دور مميز مع الفرنسي وكانوا حجر أساس في تشكيلته عبر الزمن وتركوا بصمتهم معه بشكل كبير.
عندما كان «أرسين» مدربًا لموناكو في الثمانينات، كان «جوج ويا» يلعب حينها لناد كاميروني. «فينجر» كانت تصله تقارير أسبوعية عن جورج من أحد الأصدقاء في الكاميرون، في أحد التقارير تم إخباره بأن «ويا» تعرض لكسر باليد لكنه أكمل المباراة بشكل جيد.
لم ينتظر «أرسين» كثيرًا، وطلب التوقيع معه بشكل فوري. طار «ويا» إلى موناكو في 1988 ووقع معه بـ 150 ألف يورو. «جروج» كان يبلغ حينها 21 عامًا، شابٌ إفريقي صغير وضعه الاقتصادي سيئ للغاية. في البداية ساعده «فينجر» فأعطاه من محفظته مبلغ 500 فرنك فرنسي؛ ما يقارب ال 50 يورو في الوقت الحالي،وأخبره إن عملت بجهد ستصبح أفضل لاعب في أوروبا. فينجر لم يكن يجامل أو يبالغ بمدحه وبطموحاته. جورج بعد 7 سنوات فقط حصل على جائزة أفضل لاعب في العالم عام 1995 .
فينجر بمثابة العراب بالنسبة لليبيري، هو الناصح الذي أرشده وجلعه يرسم مستقبله، ليس رياضيًا فحسب، بل سياسيًا أيضًا. وبناء على هذه التجربة أصبح جورج سياسيًا مهمًا في بلاد، وناشطًا ضد العنف والحرب ورئيسًا للبلاد مؤخرًا.