أرسين فينجر: رحلة مثالية أفسدها ملعب الإمارات وفابريجاس
في عام 2019، وبينما كان الموسم المنتظم لدوري كرة السلة الأمريكي للمحترفين يوشك على النهاية، كان عالم الـ«NBA» يودع أحد أساطيره، الألماني «ديريك نوفيتسكي». أسطورة «دالاس مافريكس» الذي لم يرتدِ قميصًا غيره على مدار 21 عامًا في الـ«NBA»، زينها بلقب الدوري الوحيد في تاريخهم عام 2011.
الحديث عن أرقام «ديريك» يطول، لكن اللقطة الأهم في وداعيته كانت لأسطورة «بوسطن سيلتكس» «لاري بيرد»، الذي وجه له الكلمات التالية: «ديريك، لقد صارت اللعبة أفضل بسببك، وأنا دائمًا أحاول إخبار اللاعبين الجدد في الدوري بأن عليهم المحاولة لترك اللعبة أفضل مما وجدوها، حتى تستمر اللعبة للأبد».
من النادر هذه الأيام أن تجد أحدًا يستطيع حسم تلك المقارنة الأبدية بين عدد مرات الفوز وبين القيمة المضافة، والتي على أساسها يستطيع إنصاف هذا على حساب ذاك.
وفقًا لطبيعة كرة السلة، يمكن للاعب إضافة الجديد عبر تكنيك أو حركة مميزة، لكن في كرة القدم، الأمر أكثر صعوبة. لذلك قد تكون مهمة الإضافة ملقاة بشكل أكبر على عاتق المدربين، وهو الأمر الملاحظ بوضوح في كتاب الهرم المقلوب على سبيل المثال، والذي يتناول تاريخ تكتيك اللعبة.
التقليب في صفحات التاريخ لا يعني المرور على الجميع فردًا فردًا، لأن الجميع لا يترك بصمة. لكن الأكيد أن تلك الصفحات تضم مكانًا خاصًا لمدرب أرسنال التاريخي أرسين فينجر، لأن فينجر كان أحد هؤلاء الذين تركوا كرة القدم أفضل مما وجدوها.
القيم أولاً
تعرضت مسيرة «أرسين فينجر» لمشكلتين، كانت إحداهما بمفردها كافية لعدم تقديره كما يستحق. الأولى، أن كرة القدم لا تقدس الانطباع الأول كالمقابلات الشخصية، فالانطباع الأول هنا هو مجرد ذكرى، لا تعلق بالأذهان بقدر الانطباع الأخير. وعليه، تاهت إنجازات «فينجر» وسط معاناة أواخر مسيرته.
أما المشكلة الثانية، فتمثلت في ظهور «فينجر» بشخصية «الأستاذ فرجاني»، التي جسدها «نور الشريف» في فيلم «آخر الرجال المحترمين»، فظهر كرجل يحاول الالتزام بمبادئه في كل وقت وفي كل مناسبة.
لم يكن «فينجر» مجرد مدرب سعى لتقديم كرة جميلة تهدف لإمتاع الجماهير فقط، بل كان شخصًا يؤمن بالجانب الأخلاقي والتربوي للعبة، وكأنها رسالة إذا أوصلها بشكل صحيح، سيساهم ولو بقدر ضئيل في تنمية اللاعب على المستوى الشخصي بجانب الفني، وقد يكون ذلك أيضًا هو سبب تفرده في تطوير المواهب الصغيرة.
إن حالفك الحظ وصادفت أحد اللقاءات التلفزيونية لـ«فينجر»، فسماعه كفيل بإيصال الصورة إليك؛ أسلوب حوار وكأننا أمام أستاذ جامعي، إجابات دقيقة منمقة، وآراء تتجاوز كرة القدم لما هو بعيد.
لكن في عالم الاحتراف والأموال والفوز بأي ثمن لمكايدة الآخر، ستصير قيم أستاذ فرجاني مجرد ترهات، وسيبحث المشجع غالبًا عن الأشياء الملموسة قبل المحسوسة، لذلك سنصحبك الآن لمعرفة ما أضافه «أرسين».
القيمة المضافة كما يجب أن تكون
عندما تولى «فينجر» مهمة تدريب أرسنال في عام 1996، كانت ردود الأفعال ساخرة. رجل طويل، نحيل، يرتدي نظارات غريبة، فرنسي الجنسية وقادم من الدوري الياباني، ليغير أسلوب لعب أحد أندية مهد كرة القدم، خلطة لا يمكن مرورها دون سخرية.
حكى لاعب أرسنال السابق «لي ديكسون» عن أول فترة إعداد مع المدرب الفرنسي، عندما قرر اصطحاب «توني أدامز» والاجتماع بمدربهم، ليخبروه أنهم لا يركضون كفاية، ولن يكونوا جاهزين لبدء المنافسات. طمأنهم «فينجر» وأخبرهم أنه يتبع معايير علمية في تصميم التدريبات، وعليهم فقط الوثوق به. بعد 10 أيام، وجد اللاعبون أنفسهم في أقصى درجات الجاهزية، ليسلموا بقدرات صاحب النظارات، ثم ينهوا الموسم بالفوز بثنائية الدوري والكأس.
بدأت إضافة المدرب الأسطوري لأرسنال بتطوير شكل التدريبات، بالكرة وبدونها، واستبدال العادات القديمة بأخرى معتمدة على القياسات العلمية. وقد مهد ذلك لتغيير سمعة الجانرز من نادٍ تهتف جماهيره بهتافات «واحد صفر لأرسنال» و«أرسنال الممل» إلى فريق يقدم كرة جذابة.
ثم أضاف أرسين فينجر المزيد من الأخصائيين الطبيين، بجانب تعديل النظام الغذائي للاعبين، بعد تأثره بالعادات اليابانية. فأمر كافتيريا النادي بالتوقف عن تقديم البرجر ورقائق البطاطس واستبدالها بالسمك أو الدجاج والبطاطس المهروسة والخضروات المطبوخة على البخار.
كان فينجر يعبث بتقاليد الإنجليز بهذا الشكل، في الوقت الذي كان فيه الدوري الإنجليزي يضم مدربيّن أجنبيين(من خارج بريطانيا) فقط، هو ورود خوليت. ليفتح نجاح المدرب الفرنسي الباب على مصراعيه للمزيد من المدربين الأجانب، حتى صار البريميرليج اليوم محتلاً وبالكاد تعثر على مدرب بريطاني فيه.
لكن بالعودة إلى مقولة لاري بيرد عن كرة السلة، كانت إضافات فينجر تحمل نفس التأثير، ويمكن القول إنها كانت سببًا لاستمرار تطور كرة القدم، وتغيير وجه البريميرليج إلى الأبد. لكن ما حدث بعد ذلك، لم يسمح لتصدير هذه الفكرة عن مسيرة فينجر.
فابريجاس والملعب الجديد
كانت العلامة البارزة الأخرى التي تركها المدرب الفرنسي في الدوري الإنجليزي هو الفريق المسمى بـ«The Invincibles»، الذي تمكن من الفوز بالدوري الذهبي موسم 2003/04، بلا هزيمة. وبدلاً من أن يكون ذلك اللقب انطلاقة لمزيد من الهيمنة، أتى مشروع الملعب الجديد ليفسد كل شيء.
رغم التأثير السلبي الواضح لملعب الإمارات، كان «فينجر» مقتنعًا بأهميته، فكما أوضح في أحد اللقاءات أن الانتقال من سعة 38 ألف متفرج في الهايبري، إلى 60 ألف هو أمر مهم لمستقبل النادي. وبينما كان أرسنال مطالبًا بتسديد 22 مليون سنويًا، ظهر تشيلسي ومانشستر سيتي بأموالهم الطائلة، لتتراجع حظوظ الفريق أكثر فأكثر.
كانت هذه هي الفترة التي أصبح اسم أرسنال فيها مقرونًا بالمركز الرابع أو بطولة كأس الاتحاد الإنجليزي، وتحول معها فينجر من قمة النجاح إلى الفشل. ومع صعوبة وضع الفريق مقارنة بمنافسيه، كما توضح لك الصورة السابقة، كان لأسطورة المدفعجية «تيري هنري» تفسير إضافي.
رأي الهداف التاريخي لأرسنال أن «سيسك فابريجاس» كان أحد أسباب انحدار الفريق، لأن الأداء المبهر الذي قدمه، فتن أرسين فينجر لدرجة جعلته يتحول من الـ 4-4-2 إلى 4-3-3، كي يبني الفريق حول خريج اللاماسيا.
براعة «سيسك» على المستوى التقني تحديدًا جعلت «فينجر» يبتعد عن شكل ثنائية الوسط التي ارتكز عليها في فريق أحلامه بدوري 2003/04. فلم يفكر «أرسين» في استنساخ ثنائية باتريك فييرا وجيلبرتو سيلفا، القوية جدًا دفاعيًا، والتي سمحت باستيعاب الفريق لهنري وبيركامب وبيريز وليونبيرج.
باعتبار «هنري» أحد المقربين للمدرب الفرنسي، كان علينا أخذ رأيه بعين الاعتبار، لكن في الأخير ومهما كانت الأسباب مقنعة أم لا، فأرسين فينجر جانبه الصواب في العديد من القرارات ولا يمكن تبرئة ساحته بنسبة 100%.
لكن في الوقت ذاته، عليك ألا تدع ذلك الانطباع الأخير يكون الانطباع الدائم عن أحد أهم المدربين في تاريخ اللعبة، ليس فقط لما أضافه لها، ولكن لأننا نحتاج لشخصيات مثل «أرسين فينجر» داخل كرة القدم وخارجها.