الانقلاب المستمر: الجيش والسياسة في سوريا 1918- 2000
يعد كتاب «الجيش والسياسة في سوريا، 1918 – 2000» من أبرز الكتب التي أرخت لمسيرة المؤسسة العسكرية السورية منذ نشأتها قبل استقلال البلاد، وتتبع الكتاب مراحل تطور المؤسسة العسكرية وتأثر طبيعة تكوينها بالتغيرات في مؤسسة الحكم، ويركز بشكل أساسي على الانتماءات الطائفية والحزبية لضباط وقادة الجيش خلال الفترة الممتدة بين عامي 1918 و2000.
والكتاب من طباعة دار الجابية بلندن، ومن إعداد الدكتور «بشير زين العابدين»، وهو باحث وأكاديمي سوري من مواليد مدينة دمشق عام 1973، حصل على دكتوراه في التاريخ السياسي من مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، وله العديد من الكتب والمؤلفات في هذا المجال، وعمل أستاذًا مساعدًا في قسم العلوم الاجتماعية في جامعة البحرين ومديرًا مساعدًا في مركز الدراسات التاريخية، ثم باحثًا بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية ودراسات الطاقة.
نشوء الجمهورية في عهد الانتداب الفرنسي
ويناقش الفصل الأول إشكالية تأسيس الدولة تحت عنوان «نشوء الجمهورية في عهد الانتداب الفرنسي» فبعد انسحاب الجيوش التركية من دمشق في 27 سبتمبر/أيلول 1918، واجهت دول الحلفاء المنتصرة مأزقًا يتمثل في تحديد بديل للسلطة العثمانية التي حكمت بلاد الشام نحو أربعة قرون، واستفاد الأمير فيصل بن الحسين من حالة الفراغ هذه، فبادر إلى إعلان قيام دولة عربية في سوريا، وباشر الإشراف على مؤسسات الإدارة والحكم، فأنشأ مجلسًا للشورى وأسس مؤتمرًا وطنيًّا في يونيو/حزيران 1919 لتمثيل رغبة السوريين في الاستقلال، وأُعلنت سوريا مملكة في 8 مارس/آذار 1920.
وبعد اتفاق بريطانيا وفرنسا في سان ريمون على خضوع سوريا ولبنان للانتداب الفرنسي، سحبت بريطانيا قواتها من سوريا ليحل محلها الجيش الفرنسي الذي زحف إلى دمشق واحتلها عنوة بعد معركة ميسلون في 24 يوليو/تموز 1920، وبذلك بدأت مرحلة الانتداب الفرنسي.
أنشأ الاحتلال حكمًا عسكريًّا لإعادة ترتيب البلاد حسب نظامه برئاسة المندوب السامي، وتكبد الجيش الفرنسي خسائر فادحة في الأرواح بسبب الثورات الشعبية، إذ صرح الجنرال المفوض ساراي بأن سوريا شهدت عام 1922 وحده خمسة وثلاثين ثورة دفن فيها من الجيش الفرنسي خمسة آلاف جندي، لذا شن الحكام العسكرييون الفرنسيون، غورو، ثم ساراي، ثم دو جونوفيل، حملة عسكرية شاملة تهدف إلى إخماد الثورات في كل المدن الرئيسة وأجزاء كبيرة من الريف، واستمرت العمليات العسكرية حتى تم القضاء على الثورة بصورة نهائية في مطلع سنة 1927، وجندوا قوات محلية من الـشركس والأرمن والإسماعيلية والأكراد.
وفي المرحلـة التاليـة التـي اسـتمرت حتى عام 1939 نجح الاحتلال في فـرض سـيطرته عـلى مختلـف المـدن والأقاليم، وفـتح حـوارًا مـع القـوى الوطنيـة وشكل مجلسًا نيابيًّا، وتم إعلان الجمهورية السورية وانتخـاب محمـد عـلي العابـد أول رئـيس لهـا في يونيـو /حزيران 1932، لكن تنازل الفرنسيين عن لواء الإسكندرون لتركيا في يونيو 1939 فجَّر حالة سخط شعبي دفـعت المفـوض الفرنسي، بيو، لإعـلان الأحكام العرفية واعتقال الزعماء الوطنيين.
ووقعت فرنسا في قبضة الاحـتلال الألمـاني عام 1940، وأصـبح الجنـرال الفرنـسي دانتـز حـاكمًا عـلى سـوريا ولبنـان مـن قبـل الحكومـة الفرنـسية المواليـة لألمانيـا، قبـل أن تتدخل بريطانيـا وتثبت وجـود الحلفـاء في سوريا في يونيو/ حزيران 1941، لكنها استغلت الضعف الفرنسي لتبسط نفوذها على كافـة المناطق السورية، فأخـذت تتـودد إلى النصيريين (العلويين) والدروز الذين قطعوا اتصالهم مع الـسلطة الفرنـسية، فلجأ الفرنسيون إلى تكريس الاحتلال عن طريق إرسال تعزيزات عسكرية قــصفت البرلمان في دمشق عام 1945، وسقط مئات القتلى والجرحـى مـن جـراء القـصف المـدفعي، وانتشرت الثورة في جميع أرجـاء القطـر الـسوري، فأصدرت بريطانيا إنـذارًا إلى الجـيش الفرنـسي فسحب قواتـه مـن المـدن الـسورية تدريجيًّا، وبحلول عام 1946 كانت جميع القوات البريطانية والفرنسية قد انسحبت من المنطقة.
وخلال فترة الانتداب ظهرت عدة مشاكل كبرى مثل «المشكلة الجغرافية» التي تمثلت في التناقض الكبير بين مفهوم سوريا الكبرى (أي بلاد الشام) وسوريا الجمهورية، وكان لهذا التباين تأثير سلبي على الهوية المحلية والإقليمية للقطر السوري، وعلى علاقة الكيان السياسي الجديد مع الدول المجاورة، ففرنسا وبريطانيا اتفقتا على اقتسام سوريا الطبيعية فيما بينهما حسب ما تقتضيه مصالحهما، وأخفيا هذه المخططات عن العرب لاستغلالهم ضد العثمانيين خلال الحرب العالمية الأولى، ثم تتابعت المخططات، ففي سنة 1916 تم توقيع اتفاقية سايكس بيكو التي نصت على اقتسام سوريا والعراق من قبل بريطانيا وفرنسا، وفي سنة 1917 صدر وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي سنة 1920 اتفقت بريطانيا وفرنسا في معاهدة سيفر على تقسيم الشام إلى ثلاث مناطق، وفي نفس العام أبرم الطرفان معاهدة سان ريمون التي نصت على وضع سوريا الشمالية (سوريا ولبنان) تحت الانتداب الفرنسي، وسوريا الجنوبية (الأردن وفلسطين) والعراق تحت الانتداب البريطاني، وحدد الفرنسيون الحدود السورية اللبنانية، وأعلنوا سنة 1920 دولة لبنان الكبير، ولم يبقَ لسوريا من ساحل الشام الممتد أكثر من 800 كم سوى 183 كم فقط.
وكانت مهمة إقناع الشعب بقبول الحدود الجديدة مسألة عصيبة، خاصة أن الحدود التي رسمها الاستعمار قد مزقت أقاليم وقرى ومجموعات سكانية متجانسة، ولعل المثال الأبلغ في هذا المجال هو الصعوبة التي واجهها المواطن السوري للقبول بأن فلسطين قد أصبحت كيانًا منفصلًا عن سوريا في مرحلة ما بعد الاستقلال، فقد استمرت القضية الفلسطينية تشكل عاملًا محركًا للاضطرابات الداخلية والانقلابات العسكرية وتعاقب الحكومات في سوريا ابتداءً من سنة 1948 حتى عام 1967، وأصبح من المتعارف عليه أن يتضمن بيان أي حكومة جديدة في سوريا التطرق لفلسطين وكأنها إقليم من أقاليم القطر السوري.
وكذلك مثلت «المشكلة الأيديولوجية» إحدى أبرز التحديات التي واجهت الدولة السورية الجديدة، فبالرغم من قـصر فـترة العهـد الفيـصلي فإن آثـاره السياسية كان لها انعكاسات كبـيرة، فقـد تبنى الأمـير فيـصل الفكر القومي كأيديولوجية، واعتبر الهوية العربية سـابقة على أي انـتماء ديني، تحت شعار أن العرب: «هم عرب قبل عيسى وموسى ومحمد».
وتسبب التوجـه العلـماني في ظهور جبهة معارضة له منذ أول جلـسة للمـؤتمر الـسوري عـام 1919، بسبب رفض تـضمين البـسملة في عريـضة المـؤتمر، كما لاقت هذه الفكرة اعتراضًا كبيرًا، لـيس مـن التيـار الـديني فحـسب، بل من أبناء الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية الذين رأوا أن الدولة العربية الجديدة لا تحـترم خـصوصياتهم التـي حافظوا عليها في عهد الدولة العثمانية وفقًا لنظـام «الملـة» الـذي مـنحهم قـضاءهم المستقل وإدارتهم الخاصة، بينما سعت الدولة القومية في العهـد الفيـصلي إلى إلغاء هذه الامتيازات، ولم يكن عامة الشعب السوري لديه اهتمام كبير بالفلـسفة القوميـة ونظرياتهـا، بـل كانـت خطـب الجمعـة ودروس المساجد هي المحرك لهم للثورة ضد قوات الاحتلال خلال الانتفاضات الشعبية.
كما ظهرت «المشكلة الاجتماعية» بسبب تبني الفرنسيين سياسة إثارة النعرات الطائفية في المجتمع، فتم تقسيم الإقليم إلى دولة لبنان الكبير (أُعلنت في سنة 1920)، ودولة حلب (أُعلنت في سنة 1920)، ودولة العلـويين (أُعلنـت في 1920 وتكونـت مـن اللاذقية وجبلة وبانياس وصافيتا وطرطوس ومصياف)، ودولة جبل الدروز (أُعلنت في سنة 1921 وعاصمتها السويداء)، وقـد مـارست السلطـة الفرنـسية حكـمًا مـستقلًّا لإقلـيم الجــزيرة، وحــافظ الإسكندرون على استقلاليته المالية والإداريـة حتـى ضـمه لتركيـا.
ومن السخرية بمكان أن تكون اللاذقية عاصمة للدولة العلوية بالرغم مـن أنهـا لم يكن بها أي سكان علويين، كما تم توطين عـشرات الألـوف مـن المـسيحيين الأرمـن الفارين من الأناضول في سوريا؛ مما أشعل حزازات طائفية.
وفشلت تجربة الكانتونات الطائفية وانهارت بالتدريج، فاتحدت دولتا حلب ودمشق في 1924 عندما اتضح أن نفقات الدولتين قد بلغت حـدًّا لا تحتمله وارداتهما، واتخذ قرار ضم مناطق الدروز والعلويين للدولة السورية في 1936، ولكن القرار لم ينفذ بصورة فعلية حتى عام 1943.
وتعرض المسلمون السنة للظلم أكثـر مـن أي طائفـة أخـرى؛ لأن المنـاطق الـسنية لم تحـظَ بـالاهتمام الـذي أولاه الفرنـسيون للأقليات الدينية، بل اعتبروا النخبـة الـسياسية مـن أبنـاء العوائـل الكبـيرة في المدن ممثلين للأغلبية السنية، ولم تكن هذه الطبقة حريـصة عـلى تبنـي أية سياسات إصلاحية يمكن أن تضعف من نفوذها، وهكذا أدت سياسات سلطة الانتداب إلى إحـداث شروخ اجتماعية خطـيرة في بـلاد الـشام من خلال ترسيخ الفروق الدينية والعرقية والطائفية والطبقية.
نشوء المؤسسة العسكرية في ظل الانتداب
وفي الفصل الثاني «نشوء المؤسسة العسكرية في ظل الانتداب» يستعرض محاولات الفرنسيين لإنشاء قوات محلية تحت اسم «القوات الخاصة للشرق» لقمع الثورات، وقد كان تعدادها 6500 جندي عندما تأسست عام 1924، واستمرت في التوسع حتى عام 1935 وأصبح تعدادها 14 ألفًا، ثـم أخـذت تتنـاقص بعـد ذلـك حتى بلغ مجموعها عشرة آلاف.
وكانت القـوات الخاصـة تتـألف مـن متطـوعين مـن الأقليات الدينية، واحتفظ الفرنسيون بالمناصب القيادية حتى انتهاء فترة الانتداب، وتم الاستعانة بقوات إضافية غلب عليها طابع الهمجية وسوء التنظيم، فسرح الفرنسيون معظم أفرادها بعد استتباب الأمور عام 1928، وضموا الباقين إلى القوات الخاصة.
واعتمد الاحتلال على العنصر الجبلي، وتم تجنيد أعداد كبيرة مـن جبـل الأنـصارية وجبـل العرب وجبل لبنان، وأصبح غالبية المنتمين إلى القـوات الخاصـة مـن العلـويين والدروز والموارنة، بالإضافة إلى تشكيل فرق جديدة مـن الأقليـات الإسـماعيلية والأكـراد والشراكسة، بينما كان معظم العرب السنة يعتبرون الانـضمام إلى الفـرق العـسكرية التـي شـكَّلها الفرنسيون نوعًا من الخيانة.
وأصبحت القــوات الخاصــة للــشرق نواة الجيشين السوري واللبناني فيما بعد، وتزامن هذا الإجـراء مـع تـسريح عـدد كبير من القوات الإضافية سيئة السمعة، وتزايد عدد المجندين من أبناء السنة، وقـد شـهدت الفترة بين عامي 1943 و1944 بالتحديد تسريح أعداد كبيرة من الضباط السنة بسبب تمردهم عـلى القيـادة الفرنسية ورفضهم المساهمة في ضرب الثورة التي اندلعت ضد الاحتلال.
الاستقلال: بداية متعثرة
وفي الفصل الثالث «الاستقلال: بداية متعثرة (1946-1949)» يتطرق الكتاب إلى تجربة الاستقلال وما صاحبها من تحديات، حيث إن شكري القوتلي أول رئيس للجمهورية بعد استقلالها كان من أنصار الملك فيصل عام 1919، لكنه أصبح مسئولاً عن دولة صغيرة تتعرض مؤسسات الحكم بها لاختبار صعب حول قدرتها على التماسك في ظل النزعات الانفصالية لدى الأقليات كالعلويين والدروز، ولم تثبت الحكومات السورية الخمس التي تعاقبت خلال ثـلاث سـنوات كفاءتهـا في التعامل مــع هــذه التحديات، ومرت المؤسسة العسكرية باختبار صعب أيضًا، حيث تمرد بعض الجنود العلويين وقـاموا بتـدمير الممتلكـات العامة وسرقة مخازن الأسـلحة؛ لأنهم أقسموا على الولاء والطاعة لفرنسا، ولم يكـن لـديهم أي رغبـة في الخضوع للحكم الوطني، فخيرت القيادة الفرنسية من بقي تحت إمرتها من الجنود بين البقاء أو الرحيل إلى فرنـسا، فاختـار بعضهم الرحيل والتخلي عـن جنـسيته ووطنـه، وبعضهم تم تسريحه لعدم كفاءته.
وبادرت الحكومة الوطنية بتنظيم أوضاع القوات المسلحة، وحلــت الوحــدات العرقيــة والطائفيــة، وأنــشأت المــدارس والكليــات العــسكرية، واســتحدثت نظــام التجنيد الإجباري سنة 1948، وأنشأت كلية حربيـة وطنيـة مهمتهـا تخـريج الـضباط الذين تحتاج إليهم القوات المـسلحة، وبحلول عام 1948 كان عدد القوات المسلحة الـسورية قـد ارتفـع إلى حوالي 12 ألف جندي، 4599 من الـدرك، ولكـن تمثيـل الأقليـات في صفوف الضباط استمر في الارتفاع.
وفي عام 1948 أعلنت سوريا الحرب على الكيان الصهيوني، لكــن الطموحــات الكبــيرة تلاشــت عنــدما تمكنــت العــصابات الــصهيونية مــن صــد القــوات الــسورية في وادي الأردن، وأسفرت المعارك عن هزيمة الجيوش العربيـة مجتمعـة.
وبسبب الهزيمة اشتعلت احتجاجات عنيفة، وألقى المتظاهرون القنابل اليدوية على الدرك، مما دفع رجال الشرطة لإطلاق النـار عـلى الجماهـير الغاضـبة، وانهارت الأوضاع، وعندما وصلت الأزمة ذروتها في الثالث مـن شـهر ديـسمبر/كانون الأول 1948 عهـد القـوتلي إلى رئيس الأركان حسني الزعيم أن يتدخل لوضع حد للاضطرابات، وأمــر بفــرض الأحكــام العرفيــة وإغــلاق المــدارس وإخــضاع الــصحافة لرقابــة عسكرية صارمة، فبدأ الزعيم جولة في أنحاء البلاد أدت لتهدئة الأوضاع وعودة النظـام.
وثارت مناقشات حادة في البرلمان وغيره حول فساد الجيش، كشفت أن سلطة الانتداب الفرنسي أسست كيانًا مدنيًّا ضعيفًا في مواجهة مؤسسة عسكرية قوية لم تكن مـستعدة للاستحقاقات الديمقراطيـة وتبعاتهـا، ولـذلك فقـد أزعجهـم مناقـشة البرلمــان لقــضايا الجــيش فبــادروا بتوجيــه خطــاب إنــذار لــرئيس الجمهوريــة عــلى الــنمط الفرنسي مطالبين بإنـشاء محكمـة عـسكرية لمعاقبـة بعـض النـواب وإقـرار بعـض القـوانين الخاصة بالجيش ومنع مناقشة القضايا الخاصة بالمؤسـسة العـسكرية في البرلمـان، وكان رد رئيس الجمهورية على قائد الجيش الـسوري مقتـضبًا ولكنـه يحمـل في طياتـه الكثير من المعاني، فقد واجه رئيس الأركان بـنفس الطريقـة التـي كـان يواجـه فيهـا جنـرالات الجـيش الفرنـسي خلال فترة الانتداب.
الإرث الفرنسي: حكم العسكر
وفي الفصل الرابع «الإرث الفرنسي: حكم العسكر (1949-1954)» تطرق الكتاب لبداية الانقلابات العسكرية بدايةً من انقلاب رئيس الأركان حسني الزعيم، الذي فـتح البـاب لتـدخل الجـيش في شئون الحكم، ففي صباح 30 مـارس/آذار 1949، ترك رتلان عسكريان مـواقعهما في الجبهـة الـسورية الفلسطينية ودخـلا دمـشق، وتم احتجاز الرئيس ورئيس الوزراء وحل المجلس النيابي.
شهدت سـوريا خـلال الـسنوات الخمـسة الممتـدة منـذ 1949 حتـى 1954 خمـسة انقلابات عسكرية؛ ففي عـام 1949 شهدت البلاد انقلابين آخرين في 14 أغـسطس/آب على يد رئيس الأركان، سامي الحناوي، وفي 19 ديـسمبر/ كانون الأول على يد أديب الشيشكلي، ولم تكـد تهـدأ الأوضـاع حتـى قـام بانقلابه الثـاني في نـوفمبر/تشرين الثاني 1951 ليرسخ سلطته على الحكم، ثـم سـقط نظامـه بعـد ذلـك في انقلاب خامس وقع في فبراير/شباط عام 1954 على يد مجموعة من الضباط.
وقد تحرك العسكريون للإطاحة بحكم الشيشكلي سنة 1954 بسبب التصفيات التي قام بها للتخلص من خصومه؛ لأنه لم يكن يثـق بالقيـادة العـسكرية التـي شـاركت في سلسلة الانقلابات منذ سنة 1949، وكـان أغلـب أعـضائها مـن أبنـاء الأقليـات الطائفية، وقد أثارت هذه الـسياسة حنـق هـؤلاء الـضباط ضـد حكـم الشيـشكلي الـذي شرع في التخلص منهم الواحد بعد الآخر، وعمل على تغليب العنصر العربي السني.
وباختصار فإن انقلاب الزعيم جاء كمحاولة لحسم الصراع بين السياسيين والعسكريين حول تحمــل مــسئولية هزيمــة حــرب 1948، أمــا انقــلاب الحنــاوي فكــان يهــدف إلى تــصفية حسابات بين العسكريين، ونفذ الشيـشكلي انقلابـه الأول لكـبح جمـاح الانـدفاع الـشعبي نحو تشكيل اتحاد مع العراق، بينما جاء انقلابه الثاني لإتمام مـا لم ينجـزه انقلابـه الأول، فقد كان طموحه لتولي السلطة كبيرًا، وكـان يرغـب في إبعاد سـوريا عن المحور الهاشمي العراقي الأردني، وربطها بصورة أكبر مع المحور المصري السعودي، أما الانقـلاب الأخـير فكـان حركـة سياسـية اسـتُخدمت فيهـا الطائفيـة عنـدما عجـز المدنيون والعسكريون عن تنظيم صفوفهم، وأدت هذه الحركة إلى إعادة الأمور إلى الحالـة التي كانت عليها قبل انقلاب الزعيم.
وقد أدت هذه الانقلابات إلى شـل حركـة المؤسـسات الدسـتورية وتعطيـل الحريـات العامــة وفــرض الرقابــة عــلى الــصحف وأجهــزة الإعــلام وتعزيــز دور أجهــزة الأمــن.
وفي هذه الأثناء أقدم ثلاثة من رؤساء أركان الجيش الـسوري عـلى تـولي السلطات التشريعية والتنفيذية ورئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة، فانتـشرت الفوضى جـراء تعطـل الحيـاة الـسياسية، وبـرزت ظـاهرة الاغتيـالات والتـصفيات داخـل الجيش، وأصبحت وزارات الحكومة ألعوبة بيد العسكريين.
واستطاعت القـوى الإقليميـة والدوليـة الاسـتفادة مـن حالة الفوضىى وانعـدام الاسـتقرار في الـداخل الـسوري، حيـث بـادر الجـيران في العراق وكذلك مصر والسعودية بدعم مؤيديهم داخل المؤسسة العسكرية، ولم تبخــل ســفارات كــل مــن أمريكا وبريطانيا وفرنسا بـما تملكـه مـن معلومـات اسـتخباراتية وتـسهيلات فنيـة لـصالح ضباط الجيش المتنازعين وفق ما تقتضيه مصالح هذه الدول.
وأدت هذه الانقلابات إلى غرق سوريا في دوامة من المؤامرات التي كانت تحركهـا أطــراف محليــة وخارجيــة، وبحلــول منتــصف الخمــسينيات أصــبح واضـحًا للعيــان أن المؤسسة العسكرية فقدت السيطرة على نفسها، وأن الكيان الجمهوري أصبح غير قابـل للاســتمرار، ولم يبــقَ للقيــادة العــسكرية خيــار آخــر ســوى الهــروب نحــو الأمــام والــدفع بصورة حثيثة نحو إعلان الوحدة مع مصر.
صراع العسكر ونمو المد اليساري
ويستعرض الفصل الخامس «صراع العسكر ونمو المد اليساري (1954-1958)» عودة الحياة السياسية عقـب انقـلاب عام 1954، حيث تم التخلص مـن كـل مـا يمت لفـترة حكم الشيشكلي بصلة، وشنت أجهزة الحكم حملة عامـة لتطهـير الدولـة مـن المـوظفين الذين تم تعيينهم في العهد السابق، وأعيد الضباط الذين فصلهم الشيشكلي إلى الجيش، وقد بذل الحكم المدني جهودًا كبيرة لاستعادة السيطرة على المؤسسة العسكرية، ممــا أزعــج العــسكريين إزعاجًا بالغًا، وقـرر الـزعيم شـكري القـوتلي العـودة إلى سـوريا بعـد خمـس سنوات أمضاها في مصر، وتولى منصب رئاسة الجمهورية مرة أخرى.
وظل تطوير القوات المـسلحة أكـبر هـاجس يواجـه المؤسـسات المدنيـة والعـسكرية في ســوريا على حد ســواء، فتضخمت ميزانيات الجيش بصورة كبيرة، واتجهـت البلاد نحـو الكتلـة الاشـتراكية، فأبرمـت مـع الاتحاد السوفييتي عدة اتفاقيات لشراء الأسلحة، ولاقت هذه السياسة ترحيبًـا كبـيرًا مـن قبل ضباط الجيش، وبدأ الرأي العام يتجـه نحـو الـشرق أيضًا، وأسهم العدوان الثلاثي عـلى مـصر سـنة 1956 في دفـع القـوى الـسياسية في سـوريا نحو اليسار، حيث تسببت الحملة الفرنسية−البريطانية بالتعاون مـع الكيـان الـصهيوني في إضــعاف العنــاصر المواليــة للغــرب، أو حتــى المناوئــة للمــد الــشيوعي في المنطقــة، ووجــد السياسيون أنفسهم مضطرين لإعلان تضامنهم مع مصر عبد الناصر ضد العدوان الغربي.
وفي هذه الأثناء كانت علاقـات سـوريا مـع جيرانهـا في حالـة تـدهور كبـير فقـد أدى رفض لبنان قطع علاقاتها الدبلوماسية مع فرنـسا وبريطانيـا عقـب العـدوان الثلاثـي عـلى مصر إلى قطيعة سورية−لبنانية، وامتنعت لبنان عن تسليم عدد مـن المطلـوبين الـسوريين اللاجئين إليها بتهمة الخيانة والتـآمر مـع العـراق، أمـا العلاقـات الـسورية−العراقيـة فقـد وصلت إلى حالة من التردي بسبب تردد الحديث عن دعم العـراق لمحاولـة انقلابيـة ضد سوريا سنة 1956، وقد ردت سوريا عـلى ذلـك بتـدمير خـط أنابيـب الـنفط العراقي المار بها محدثـة أزمـة اقتصادية كبيرة للعراق.
وعلى الرغم من ارتفاع وتيرة الأخطار الخارجية التي هددت أمن سوريا واستقرارها، اســتمر الــصراع الــداخلي بــين المؤســسات المدنيــة والعــسكرية بــصورة رتيبــة، فقــد حــاول أقطاب الحكم المدني بالتعاون مع بعض ضباط الجيش من الدمشقيين التخلص مـن نفـوذ الضباط البعثيين، فيما لوح الأخيرون بالانقلاب، وعصفت الانقسامات بالمؤسسة العسكرية وحولتها إلى مجموعات متنـاحرة مـن الـضباط، وقامـت هـذه الانقـسامات عـلى أساس الانتماءات السياسية التي أصبحت تتغلب −بصورة مؤقتة− على الانتماء الطائفي.
الجمهورية العربية المتحدة
وفي الفصل السادس «الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961)» يتعرض الكتاب إلى أن إخفـاق تجربتـي الحكـم المـدني والعـسكري دفع بالرأي العام في سوريا نحو تأييد فكرة قيام كيان وحدوي ينتـشل الـبلاد من تلاعب السياسيين وصراعات العسكريين، وقد طُرحــت فكــرة الوحدة مع مــصر لأول مــرة علنًــا لدى توقيع ميثاق الدفاع السوري−المصري في 1955، حيث تضمنت الاتفاقية المصرية−السورية مشروعات تهدف إلى تحقيق اتحاد فيدرالي بـين الـدول العربيـة التـي تتـبرأ علنًـا مـن حلـف بغداد المقرب من الغرب، وإقامــة قيــادة موحدة لجيــوش هــذه الــدول وتوحيــد الــسياسات الثقافيــة والماليــة والخارجية، وتشكيل مجلـس مؤلـف مـن ممثلـين للـدول الأعـضاء لـلإشراف عـلى سياسـة الاتحاد.
وفي الخامس من يوليـو/تموز 1956 أعلـن رئـيس الـوزراء الـسوري صـبري العـسلي تشكيل لجنة وزارية تمهد لقيام اتحاد فيدرالي بين سوريا ومـصر، وعنـدما واجهـت سـوريا خطر الحشود التركيـة عـلى حـدودها سـنة 1957، تم وضع الجيشين المصري والسوري تحت قيادة الفريق عبد الحكـيم عـامر، ووصلت وحدة عسكرية مـصرية إلى مينـاء اللاذقيـة لـتعلن تـضامنها مـع سـوريا، وظهــرت موجـة شــعبية عارمة تطالب بالوحدة بين البلـدين، ونتيجـة لـذلك الـضغط الـشعبي بـدأت مفاوضات الوحدة.
وفي يناير/كانون الثاني 1958 عقد مجلـس القيـادة العسكرية السورية جلسة طارئـة اتخـذ فيهـا قـرارًا مفـاجئًا بسفر أعضائه إلى القاهرة لإقناع عبد الناصر بإقامـة الوحـدة الفوريـة بـين البلـدين، وتركوا رســالة لرئيس الجمهورية ورئـيس الـوزراء لتذكير الحكومـة بالعهــد الــذي قطعته بالعمــل عــلى تحقيــق الوحــدة، وتحذيرها من عواقب رفض الوحدة.
وبعد فترة قصيرة من المفاوضات −التي كان يبدو عبد الناصر فيها حـذرًا ومتريثـًا− فوجئ الوفد الـسوري بموافقـة الـرئيس المـصري عـلى تحقيـق وحـدة كاملـة ولـيس اتحـادًا فيدراليًّا، ولم يكــن أغلــب الــضباط السوريين يــدركون الفرق بــين المصطلحين.
وبالرغم من امتعاضه لمـا قـام بـه العـسكر قـرر الرئيس القـوتلي إرسال وزيـر الخارجيـة إلى القـاهرة لتنظيم الأمر، وتم إجــراء اســتفتاء عــلى الوحدة في البلدين، وأُلغيت جميع الأحزاب السياسية في سوريا أسوة بمصر، ونـشط جهـاز الاستخبارات في سوريا لفرض رقابة صـارمة عـلى الـصحافة وتعطيـل الحريـات العامـة، وشــعر الــسوريون فجــأة بــأن الزمــان قــد عــاد بهــم إلى بدايــة العهــد الديكتاتوري للشيشكلي.
وعمد عبد الناصر إلى اتخاذ مجموعة مـن الإجـراءات الهادفة إلى تحييد الجيش السوري وفصله عن أي نشاط سياسي، وكانت الخطـوة الأولى تتمثـل في عـزل رئـيس الأركـان الـسوري ذي الميول الشيوعية عفيف البزرة بعد شهر واحـد مـن قيـام الوحـدة، بعد ترقية المـشير عـامر له إلى رتبة فريق وتعيينه قائـدًا للجـيش الأول في الإقلـيم الـسوري.
وتم إجراء تنقلات وتسريحات واسعة تهـدف إلى إضعاف نفوذ الأحزاب السياسية التي تغلغلت في صفوف الضباط، وأمعن عبد الناصر في إقـصاء الـضباط الحـزبيين عـن منـاطق نفـوذهم عـن طريـق تعيين قادتهم في مناصب وزارية بعيدًا عـن مراكـز القـوى التـي كـانوا يتمتعـون بهـا داخـل المؤسسة العسكرية، وتم نقـل الـضباط الـذين يخـشى مـن نفـوذهم في سـوريا إلى مـصر، خاصة من أعضاء البعث، وتم تفـضيل الضباط الذين عملوا مع الشيشكلي، وأبنـاء المـدن والعناصر السنية على أبناء الأقليات الدينية.
وبحلول عام 1961 أصبح من الواضح للشعب السوري بأن تجربـة الوحـدة لم تكـن سوى مغامرة ارتجالية قام بهـا العـسكريون ضـد المـدنيين، وكانت النتيجة خسارة الطرفين.
ونظــرًا لأن ترتيبــات المرحلــة الانتقاليــة لم تقــم عــلى أســس سـليمة فقــد أثبتــت تجربــة الوحــدة فــشلها، وظهــرت بــوادر هــذا الفــشل في سلــسلة الاستقالات التــي قــام بها المــسئولون الــسوريون احتجاجًـا عـلى مـنح المشير عبد الحكيم عـامر الـسلطة التامـة لـلإشراف عـلى القطـر الـسوري.
وقام بعض الضباط البعثيـين في القاهرة بتـشكيل لجنـة عـسكرية سرية كـانوا عـلى خـلاف كبـير مـع مؤسسي الحزب المدنيين كميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، وقد تشكلت هذه اللجنة من خمسة أعضاء، ثلاثة منهم علويون هم: صلاح جديد ومحمد عمران وحـافظ الأسد، واثنان من الإسماعيليين هما: أحمد المير وعبد الكريم الجندي، وقد تم توسيع هـذه اللجنة فيما بعد.
وفي الثامن والعـشرين مـن شـهر سـبتمبر/أيلول 1961 تحركـت قوات من الجــيش الــسوري لتفــرض ســيطرتها عــلى دمشق، وأعلنــت الإذاعــة للمــرة السادسة خلال تسع سنوات البلاغ رقم (1)، الذي يتضمن قيام عهد جديد.
عهد الانفصال
ويتعرض الفصل السابع «عهد الانفصال (1961-1953)» لمرحلة ما بعد فشل الوحدة؛ إذ احتجز الانقلابيون المشير عبـد الحكـيم عـامر وقائـد الجـيش الـسوري جمـال فيـصل وعدد من وزراء الوحـدة في مبنـى رئاسـة الأركـان، حيـث بـدأت المفاوضـات بيـنهم وانتهى الأمر بالانفصال.
وكانت مرحلة الانفصال بمثابة العودة بسوريا إلى مرحلة ما قبـل الانقـلابات، فبالرغم من مرور خمس عشرة سنة على جلاء القوات الأجنبية عن سـوريا فإن السياسيين السوريين في الأشهر الأخيرة من سنة 1961 كانوا يناقشون كيفية الاتفاق على ميثاق وطني ووضع دستور للبلاد، ولم يكن بالبلاد مجلـس نيـابي أو حكومة دسـتورية أو حتـى رئــيس جمهورية، وسرعــان مـا عـاد الــصراع مـرة أخــرى بـين الـسياسيين والعسكريين خلال ترتيبات المرحلة الانتقالية، وبعد انتخاب مؤسسات الحكم المدني برئاسة ناظم القدسي استمر الصراع بين الحكم المدني والجيش حتى وقع انقلاب مارس/ آذار 1962 حين تحرك الجيش ليبسط سيطرته على الأمور من جديد، ووقعت انقسامات عنيفة داخل المؤسسة العسكرية، وجرت محاولات لمعالجتها، وباتت البلاد تتوقع انقلابًا وشيكًا، وكلما تم إحباط محاولة ظهرت محاولة أخرى.
الجيش العقائدي والحزب القائد
ويلقي الفصل الثامن «الجيش العقائدي والحزب القائد (1963-1970)» الضوء على تجربة حزب البعث في السلطة، فبعدما حصل البعثيــون في انتخابــات ســنة 1962 على نسبة 14% من المقاعد، بدا واضحًا أن الحـزب يمثـل أقليـة يـستحيل أن تـصل إلى الحكـم بالطريقـة الانتخابية الديمقراطية، ولذلك فقد كـان تعويـل قيادتـه عـلى الـشق العـسكري أكـبر مـن اعتمادهم على أدائهم السياسي.
ونفذ ضباط حزب البعث انقلابًا في 8 مارس/آذار 1963 وأذيع البيان رقم (1) عـلى أسـماع الـشعب الـسوري من جديد، وتم الإعلان عن تشكيل حكومة برئاسة صلاح الدين البيطار القيادي بحزب البعث، ولم يتمكن الحزب من استعادة وجوده إلا بعد توليه السلطة في المرحلة التي أعقبـت انقـلاب مـارس، حيـث قُدر عدد أعضاء حزب البعث عشية الانقلاب بأقـل مـن 400 عضو.
وبعد وصولها إلى الحكم أعلنت قيادة البعث عن تـشكيل قـوة عـسكرية جديـدة باسم الحرس الثوري في مطلع شهر يوليو/تموز 1963، وهي عبـارة عـن جهـاز حـزبي بعثـي عـسكري، وأمام هذه التطورات المتـسارعة قرر النـاصريون المبادرة بحركة انقلابيـة تهـدف إلى اسـتعادة نفوذهم في الجيش وتحقيـق الوحـدة مـع مـصر، لكن فشلت المحاولة ووقعت مواجهات عسكرية أدت إلى سقوط عدد من القتلى وتم إعدام المتمردين.
وبعد القضاء على الناصريين هيمن البعث على الـساحة الـسياسة، وأصــبحت المناصــب المدنيــة والعــسكرية ألعوبــة بيــد الــضباط البعثيــين الذين يحركون الأمور في الخفاء، وكانــت المناصب التي تولاها أمين الحافظ مثار سخرية الشارع السوري، حيث أسندت إليـه أكثـر من عشرة مناصب في آنٍ واحد، منهـا تعيينـه كرئـيس لمجلـس قيـادة الثـورة، وقائـد للجـيش، ورئــيس للجمهورية، ونائــب لرئيس الــوزراء، ووزيــر للدفاع، ووزير داخليــة، ونائــب للحــاكم العــسكري، كما أصبح في الثاني عشر مــن نوفمبر/تشرين الثاني 1963 رئيــسًا للــوزراء، بالإضافة إلى مناصبه السابقة، وعضويته في كل من القيـادة القومية، والقيادة القطرية للحزب.
وبحلول عام 1965 ظهرت نتائج التنسيب الطائفي في الجيش بصورة مروعة، حيـث قُدرت نسبة الضباط السنة بما يتراوح بـين 25 و30%، بينما بلغ أبنـاء الأقليـات الطائفيـة مـا لا يقـل عـن 70% مـن مجمـوع الـضباط، فقـد أعقبت عملية تصفية الضباط الناصريين من الجيش في يوليو/تموز 1963 تجنيد عدد كبير من الضباط العلويين من منسوبي الحزب.
وعلى إثر تصاعد الخلافات بين أركان الحكم وقع انقلاب 23 فبراير/شباط 1966 بقيادة اللواء العلوي، صلاح جديد، بتأييد من القادة العسكريين العلويين والدروز، وتمت الإطاحة بأمين الحافظ من كل مناصبه وسُلمت حقيبة الدفاع إلى حافظ الأسد بعد ترقيته مـن رتبـة نقيـب إلى لواء وهو في سن الثالثة والثلاثين، وعُين أحمد سويداني رئيـسًا للأركـان ولم يكـن يتجـاوز سن الرابعة والثلاثين، وسيطر الضباط العلويون على مقاليد الحكم، بينما شعر الضباط الدروز المشاركون في الانقلاب بالمرارة بسبب استبعادهم من المناصب العليا، ونفذوا محاولة انقلاب على صلاح جديد واستعانوا بدروز جبل العرب، وقد لعب حافظ الأسد دورًا رئيسيًّا في القضاء على هذه المحاولة الانقلابية.
ولتحقيق الانتماء العقائدي للجـيش نفذت القيـادة البعثيـة تـصفيات واسـعة تهـدف إلى اسـتبعاد جميـع العنـاصر غـير المواليـة للحـزب من الخدمة في الجيش.
وبينما كانت الاستخبارات العـسكرية مـشغولة بالمحاولات الانقلابيــة وملاحقــة المعارضــين لحكــم صلاح جديـد، كــانت الاســتخبارات الإسرائيليــة تجمــع المعلومــات حــول التحصينات السورية في هضبة الجولان، واندلعت المعارك في صباح الخامس من يونيـو/ حزيران حيـث بادر سلاح الجو الإسرائيلي بقصف المطارات العسكرية المصرية وتدمير سلاح الجو الأردني، وفي اليـوم التـالي هوجمـت المطـارات العسكرية السورية، ففقدت أكثر من ثلثي مقاتلاتها في ذلك القصف الجوي، ووقعت الجولان تحت الاحتلال دون مقاومة تذكر بعدما أمر حافظ الأسد قواته بالانسحاب وترك مواقعهم للإسرائيليين.
أدت هزيمة يونيـو/حزيران إلى إذكـاء نـار الخـلاف داخـل القيـادة الـسورية التـي انقـسمت إلى تكتلين: مجموعة صلاح جديد (الحاكم الفعلي لسوريا)، ومجموعـة وزير الدفاع حـافظ الأسـد، وبينما احتفظ الأخير بنفــوذه في الجــيش، عــزز صلاح جديــد سيطرته على الجهاز المدني للحزب، ومن خلاله أصدر إدانة لوزير الدفاع، وأصدر قـرارًا بإعفائه من منصبه، لكن قبل تنفيذ القررات بادر الأسد في الثالث عشر مـن نـوفمبر/تشرين الثاني 1970 باحتلال مكاتب الحزب وإلقاء القبض على جديد وأنصاره ورئيس الجمهورية نور الدين الأتـاسي، ورئيس الحكومة يوسف زعين، وتم تعيين حافظ الأسد رئيسًا للوزراء ووزيرًا للدفاع، وأصبح القائد الفعلي لسوريا، وعُين أحمد الخطيب رئيسًا للجمهورية بشكل مؤقت.
الطائفة، العشيرة، العائلة، والنظام الجمهوري
ويتعرض الفصل التاسع «الطائفة، العشيرة، العائلة، والنظام الجمهوري (1970-2000)» للسنوات الثلاثين المتبقية من تاريخ سوريا في القرن العشرين، فقـد تـولى حـافظ الأسـد رئاسـة الجمهورية طوال هذه الفترة، وفرض نظام حكم يقوم على الدمج بين حزب البعث والقوات المسلحة للهيمنة على مؤسسات الحكم المدني، ففي شهر مارس/آذار 1971 انتُخب الأسد رئيسًا للبلاد لمدة سبع سنوات، وفي جميع الانتخابات التالية كان هو المرشـح الوحيـد، وكـان يحـصل عـلى نسب تتجاوز 99%، ولـم تشهد سوى محاولة انقلابية واحدة قام بها رفعت شقيق حافظ الأسد، وتم قمعـها بهـدوء.
وفي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 لم يبلِ الجيش السوري بلاءً حسنًا، وكانت خسائر سوريا فادحة، وتحمـل الاقتـصاد الـسوري آثارها السلبية حتى نهاية السبعينيات.
وفي مطلع الثمانينيات شهدت المدن السورية عمليات تمرد واسعة النطاق، وتورطت فـرق الجـيش في تصفيات دموية شملت جميع المحافظات السورية، وحصدت أرواح عـشرات الآلاف مـن المواطنين، كما شـنت حملـة اعتقـالات صـاحبتها محـاكم عـسكرية لم تكـن تـتردد في إصـدار أحكام الإعدام.
وقد لجأت السلطات السورية إلى سياسة أدت إلى إذكـاء الـصراع بـدلًا من احتوائه، فقامت بتطهير أجهزة الأمن والجيش من العناصر السنية وإحلال العلـويين محلهم، وشهدت مدينة حماة في فبرايـر/شباط 1982 آخـر عمليـات التطهـير الأمنـي وأكثرهـا شراسة فقد راح ضحيتها عشرات الآلاف من القتلى، وحاولـت العديـد مـن مـنظمات حقـوق الإنسان تقدير عـدد المـساجين الـسياسيين في سـوريا خـلال الفـترة 1979 − 1982 مـن خلال إحصاء عــدد السجون الأمنية وسعتها، وكانت التقديرات تتجاوز عشرات الآلاف.
وقامت سياسة نظـام الحكـم في سـوريا على ترسيخ الإرث الفرنسي المتمثل في نظام حكم مدني ضعيف وأحزاب سياسية لا تملك نظرية سياسية ناضـجة، في مواجهـة مؤسـسة عـسكرية تشكل عنصر التـوازن الفعـلي في الإدارة المحليـة والأمـن وتبـسط نفـوذها عـلى جهـاز الحكم المدني بــالاعتماد عــلى الأقليــات الطائفيــة التــي اســتند إليهــا الفرنــسيون للإضعاف من المقاومة التي قامت ضد سلطة الانتداب.
واعتمد نظام الأسد على الجيش والمؤسسات الأمنية في تثبيت حكمه، واعتمد في ذلك عـلى العنـصر الطـائفي والعشائري والعائلي باعتباره الأكثـر ضـمانًا بالنـسبة لتحقيـق معادلـة التـوازن الـصعبة داخل المؤسسة العسكرية.