سينما «آري أستر»: أن تكون الأسرة الفكرة الأكثر إرعابًا
بعد تقديمه فيلمه الطويل الأول Hereditary عام 2017، نجح المُخرج «آري أستر» في جذب الأنظار إليه كمُجدد شاب لسينما الرعب، أحد أكثر الأنواع السينمائية التي تُعاني من الرتابة والتكرار التجاري، ليصفه العملاق «مارتن سكورسيزي» بكونه:
عبر ثلاثة أفلام مُثيرة للجدل، خلت سينما «أستر» من الأشباح ومصاصي الدماء والقتلة ذوي الأقنعة على طريقة أفلام Slasher، إنما احتوت تجاورًا مُثيرًا للانتباه بين عائلات حديثة مُحطمة تتوارث صدماتها النفسية، وجماعات طقوسية بدائية موغلة في القدم تعود دومًا للظهور. فتبدو العائلات على حداثتها كامتداد لكيانات قديمة. ولعنات متوارثة، وحتميات قدرية لا فكاك منها!
يحاول هذا المقال تتبع سينما «أستر» وأفلامه الثلاثة، في محاولة لتحليل مكونات عالمه السينمائي، الذي انقسم النُقاد حول العالم بين الإشادة به كبناء فني يُعيد الرعب لجذوره الأولى الأكثر أصالة والتسفيه منه باعتباره عالمًا مرضيًا يتدثر صانعه برداء الإبداع.
عودة المقموع
يدور فيلم «أستر» الأول Hereditary حول جماعة طقوسية قديمة تُحاول استدعاء كيان شيطاني Paimon عبر البحث عن مُضيف ذكر هش ليحل فيه، تجد البطلة الأم «آني» أن أمها أو الجدة العجوز كانت قائدة الجماعة، بينما ابنها أو الحفيد «بيتر» هو الأضحية المنشودة لتحل فيها روح الكيان.
بينما يدور فيلمه الثاني Midsommar حول زيارة «داني» مع حبيبها وأصدقائه إلى «السويد» لحضور مهرجان منتصف الصيف الذي تقوده جماعة طقوسية اسكندنافية، يُشتهر أعضاؤها منذ قديم الأزل بالتشارك الروحاني لكل المشاعر مثل الفرح الربيعي والألم الشتوي، وصولًا لتشارك الموت في لحظة خريف بعينها، لأن حياة المرء في تلك الجماعة تشبه الفصول الموسمية.
يموت أصدقاء «داني» واحدًا تلو الآخر كأضحيات بشرية لطقوس موسمية لتُتوج «داني» في النهاية كملكة انتظرتها تلك الجماعة طويلًا لتقودها.
في عام 1919 قدم «فرويد» مقالته الشهيرة The Uncanny التي يعتبرها كثيرون الإطار النفسي الأمثل لتفسير سينما الرُعب، وفيها يقول «فرويد» إن المرعب والمُخيف لا يتعدى كثيرًا أن يكون صدمة مفاجئة تستعيد فكرة مألوفة بعينها، فكرة اعتمد تماسُكنا النفسي طويلًا على قمعها بعناية في اللاوعي، فكرة لم يكن لها أن تظهر أبدًا، عندما تظهر تلك الفكرة عبر حدث مُرعب، لا يُخيفنا الحدث في ذاته إنما يُخيفنا عودة المقموع وراءه، وأنه على كل ما يُحيطه من رعب يبدو مألوفًا. فندرك أننا لا نراه للمرة الأولى إنما واجهناه مُسبقًا، ودفناه بعناية، والآن علينا مواجهته مٌجددًا.
لا شيء يبدو مألوفًا في جماعات طقوسية بدائية تُحاول إحياء شياطين قُدامى أو محو فرادة أعضائها ليصيروا كيانًا شعوريًا واحدًا، ولكن في سينما «أستر» تصير الحكاية المُرعبة واجهة لا أكثر أو طقوسًا لاستعادة أشد أفكارنا مألوفية ورعبًا في آن، الأفكار التي لا نجرؤ على أن نرويها لأنفسنا بصوت مٌرتفع.
رعب الأسرة السعيدة
عندما أبدى «سكورسيزي» اعجابه بسينما «أستر» التي لا تشبه سينماه في شيء، قال إنها لا تدور حول الرعب في ذاته إنما حول العائلة، فهي العمود الفقري للسرد بأكمله، وبينما كانت العائلة هي الهاجس الذي حول به «سكورسيزي» عصابات المافيا لكيانات أكثر تعقيدًا في دراما من الولاء والخيانة كانت العائلة هي الهاجس الذي حول به «أستر» حبكات رعب طقوسي لتمظهرات لأفكار أكثر تجذرًا في داخلنا وهي أدوارنا العائلية.
تقول البطلة «آن» في الحكاية الأولى، إنها لم تُرد أن تصبح أمًا، لأنها تنحدر من نسل أسرة تُعاني من المرض النفسي كلعنة وراثية، فأخوها قتل نفسه لمعاناته من الفُصام، بينما أمها عانت من اضطراب الهوية التفارقي، لذلك أيقنت «آن» أن فك اللعنة يكون بقطع النسل، لكنها تحت وطأة ضغوط والدتها تستسلم للزواج والإنجاب.
تُعاني «آن» من السير خلال نومها، تتذكر حادثة استيقاظها المفاجئ ذات ليلة وهي تُمسك في يد مُخفف الطلاء وفي أخرى عود الثقاب بينما تنظر لابنها في فراشه وهو يرتعد، حادثة سترسم علاقتها بابنها للأبد. الابن يوقن أن أمه أرادت التخلص منه في تلك الليلة بينما الأم تنكر ذلك وهي في قرارة نفسها تعلم أن السير نومًا هو محاولتها لمطاردة أمنيات لا تقوى على السير لها في يقظتها.
في مشهد مٌشابه عندما يصير الطفل فتى، تجد الأم نفسها في حُجرته، تفلت الكلمات من فمها كأنها لا تملك سلطانًا عليها وهي تُخبره أنها لم تُرد أن تكون أمًا، وحاولت إجهاضه مرارًا.
يُمكن تأويل الحكاية بأكملها من منظور الرعب، وهو أن الجدة لم تكن مريضة بالأساس إنما قدمت روحها للشيطان ووظفت نسلها لخدمته، حاولت تقديم ابنها كقربان لاستعادة الشيطان لكنه قتل نفسه، ثم أجبرت ابنتها على الزواج والإنجاب لتقدم ذكرًا يصلح كأضحية.
ويُمكن تأويلها كمأزق أكثر بساطة ورعبًا من ذلك، أن الوجود لعنة وراثية، فالمرء يُمكنه اختيار كل شيء إلا وجوده ذاته، وجودك رهين قرار والديك، ماذا إذن لو جئت للعالم على غير رغبة والديك؟
ماذا لو كان الأمر أبسط من جماعة طقوسية شيطانية تبحث عن مضيف، إنما سلسلة تقاليد بالية أخبرت امرأة أن تحققها لن يكون إلا بالإنجاب، عندها قد تتحول الأمومة من مُهمة مٌقدسة إلى عبء مُرعب، لا يُفرغ ضغوطه إلا في الأحلام، عندما تحلم الأم بقتل أبنائها لتستعيد حُريتها وتكسر لعنتها.
تبدو خاطرة شديدة المألوفية، لا توجد أم إلا وقد راودتها تلك الرغبة في التحرر من أطفالها، بتركهم أو بقتلهم أو بأمنية العودة بالزمن لكيلا تُنجبهم من الأساس. خاطرة على مألوفيتها حد ظهورها في أمراض مثل «اكتئاب ما بعد الولادة»، صُممت الحياة الحديثة لتجعل البوح بها خطيئة لا تغتفر، لذلك تُقمع بعناية في اللاوعي الجمعي، عندما تبوح البطلة بهواجسها لابنها تُسارع بوضع يدها على فمها، لأن المقموع بات بوحًا مُعلنًا.
ربما لذلك لا يختار «آستر» لفيلمه اسم الجماعة الطقوسية أو الشيطان، إنما كلمة بسيطة «وراثي» ليُخبرك أن الفيلم أكثر ببساطة مما يبدو عليه، إنما يستعير تيمة الرعب ليعود المقموع للظهور.
في فيلمه الثاني Midsommar، نجد أن الرحلة بأكملها للمهرجان تأتي ضمن محاولة البطلة «آني» للتعافي بعدما قامت أختها مريضة «الاكتئاب ثنائي القطب» بالانتحار خنقًا بأول أكسيد الكربون، لكنها لم تمت وحدها إنما قتلت والديها معها ليختنقا في فراشهما دون أن يعرفا ما حل بهما.
تستعيد «داني» رسائل أختها السابقة التي تشكو فيها من عجزها عن التواصل مع والديها، وعدم فهمهما لطبيعة مرضها. نٌدرك أن داني تحمل لعنة عائلتها معها، فهي تحيا في علاقة اعتمادية سامة وباردة، عاجزة عن التواصل مع حبيبها «كريستيان»، الذي يُصور مشاعرها واحتياجاتها باعتبارها عبئًا عليها دومًا اخفاؤه أو الاعتذار عن ظهوره.
تبذل داني جهدًا خرافيًا للتحكم في مشاعرها ونوبات هلعها بعد مأساة عائلتها، وتذهب إلى المهرجان على غير إرادتها لكنها تعلمت إخفاء رغباتها والانصياع لرغبات شريكها خوفًا من أن يتركها.
في فيلمه الشهير Melancholia قدم «لارس فون ترير» نهاية العالم كحدث مرعب لكل أبطاله إلا بطلته مريضة الاكتئاب التي وجدت في القيامة تحرر من مرضها، لأن بنهاية العالم تنتهي كل مخاوفها من المستقبل.
يستعير «أستر» التيمة ذاتها، لتجد بطلة مثل «داني» تنحدر من أسرة باردة لا تعترف باحتياجات الأبناء وتُقرها إنما تقمعها، إنها أخيرًا في مساحة تتقبل التعبير عن مشاعرها وتُشجعه، تنتمي لجماعة طقوسية تعتمد على تشارك العواطف والمشاعر بكل صورها لتجد فيها جنة بديلة عن عالمها القديم.
يقول «أستر» إن ما بدا كحكاية مُرعبة لكل شخوص الفيلم كان بالنسبة للبطلة آني Fairy Tale حكاية خرافية سعيدة، ومثلما تشاركت آني البهجة والتقبل والسرور مع الجماعة، ستتشارك معهم كذلك الجانب المُظلم من المشاعر.
في مشهد يُناقض تماسك «آني» السابق وشعورها بالخزي من انفلات مشاعرها، تُعبر عن ألمها من خيانة حبيبها لها بالصراخ والبكاء بنحيب مُرتفع، لتجد كل أفراد الجماعة يٌشاركونها النحيب والبكاء ليمنحوا مشاعرها شرعية للخروج.
بعدما تشاركت آني مشاعر الألم والخزي والخوف والانهيار مع جماعتها، يمنحونها الإطار المثالي لتفريغ الانتقام، وبينما احتاجت أختها للوقوف في وجه والديها أن تقدم نفسها كأضحية فتقتل نفسها وتقتلهما، تقف آني في وجه حبيبها الذي أنكر احتياجاتها وسجنها في قوقعة الذنب وخانها أخيرًا، وتقدمه كأضحية بشرية لمهرجان الصيف. بينما تعلو وجهها، أخيرًا، ابتسامة رضا مُنتشي.
يقول «آري أستر» الذي كتب فيلمه تحت وطأة انفصال عاطفي مُثقل زلزل كيانه أن Midsommar يُمكن قراءته بالتأكيد كفيلم رعب عادي ينتمي للـFolk Horror، ويُمكن قراءته كرغبة مقموعة في التعبير عن مشاعرنا الجريحة التي لا تغفر الحياة الحديثة المُتحضرة ظهورها.
بينما يحمل Hereditary رغبة الأمهات المُحرمة في قتل الأبناء، لكونهم كائنات طفيلية تستلب هوية المضيف، وتحوله لكيان مسخر لخدمتهم، يحمل Midsommar رغبة الأبناء المُحرمة في قتل آبائهم لأنهم جلبوهم لعالم قاس يستثير فيض مشاعر بالغ العنفوان، وعندما يحاولون التعبير عن هذا الفيض، يرفض الآباء فهم تلك المشاعر أو حتى منحها شرعية الوجود.
لذلك تقتل آني حبيبها الذي يُمثل صورة من جفاء والديها العاطفي وربما لهذا الأساس اختارته بلا وعي شريكًا لها. وهنا يُمكن أن نسأل لماذا احتاج التعبير عن تلك الرغبات مُغامرات عنيفة في رحاب جماعات طقوسية بدائية؟
سينما الرعب، زيارة مُحررة لعوالم بدائية
يرى «فرويد» أن عودة المقموع يكون وقعها أكثر درامية وروعًا في مجتمعاتنا الحديثة الحالية لأن أفرادها صنعوا قيود التحضر ليتحرروا من بدائيتهم، ففي سبيل صُنع مجتمع متحضر متماسك قمع البشر الكثير من مخاوفهم في اللاوعي الجمعي، وهو ما يعني أن المقموع في عودته سيكون أشد وطأة.
تتسم المجتمعات البدائية على همجيتها ووحشيتها، بأنها عبرت عن مخاوفها ونوازعها بطريقة أكثر مباشرة، بالأضحيات والقتل والعنف، رغم رعب الحياة في جماعات كتلك فإن أفرادها لا يخافون أبدًا من عودة المقموع وربما لا يمتلكون مساحة كبيرة للاوعي لأن نوازعهم حاضرة دومًا للعالم في أشد صورها شهوانية أو عنفًا. لا شيء سيعود من اللاوعي ليطاردهم لأنه لا شيء تم اخفاؤه من الأساس.
لذلك جاءت الجماعات الطقوسية في سينما «آري أستر»، لتمثل مساحة مُشجعة للإنسان الحديث لزيارة عالم أكثر بدائية، يُمكنه فيه التعبير عن أشد هواجسه رعبًا دون خوف، عندما يجد نفسه في رحاب تلك العوالم البدائية، يتحرر البطل دومًا من المكابح التي صنعها لوعيه، تتحرر «داني» من قمعها الدائم لمشاعرها، وتتحرر «آني» من كراهيتها الأثيرة لأمومتها.
في سينما «آستر»، تُمنح عوالم الأبطال الداخلية حضورًا خارجيًا، فيتحول الاعتراف النفسي المخيف برغبتنا أحيانًا كآباء في قتل أبنائنا أو كأبناء في قتل آبائنا لشكل سينمائي مُكتمل، من همهمة خفية لحكاية مرعبة علنية. لكنها حكاية لا تتوج بانتصار، لأن الرابطة بين الآباء والأبناء لا يُمكن نقضها بعد حدوثها أو التحرر منها بالطلاق وبكل صور الانفصال الأخرى.
اخترع البشر قديمًا «الميلودراما» كفن مسرحي صارخ يُمكن فيه تصحيح أخطاء الوجود مثل انعدام العدالة وهزيمة الخير، في الميلودراما يوجد البطل الأبيض الناصع والشرير الأسود المخيف وعبر حبكة غنائية مُزلزلة للمشاعر ينتصر الخير دومًا، ويستعيد المتفرجون حس العدالة المفقود في عالمهم الحقيقي، يصف «آستر» السينما خاصته بأنها «ميلودراما» صارخة لكنها لا تستند على رغبة خيالية في العدل إنما رغبة حقيقية في التطهر من مشاعر لا يُمكن التعبير عنها في العالم الحقيقي.
لذلك يبدأ فيلمه Hereditary بلقطة مُقربة من منزل دمى صغير، يٌشبه في كل تفاصيله منزل الأبطال الحقيقي، ثم تتحول اللقطة للمنزل الكامل، نُدرك منذ البداية أن المخرج ينظر لأبطاله كدمى مسلوبة الإرادة في حكاية قدرية لا يُمكن التحرر منها أو كما يصفها:
بينما يبدأ Misdommar بنقوش جمالية اسكندنافية تروي قصة الفيلم قبل حدوثه، تروي مأساة داني ومصائر أصدقائها وصولًا لمشهد الأضحية الأخير بينما المتلقي الغافل يصعب عليه تأويل تلك المشاهد من البداية، يُخبرنا أستر بالنهاية بلا خوف لأن الحكاية ماساة إغريقية مُكتملة، لن يغير روايتها شيء إلا تحرير مشاعرنا المقموعة.
فالرعب الحقيقي في سينما أستر لا يكمن في جماعة بدائية طقوسية يُمكن هزيمتها أو قتل أفرادها، أو القضاء عليها بسلطة القانون، إنما خلو العالم الحديث من مساحة للبوح بسجن أدوار لا فكاك منها مثل الأمومة والبنوة، أدوار شديدة القداسة حد أن التحرر منها ولو بالخيال يحتاج لاستدعاء جماعات بدائية مرعبة وحضارات قديمة قدمت أبناءها كقرابين.
يؤطر أستر الأمر بشكل أكثر تفصيلًا في فيلمه الأخير لBeau is Afraid الذي يحمل بورتريه قاتمًا للإنسان الحديث، الذي بلغ لا وعيه حالة من التشبع بمخاوفه حد باتت معه عودة المقموع ليست حتمية وحسب إنما طوفان في عودته قد يُحطم كل شيء.
«بو» خائفًا، المجتمع الحديث بعيون مذعورة
يدور فيلم Beau is Afraid حول «بو» الأربعيني الذي يُقرر العودة لزيارة والدته المريضة، لكن يتحول قرار العودة لرحلة مُرعبة، في هذا الفيلم يتحرر «أستر» أكثر من إطار الحبكة المتماسكة لمنحى أكثر سيولة في فيلم يعتمد بالأساس على جعل كل ما هو جوانيًا برانيًا، نُدرك أننا لا نرى العالم كما هو إنما عبر وجدان «بو» الخائف.
في العالم الحديث تدور سينما الرعب حول الخوف من الفوضى وانفلات المدينة مثل سلسلة Purge الشهيرة أو الخوف من القتلة المتسلسلين المهووسين بشر لا يراه سواهم على طريقة فيلم Se7en أو رعب كوبريك الشهير في Full Metal Jacket عن الحلم الأمريكي الذي يصيب حالميه بالجنون في فيتنام. فيعودوا كجنود محطمين للوطن من كرب ما بعد الصدمة.
يقوم «أستر» بتكثيف كل المخاوف التي تشبع بها الوجدان الأمريكي الحديث، ليجد «بو» أن فكرة خروجه من منزله تعني مواجهة كل ما سبق. في إشارة لأننا كلما اقتربنا من حداثتنا زاد لا وعينا توحشًا وزادت رغبتنا في خلق رعب أكثر قسوة ليُعوض ما نقمعه بداخلنا.
ندرك كعادة سينما أستر أن رعب «بو» الأساسي هو أكثر بساطة، هو العودة لمقابلة أمه التي شكلت مصدر الرعب الرئيسي في حياته.
يأتي «بو» من نسل أمهات مٌتسلطات، الجدة كرهت أمه رغم محاولة الأخيرة لفعل كل شيء لنيل القبول، لذلك عندما تُنجب الأم «بو»، تقرر أن تمنحه حبها بأكثر الصور تسلطًا ومرضية، وهو أن تجعل العالم سجنًا لمحبتها له.
في سينما «أستر» يصير دومًا وجودنا لعنة وراثية أو حلًا لمشكلة قديمة لا شأن لنا بها، يصير الحفيد في Hereditary حل لرغبة الجدة في مُضيف مثالي للشيطان أو لأفكار قديمة بالية لاستمرارية المرء بالإنجاب. ويصير الابن «بو» حل لرغبة الأم في أن تنال الحُب الذي لم تمنحه لها أمها.
يحوي Beau is Afraid تنويعات كثيرة عن المخاوف الفرويدية، تقوم الأم بخصاء الأب بشكل مجازي مثلما تتخلص بعض أنواع العناكب المؤنثة من الذكر بعد التزاوج، ثم تُخبر الابن أنه مصاب بلعنة وراثية لا تتلخص في أنه تعويض عاطفي للأم عن عقدتها القديمة إنما في أكذوبة أنه يأتي من نسل رجال يموتون في لحظة النشوة الجنسية، لذلك يحيا «بو» خائفًا من مُمارسة الجنس وبالتالي تكوين علاقة مع امرأة أخرى أو من الحديث عن أبيه، فتطمئن الأم لسجنه بالكامل في عالمها.
عندما ينكشف كل شيء يحاول الابن قتل الأم وتقوم الأم بعقد مُحاكمة لطفلها، وينتهي الأمر ببو صريعًا بينما الجمهور الذي يرى المحاكمة ينسحب متململًا من المشاهدة.
يمثل «بو» انفجار سينمائي لكل الهواجس التي دارت في أفلام «أستر» السابقة، فأدوار الأمومة والبنوة لا فكاك منها، ومهما كان الحقيقي والمجازي في فيلم «بو»، يظل آباؤنا بداخلنا بصورة أو بأخرى، يحضرون بظل ثقيل حتى بعد غيابهم، حتى في أشد لحظاتنا استقلالًا ونضجًا مثل الارتباط والجنس.
ومثلما حملت أفلام «أستر» السابقة طابع الحتمية القدرية المُقبض ندرك في نهاية «بو» أن خروج تلك الهواجس للعلن يستدعي المُحاكمة، وأن التعبير عن تلك الأفكار لن يجد تفهمًا أبدًا بل إدانة. يُجيب بذلك أستر عن حاجته للجماعات الطقوسية وصورها البدائية في أفلامه القديمة، لم تعقد تلك المجتمعات محاكمة أبدًا إنما شجعت خروج تلك الرغبات للعلن، بينما مجتمع «بو» الحديث الخائف عقد محاكمة فورية وإدانة ناجزة لأن «بو» يمثل مخاوف الكثير منا لا يجرؤ على البوح بها.
السينما كدواء للعنة وراثية
في فيلم «بو» يجد البطل سلامه ولو للحظات عندما يفر إلى غابة، ليجد جماعة بدائية تُسمي نفسها «أيتام الغابة»، تؤدي مسرحية فنية، عن قصة بطل فرقه عن عائلته طوفان مخيف، وسخر حياته بأكملها لمحاولة وصال عائلته من جديد.
في لحظة بعينها يُشير «بو» بإصبعه للمسرح بينما الممثلين يرتدون أقنعة تخفي وجوههم، ليمنحوا المتلقين فرصة أن يضعوا على أقنعتهم الوجوه التي يتخيلونها، يضع بو وجهه على صورة البطل وهو يقول:
تلك هي قصتي.
تحاول سينما «آستر» في كل أفلامه صنع صورة مٌتخيلة من هذا المشهد بعينه، فيها يزور الإنسان الحديث تيمات بدائية، لتأتي لحظة بعينها يضع فيها المتفرج وجهه على أقنعة الممثلين ويرى ذاته في أكثر الأحوال التي يُدينها مجتمعه الحديث ويقمع الاشارة لها.
لا يقدم «أستر» المجتمعات البدائية كحالة رومانسية ننشد استعادتها لبشرية مُتحررة من قيودها ومطيعة لغرائزها، إنما يؤطر الفن باعتباره دواء المجتمعات الحديثة لاستعادة المقموع دون أن ندفع ثمنًا مُرعبًا.
يقول «أستر» إن كتابته فيلمه الثاني Midsommar كانت طريقته العلاجية للتعافي من انفصال عاطفي مؤرق، مثلما كانت الأفلام دومًا تطهيرًا له من أحوال أشد رعبًا.
يتذكر «أستر» علاقته الوثيقة بأمه التي قدمته لعوالم السينما في طفولته والتي شاهد معها أكثر الأفلام رعبًا أو إثارة وجرأة وحللها معها باستمتاع، لتصير السينما أداته الأثيرة في التطهر من مخاوفه. لم تكن أمه سلطة مرعبة في عالمه، عليه معها أن يصير آخر، إنما قدمت له الوسيط الذي يُمكن من خلاله إعادة تدوير أشد الأفكار تطرفًا دون خوف، حتى لو كانت أفكارًا تتعلق بأدوارنا الأساسية كآباء وأبناء.
لا يهدف «أستر» لخلق سينما مُقبضة أو جنونية أو مثيرة للاشمئزاز، إنما سينما تستعيد المقموع عبر جونرة الرعب، وهو أكثر أدوار الرعب أصالة منذ ظهوره كلون فني وأدبي.
في ميلودراما مُغلقة على ذاتها، لا فكاك منها، يقدم «أستر» حكاياته، لأنها سينما لا تهدف للانتصار الهزلي على مخاوفنا إنما لمواجهتها، مهما كانت مألوفة ومهما بذلنا جهدنا سابقًا في قمعها، لأن ما لا نواجهه يعود دومًا في صور أشد قبحًا، أو في لعنات نورثها لأبنائنا في صور برود أو حُب تملك أو كراهية مُبطنة، في سينما «أستر» كل شيء وراثيًا، والسينما طريقة جمالية لتُعيد الجينات ترتيب نفسها فتتحرر من لعنتها السابقة ولا تُصدرها لأجيال تالية.