لا تمنعوا الناس من الحج والعمرة لأسباب سياسية
لم ينقض هذا العام دون أن نرى دولتين مسلمتين تمنعان مواطنيهما من أداء فريضة الحج لأسباب سياسية، هي أشبه بمكايداتها من مكايدها.
أما الأولى فكانت إيران؛ بسبب تلاسن الدولتين عن حادث رمي الجمرات في موسم الحج الماضي. وأما الثانية فهي مصر بقيادة الجنرال السيسي الذي يريد أن يعلن استقلاله عن التبعية للسعودية وقراراتها، فقرر أن يمنع المصريين من التبعية لقبلتهم ومهوى أفئدتهم ومأواها.
ربما هذه هي المرة الأولى منذ زمن بعيد التي يمنع فيه الحج عن مجموعة من المسلمين لأسباب سياسية مباشرة، ربما كان المنع من قبل لأسباب صحية مثلما حدث في تونس سنة ٢٠٠٩ بعد انتشار فيروس إنفلونزا الخنازير. وبالرغم من دخول هذا السبب تحت شرط عدم الاستطاعة، قوبل هذا القرار الذي اتخذته حكومة تونس في ذلك الوقت بالرفض والاستنكار من العلماء المسلمين، ومن المنظمات الإسلامية.
كتب العلامة محمد شاكر(*) رحمه الله وكيل مشيخة الأزهر وقاضي قضاة السودان، هذه المقالة المنشورة بمجلة الفتح(**) على إثر نزاع حدودي بين المملكة العراقية بقيادة الملك فيصل الأول بن الشريف حسين والتي كانت تحت الانتداب البريطاني، ومملكة نجد والحجاز بقيادة الملك عبد العزيز بن سعود والتي كانت نواة الدولة السعودية الثالثة. أخل هذا النزاع باتفاقية بحرة التي عقدت بين المملكتين سنة 1925م، فقررت حكومة العراق على إثر هذا النزاع منع رعاياها من الحج إلى بيت الله الحرام.
فكتب الشيخ محمد شاكر – رحمه الله- هذه المقالة ليبيّن فيها خطر النزعة القومية الحديثة على الشعائر الإسلامية التي لم يعد شيء يربط المسلمين بعضهم ببعض سواها بعد إعلان سقوط الخلافة الإسلامية سنة 1923م.
يا عباد الله: لا تحولوا بين الناس وبين أداء فريضة أوجبها الله على عباده المؤمنين
بين تلغرافات المقطم الخصوصية تلغراف من بيروت تاريخه ٢٢ مارس سنة ١٩٢٩، بهذا النص: «منعت حكومة العراق رعاياها من تأدية فريضة الحج نظرًا إلى الأزمة الواقعة بينها وبين نجد».
فإن يك حقًا الذي يقول مكاتب المقطم البيروتي عن حكومة العراق – ولا أحسبه إلا كذلك – كان حقًا على جميع المسلمين في بقاع الأرض أن يفكروا طويلاً في تلك النزعة الحديثة، نزعة القومية العصرية التي أحلها دعاة التجدد والانتقال في الولايات والممالك الإسلامية محل أخوة الإسلام، حتى استباحوا في إحدى الممالك المشمولة بالانتداب أن يمنعوا رعاياهم المسلمين من تأدية فريضة الحج بسبب خلاف بين تلك المملكة وجارتها الإسلامية على شيء من الحدود بين المملكتين الإسلاميتين.
فتراهم لهذا السبب يقيمون العراقيل في سبيل الذين يريدون أن يؤدوا فريضة من الفرائض التي أوجبها الله على عباده المؤمنين، {ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد}.
ما شأن الشعائر الإسلامية وفريضة الحج في خلاف على بعض الحدود بين مملكتين إسلاميتين متجاورتين، قدّر عليهما أن ينفرط عقد الأخوة بينهما، وقد عاشا ثلاثة عشر قرنًا ونيفًا لا يعرفان من الأعلام سوى علم الإسلام يخفق على الهامات وعلى الحصون؟.
لم تبق لنا هذه النزعة العنصرية من علاقة بين دول الإسلام سوى فريضة الحج التي افترضها الله على عباده توثيقًا لرابطة الأخوة الإسلامية بين عباده المؤمنين، وقد جاءوا من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله وليطوفوا بالبيت العتيق.
فهل تريد حكومة العراق بمنع رعاياها المسلمين من تأدية فريضة الحج في هذا العام أن تقضي على البقية الباقية من الروابط الإسلامية بين أمم الإسلام حتى ما كان منها متعلقًا بالشعائر الدينية؟
وأن تخضع شعيرة الحج إلى بيت الله الحرام لتلك النزعة العنصرية التي أحلها دعاة التجدد والانتقال محل أخوة الإسلام في العلاقات بين الممالك الإسلامية ورعاياها المسلمين؟
{هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}. أولئك الذين مزقوا شمل الإسلام واتخذوا من نزعة القومية العنصرية بديلاً من الأخوة الإسلامية ليكونوا قادة الناس وساسة الأمم وأصحاب التيجان في تراث الإسلام الذي مزقوا شمله. {فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين}.
إن في هذا القرار الذي أصدرته حكومة العراق بمنع رعاياها المسلمين من تأدية فريضة الحج إلى بيت الله الحرام؛ بسبب الخلاف الواقع بينها وبين نجد على بعض الحدود بين البلادين، لَإنذارًا بعيد المرمى عميق المغزى يضع العالم الإسلامي في موقف من الحيرة والارتباك وفي موقف الحذر على مستقبل الإسلام في شعائره الدينية.
إنها لتجربة قاسية تلك التجربة العراقية التي تريد حكومة العراق أن تمتحن بها العالم الإسلامي في إخضاع فريضة الحج إلى بيت الله الحرام للنزعات العنصرية والتصرفات السياسية.
فعلى الذين يهيمنون على حكومة العراق بحكم الانتداب ألا يدعوا هذه الحكومة تعبث بالشعائر الإسلامية في منع رعاياها من تأدية فريضة الحج إلى بيت الله الحرام، عبثًا قد ينقلب إلى شر مستطير.
وربك يعلم ما تُكنّ صدورهم وما يعلنون.
* هو العلامة محمد شاكر عبد القادر آل أبي علياء. ولد بجرجا بسوهاج سنة ١٨٦٦ م، وتلقى تعليمه بالأزهر الشريف، ثم تدرج في مناصب الإفتاء ثم القضاء الشرعي حتى عيّن قاضيًا لقضاة السودان، ثم عيّن شيخًا لعلماء الإسكندرية، ثم وكيلاً لمشيخة الأزهر، ثم طلب إعفاءه من المناصب الإدارية وتعيينه بالمجلس التشريعي. اعتنى بالسياسة والشأن العام الإسلامي، ولم يفته التعليق على أكثر قضايا عصره. شارك في ثورة ١٩١٩م بنفسه وبأولاده وكان أبرزهم الشيخ علي محمد شاكر، وقاد طلبة الأزهر للقضاء على محاولات الإنجليز التلاعب بالثورة، وتوفي سنة ١٩٣٩م، وهو والد العلامة المحدث أحمد محمد شاكر، والعلامة الأديب محمود محمد شاكر.** نشرت المقالة بمجلة الفتح في العدد ١٤١، ٢٨ مارس آذار ١٩٢٩م.