في مواجهة السرديات الكبرى: هل نشهد صعود مؤرخين عرب جدد؟
منذ ثلاثين عاماً ونيفاً، بزغت في إسرائيل مجموعة من الكتابات التاريخية التي سعى مؤلفوها إلى إعادة قراءة وكتابة «تاريخ إسرائيل» وتاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، بعين نقدية ومقاربة استقامت على مقتضى الأمانة المهنية والصلابة المنهجية. كان هدف هذه الجماعة من المؤلفين -التي ضمت أسماء لامعة مثل أفي شلايم وإيلان بابيه وبيني موريس- هو تلافي جملة الانحيازات والضغوط والإغواءات التي طبعت نظرة التيار الرئيسي لأجيال المؤرخين والكتاب السابقين. بمرور السنوات، انضمت إليهم في ذات المنحى طائفة من حملة المحابر من علماء السياسة والاجتماع والأدباء والنقاد، والذين أطلق عليهم -مجتمعين- تعبير «المؤرخين الجدد».
في نفس الفترة الزمنية التي انصب عليها اهتمام هؤلاء المثقفين، أي النصف الثاني من القرن العشرين، دارت في الوطن العربي رحى أحداث جسام، مثل نكبة فلسطين وثورة يوليو وحروب الأعوام 1956 و1967 و1973 وطفرة البترودولار وغزو لبنان، وجملة من التطورات الاجتماعية والثقافية عظيمة التأثير والنطاق. على أهميتها، احتجب كنه هذه التطورات والأحداث المفصلية خلف غلائل التجاهل والنسيان والمصلحة. فالوثائق محجوبة والروايات الرسمية مثقوبة والجامعات ومراكز الفكر متوعكة والروايات المتاحة لا تشفي غلة ولا تبري علة. وكما اضطرب تاريخ الأحداث، غاب تاريخ اللغة والخطاب، وتوارى التاريخ الثقافي والأنثروبولوجي، وأفل تاريخ المهمشين والأقليات. فهل يحتاج الوطن العربي اليوم إلى قيام حركة من المؤرخين الجدد؟ أم لم يئن الأوان بعد لنفض الغبار وإماطة اللثام وبث نفثات الأقلام؟
في مواجهة السرديات الكبرى المُحصَّنة
الواقع أن كثيراً مما استقر في الوعي الجمعي العربي عن تاريخ المنطقة الحديث -وحتى الوسيط والقديم- إما غير دقيق أو غير مكتمل أو حتى ملفق بالكلية. لا غرو في ذلك، فكثير من صحائف التاريخ كُتبت تحت ظلال العصبية الأيديولوجية أو فوق سحائب العاطفة والتفكير بالتمني أو على أسنة رماح السلطة وتحت سنابك خيلها.
وبالتالي، فتاريخنا المكتوب مليء بالثقوب: ثمة أبطال منسيون وحقائق مهملة ووقائع متغافل عنها؛ وأشباح من ورق رُفعت إلى مصاف أنصاف الآلهة، وأمجاد أسطورية زاعقة صنعت بمداد لا ينقطع من الزيف والاحتيال؛ بل وسرديات كبرى محصنة، من الأساس، من التناول أو النقد.
وبعيداً عن خبث القصد وسوء الطوية، يُلاحظ في النظرة العامة للتاريخ في بلادنا هيمنة نزعتين رئيسيتين:
- النظرة الأحادية النافية لكل ما عداها، فهذا يوم مجيد من أيام الأمة ولا يمكن أن يكون شيئاً غيره، وذاك ليل حالك الجلباب وليس بالإمكان أن يقال إن فيه ثمة مثقال ذرة من خير.
- المبالغة في تصوير الأحداث والأبطال، فهذا ليس قائداً وطنياً فحسب، بل هو بطل الأبطال وإمام الفرسان، وهذا العدو اجتمع فيه كل شر مستطير وبلاء كبير، وهكذا دواليك (ولذلك، مثلاً، يستوي في اللا تاريخية وصف ثورة يناير 2011 بالمؤامرة مع النظر إلى ميدان التحرير كجمهورية فاضلة).
وبالتكرار والاجترار جيلاً وراء جيل، صار لسرديات هذا التاريخ رسوخ وجلال في ذاكرة ومخيال الجماهير. لكن هل يعبر هذا الرسوخ عن الحقيقة الحقة أو يمثلها؟ بالقطع لا، فالتكرار لا يعكس الحقيقة، والسطوة الزمنية لا تعبر بالضرورة عن العمق المعرفي، وكتابة التاريخ عملية مستمرة لا فعل منفرد يمكن الفروغ منه والركون إليه (ولذلك يتندر المؤرخون أن الماضي -كالمستقبل- لا يمكن التنبؤ به).
ثقوب في جدار المفاهيم
لا تكمن الثقوب في ثوب التاريخ فحسب، بل تمتد أيضاً إلى المفاهيم الرئيسية في العلوم الاجتماعية ومعانيها ومدلولاتها، والتي يعتري فهم ماهيتها في البلاد العربية الكثير من الخلط والتشويش. آية ذلك أن كثيراً من المفردات صارت تلقى جزافاً على القنوات والمنابر وصفحات القرطاس، بلا أي مضمون ذي أساس معرفي يستند إلى تعريف محدد وبنية تحليلية واضحة، وأن هناك مفردات أخرى صارت تُوظَّف حصرياً لكسب الجماهير أو لحسم معارك سياسية وأيديولوجية.
من رحم هذا التبلبل الفوضوي، حار القوم في توصيف ما جرى في مصر في الخامس والعشرين من يناير لعام 2011، مختلفين إن كان ثورة أم انقلاباً أم مجرد «أحداث» لا وصف لها. وكانوا قبلها قد اختلفوا أيضاً حول أمر الثالث والعشرين من يوليو لعام 1952، وهل يعد انقلاباً أم ثورة. أيضاً، ثمة تشوش عميق يحيط بمفهوم «الدولة»، وبالتمايز بينها وبين مفاهيم الحكومة والنظام والوطن والأمة. وحتى مفهوم غير عسير الفهم مثل «حقوق الإنسان» استعصى على الأذهان وأحاط به اللبس والبهتان.
ومع ذلك، فإن الساحة ليست مقفرة تماماً. على سبيل المثال، اجتهد المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري (1938-2008) لعقود طوال لتبيان أن الكيفية التي تُستخدَّم بها -بأريحية عادةً- توصيفات «يهودي» و«صهيوني» في الفضاء العام لا تصلح كإطار لإدراك الواقع اليهودي والصهيوني.
كذلك يعد كتاب «كل رجال الباشا» (1997) للمؤرخ البارز خالد فهمي، محاولة جادة ورصينة لإعادة كتابة جزء من تاريخ مصر في القرن التاسع عشر، وهو ما واظب عليه فهمي بأناة ودأب في أعماله اللاحقة.
وبعيداً عن الصخب الإعلامي والجدل اللجوج، تجيء -ربما- بعض تصريحات يوسف زيدان عن تاريخ القدس وسيرة صلاح الدين الأيوبي في إطار مراجعة السردية التاريخية الشائعة وتسليط الضوء على سرديات أخرى بديلة. وهناك، إضافة إلى ذلك، محاولات جادة عديدة لكنها قابعة خلف أسوار الأبحاث الأكاديمية المتخصصة، بعيداً عن الأضواء وبمنأى عن إطلاع عموم الجماهير.
تاريخ الإنسان لا تاريخ السلطة
تلك محاولات فردية محمودة، لكن الواقع المنهمر من حولنا واستشراء منظومة لا معرفية جارفة بين جنباته يتطلب جهوداً أكبر في ثلاثة مجالات على الأقل: إعادة النظر في وقائع التاريخ السياسي والاجتماعي للبلاد العربية؛ والضبط الدلالي لجملة المفاهيم والمصطلحات السابحة في سماء واقعنا الثقافي دون رابط أو وازع من فهم أو ضمير؛ وتعديل مناهج التعليم بحذف كل ما شابها من اختلاق وأخطاء وتحيز وتحامل.
يجدر بهذا الجهد أن يضع نصب أعينه أمرين رئيسيين:
- الأول هو التركيز على تاريخ الإنسان لا تاريخ السلطة والمؤسسات والنخب والقادة فحسب، وما يتصل به من مقاربات مثل «نظرية الرجل العظيم» (Great man theory) و«نظرية سمات القيادة» (Trait theory). فحين يكون الهدف هو فك الارتباط بين علائق القوة والتاريخ، ومن ثم إعادة الاعتبار للإنسان، أي لجموع المنسيين الذين تُهمِلهم عادةً سرديات التاريخ التقليدي، نكون قد اكتشفنا أن تاريخنا أكبر وأعمق وأجمل من تاريخ البنى والقادة، وظفرنا بذاكرة أكثر توازناً ودقة، وحظينا على سجل باعث على الثقة في النفس والفعالية والأمل.
- الثاني هو التخلي في تناول التاريخ عن النظرة الأحادية للذات والمجتمع والكون. ذلك أن هذه النظرة تجتمع فيها دواعي التسلط وبواعث الاستسهال وتغيب عنها مقتضيات المنطق التاريخي.
من هنا، لم يكن غريباً في كتاب «ما التاريخ؟» أن يختار المؤرخ ذائع الصيت «إدوارد كار» تعبير «المؤرخ وحقائقه» (The Historian and His Facts) عنواناً لفصله الأول، وليس «المؤرخ والحقيقة» أو ما شابه. ذلك أن بحور التاريخ أوسع وأشمل من أن تضم مجرد حقيقة واحدة وسردية واحدة، وبالتالي فإن الاختيار بين لججها هو فريضة، والتجريب ووجهة النظر هو ضرورة، لأن التاريخ ليس محض مصفوفة من المعلومات مكومة في موسوعة لا حد لاتساعها.
المؤرخ إذن لا يدور مع التاريخ اضطراراً بل يتحرك بين جنباته اختياراً. بالمثل، يجدر بنا نبذ التاريخ كـ أداة أو كـ عظة أو كـ دوجما، وبعث التاريخ كـ فلسفة وحوار وبحثٍ عن الذات وعن المعنى. هنا فقط، نكون بصدد تاريخ يهزم الزمن لا تاريخ يهزمه الزمن.
مولد المؤرخ العضوي
بالطبع، تكتسب الدعوة إلى قيام حركة نشطة من المؤرخين الجدد (تتوخى تلك الأهداف) أهمية إضافية في ظل عصر «ما بعد الحقيقة» (post-truth)، والذي أطل بجناحيه الثقيلين هذه الأيام، حيث تختلط الحقائق الموضوعية بالأكاذيب الموضوعة، وتُستبدَل بمناهج العلم ألاعيب الإعلام، وتتحول هندسة الرأي العام -أو «صناعة الإجماع» بتعبير نعوم تشومسكي وإدوارد هيرمان- إلى صناعة متكاملة الأركان نافذة التأثير.
ورغم أن دبيب الحياة في أوصال ما يجدر فعله، أي هجران الأحادية والتركيز على الإنسان واعتناق فلسفة التاريخ، لن يتحقق بغير الحرية (حرية الصحافة واستقلال الجامعات ومراكز الأبحاث وحق الاطلاع على أرشيف الوثائق القومية)، إلا أن ثمة مؤشرات تبعث على بعض التفاؤل.
منها أن ثورة المعلومات القائمة تفتح الطريق واسعاً نحو كتابة للتاريخ تقع خارج سطوة المؤسسات الكلاسيكية، على صعيد كل من الفاعلين (المؤرخين) والمصادر. الأمر أشبه بدمقرطة كتابة التاريخ، من حيث انخراط الكثيرين من غير المؤرخين التقليديين في العملية التاريخية، ومن حيث عدم الاعتماد الكلي على الأرشيف الرسمي، والالتفات إلى مصادر أخرى للحدث التاريخي مثل المواقع والمدونات ووسائل التواصل. من هنا، يمكن أن يولد «المؤرخ العضوي»، الملتحم بالناس والمعبر عن حيواتهم والمُنصِف لتاريخهم وقصصهم وموتاهم.
ومن هذه المؤشرات، أيضاً، تَغيُر خريطة القيم إلى ما هو أفضل نسبياً في العقود الأخيرة. حيث بزغت مفاهيم الذكورية والأبوية والعنصرية والتنمر بعد طول احتجاب، وفُهِم ما تنطوي عليه من قبح وضرر. وانتشرت مفاهيم أخرى مثل حقوق الإنسان والهوية الجندرية والمسئولية المجتمعية والتعددية الثقافية واحترام البيئة. ولو أن ذلك الوعي ما زال حبيس صفوف الأقلية، إلا أن تلك هي طبيعة الأشياء: طليعة تتقدم الركب ثم تتبعها على استحياء فصائل وفرق أخرى، حتى يقبل الجميع في نهاية المطاف زرافات ووحدانا.
التاريخ ألصق بنا من ظلنا؛ نراه بأعين الحاضر ونرى الحاضر من خلال أعينه. وكما يمكن أن يكون التاريخ مصباحاً وضّاءً يُنير الطريق نحو بداية جديدة، يمكن أيضاً أن يكون قفصاً نُؤسَر بداخله، أو حبلاً غليظاً يلتف رويداً رويداً حول أعناقنا. فالتاريخ ليس واحد أحد، والحقائق لا تتحدث عن نفسها كما يُقال عادةً، بل يتم كشف النقاب عنها بقرارات واعية وبوصلة قيمية وانحيازات إنسانية، والمستقبل يهرول أمام ناظرينا دون التفاتة أو اكتراث. فهل نحن فاعلون شيئاً؟ أم أن «آفة حارتنا النسيان» صار قانوننا الأزلي الأثير؟