هل نحن حقًا أنفسنا؟: عن فيلم «شيخ جاكسون»
حتى اللحظات الأخيرة في الفيلم، لا نعلم اسم الشخصية التي يجسدها ثلاثة ممثلين مختلفين يمرون بها عبر ثلاثة أطوار مختلفة، وكأن خانة الاسم فارغة في انتظار من يملؤها، أو كأن هوية الشخصية مجهولة ومبعثرة ومتضادة في انتظار أن تهدأ وتستقر ويظهر لها شكل خاص متفرد.
فيلم «شيخ جاكسون»، مشروع المخرج «عمرو سلامة» الجديد الذي طال انتظاره، والذي قد يحظى بالدخول إلى قائمة الأفلام الأجنبية المرشحة للأوسكار هذا العام، يحكي قصة «مرحلة» ولا يحكي قصة «شخص»، ولذلك ربما لم يفضل الفيلم إعطاء هذا الشخص اسم، لأنه يمكن أن يكون أي شخص، ولأن تلك «المرحلة» بالتأكيد مرت بنا جميعًا، مرحلة فقدان الهوية والبحث عن الذات، واجتماع الشيء ونقيضه، وقسمة «كل العالم» على ما لا نهاية «التيه» والتي تفضي دائمًا إلى صفر «الخواء».
الطور الأول: الامتصاص
مدير التصوير «أحمد بشاري» ومصممة الديكور «هندي حيدر» ومصممة الملابس «ريم العدل» كانت لديهم مهمة شاقة، لأن أحداث الفيلم تدور بين القاهرة والإسكندرية عبر ثلاثة أزمنة؛ نهاية الثمانينات، ومنتصف التسعينات، وعام 2009 تحديدًا الذي شهد الخامس والعشرون من يونيو من ذلك العام حدثًا هز العالم، وهو وفاة ملك البوب الأسطورة «مايكل جاكسون»، إلا أنهم استطاعوا بصريًا وبإمكانيات بسيطة التعبير عن الحقب الثلاثة بحرفية.
وعبر تلك الأزمنة نرى طفلًا سكندريًا صغيرًا – عمر أيمن- في المرحلة الابتدائية تتشكل شخصيته الأولى بين عائلته الصغيرة، الأب العصبي المتشنج – ماجد الكدواني-، والأم التقليدية العطوفة – درة-، وبين مدرسة حكومية تقليدية، تمارس السلطة أكثر ما تمارس التعليم.
يرى الابن مايكل جاكسون لأول مرة في التليفزيون وتبهره حركاته وموسيقاه المختلفة عن أي شيء رآه من قبل، ولا يشبع فضوله ونهمه للمعرفة سذاجة وسطحية الأب الذي يستهجن الأمر ببساطة ويصف جاكسون بالـ«مخنث»، ولا المدرسة التي تعاقب تلاميذها وتستدعي أولياء أمورهم، إذا ما تحدث الأطفال عن جاكسون، أو كتبوا – كما كتب هذا الطفل- موضوع تعبير عبارة عن خطاب إلى الله، يستكشف فيه لأول مرة علاقته بالدين والخالق والكون، فتأتي السلطة المدرسية لتحاول أن تكتم أسئلته الوجودية إلى الأبد.
إلا أن تلك الأسئلة تبقى داخل ذلك الطفل عميقة وغائرة، لم ترضِها أية أجوبة، ولم يتَح لها المجال أن تخرج للعالم فتصول وتجول حتى تهدأ أو تقرر أن تظل هائمة إلى حين، فقط هي هناك كامنة في انتظار فرصة للفرار أو الانفجار.
الطور الثاني: الانطباع
في المرحلة الثانوية، نرى الطفل وقد أصبح شابًا مراهقًا – يلعب دوره أحمد مالك في واحد من أكثر أداءاته اجتهادًا- يحاول أن يتقرب لزميلته في المدرسة عبر حصة الموسيقى، هي الفتاة الجميلة الذكية التي لا ترضى بإتقان آلة موسيقية واحدة، وتسعى لت
علم جميع الآلات المتوفرة في المدرسة، وتذهب لجميع مسابقات الغناء وجميع حفلات الموسيقى في الحي، فلا يجد سوى مايكل جاكسون المختبئ في أعماقه في انتظار فرصة للظهور، ليساعده على لفت انتباهها.
يبذل كل طاقته لحفظ كلمات أغاني جاكسون الجديدة، وليتقن طريقة رقصه، يحاول أن يتحصل على النقود بأي شكل ليأتي بملابس مايكل ليرتديها في مسابقة لتقليد الأخير سوف يصطحب إليها جميلته. يتطور الأمر لدرجة أن يصبح له اسم أخير، فزملاؤه لا ينادونه إلا باسم «جاكسون»!.
يعاني من صراع عنيف مع والده، الذي يرى في تقليده لجاكسون استمرارًا للميوعة والخنوثة التي يتخيلها مرتبطة بهذا المطرب، بل ويصف ابنه بأشياء تنفي عنه صفة الرجولة، في هجوم شرس لا يتحمله إطلاقًا مراهق في مثل هذا السن، وخصوصًا أنه لا يجد من الناحية الأخرى من يتناول يده ويتحاور معه. لماذا اختار جاكسون ليصبح صورته التي تنطبع عليه ويرغب أن يراه العالم عليها؟، لماذا يختفي من صورته الأصلية ويلجأ لغيرها؟، لماذا أصلًا لا يرى لنفسه صورة، وكأنه شبح، وكأنه غير موجود؟.
يظهر الدين مرة أخرى في حياته، أخو الأم، الخال السلفي الطيب – محمود البزاوي- الذي يحاول مواجهة سطوة الأب وقسوته، ويدعو الابن للقدوم للقاهرة والعيش معه بعيدًا عن كل ذلك الاضطراب.
الصراع السلطوي والقيمي وتأثيره على الفرد تناوله سلامة من قبل في فيلم «لا مؤاخذة»، لم يتطور فلسفيًا كثيرًا في «شيخ جاكسون» لكنه تميز هذه المرة بالشكل المبدع وغير التقليدي الذي ظهر عليه، جاكسون الأيقونة التي تتجسد في القاهرة عابرًا للأزمان لتهز عرش النظم القيمية الحكومية والمجتمعية داخل نفس فرد هو البطل.
وبالتأكيد فلـ«عمر خالد» السيناريست المشارك لعمرو سلامة في الكتابة، دور في تطوير هذه النظرة لدى سلامة. المثير هنا أن «خالد» يكتب لأول مرة في فيلم تجاري، وهو ما يبشر بأعمال أخرى قادمة له أكثر نضوجًا وتحمل لمسة الطزاجة الواضحة التي يحملها سيناريو «جاكسون».
الطور الثالث: الارتداد
يصبح رجلًا يافعًا متزوجًا وله ابنة، ويصبح لها اسم جديد بدلًا عن جاكسون، يصبح اسمه «شيخ»، فيقال له: «إزيك يا شيخ؟»، «عامل إيه يا شيخ؟»، «اتفصل صلي بينا يا شيخ»!.
كان قد انتقل للقاهرة بالفعل ليعمل مع خاله في إنتاج وتوزيع الكتب والشرائط الدينية والملصقات الدعوية، لدرجه أنه أصبح يسجل بنفسه شرائط خاصة به، عن الموت وعذاب القبر والثعبان المهول «الشجاع الأقرع».
ينام ليس فوق السرير ولكن تحته، ليذكر نفسه بالقبر، ويلبس في إصبعه حاسبة إلكترونية –أشبح بالسبحة الإلكترونية- ولكنها لها اثنين من الأزرار؛ زر يضغط عليه ليعد الحسنات، وزر آخر للسيئات.
لا يفعل شيئًا إلا بعد أن يتلو دعاءً يبارك هذا الشيء، وينزل ليؤم الناس في صلاة الفجر يوميًا، بعد أن يغتسل بعناية وكأنه ملبوس دائمًا بفكرة «نفسه الملوثة» والتي يسعى أبدًا إلى طهارتها ونقائها.
يصبح كالروبوت، وكأنه ضبط نفسه على وضع الـ«Auto Pilot»، ليقوم بحركات ميكانيكية متكررة وفقط، وكأن ذاته الأصلية غائبة – أو قرر أن يغيبها- لحين.
يقدم أحمد الفيشاوي شخصية «شيخ»، وهو شيخ وليس الشيخ، اسم نكرة منفي عنه التعريف لدلالة استمرار التيه وعدم استكمال الهوية المتفردة، يصادف أن يسمع خبر وفاة مايكل جاكسون فتنقلب حياته رأسًا على عقب، ودلالة ذلك عنده عدم قدرته على البكاء من خشية الله، ولا الخشوع في الصلاة، وتخيله لمايكل من حين لآخر مخترقًا الصفوف في المسجد، مشوشًا ذهنه ومربكًا أفكاره وحياته التي كان قد ظن أنها انتظمت – ميكانيكيا- إلى الأبد.
من جاكسون بدأ وإلى جاكسون يعود، وخلال الرحلة يتصارع مع نفسه وشيخه وخاله، وتتقاطع به السبل مع صديقته في الثانوي، وطبيبة نفسية ذهب إليها بصفتها رجلاً وفوجئ أنها امرأة، ويمر أيضًا بوالده الذي فارقه منذ خمسة عشر عامًا، وذكريات مع والدته، الملاك الطاهر الذي يمثل له أيقونة مقدسة وحقيقة واحدة في الوجود.
«شيخ جاكسون» تجربة متفردة، كان يمكن لها أن تصبح أيقونة سينمائية مصرية، مع قليل من العمق أثناء الكتابة وبناء الشخصيات، وبعض العمل على أداء الممثلين وخصوصًا مع توفر مساحة إبداعية عظيمة للفيشاوي ومالك كانا يستطيعان فيها إظهار كل التناقضات والصراع الذي بداخل الشخصية الرئيسية للفيلم.
موسيقى هاني عادل جاءت باهتة وغائبة تمامًا، ولم يستطع اقتناص فكرة ارتباط الفيلم بأيقونة موسيقية عظيمة مع كل الثراء والإبداع الذي كان يمكن أن يستغله ويوظفه في صالح التصاعد الدرامي لأحداث الفيلم. ماجد الكدواني يعيد نفسه ويصيبنا بالإحباط مرة بعد مرة من قدرته العظيمة على إهدار نفسه وموهبته في أداءات مسطحة، ودرة – الأم- وأمينة خليل – الزوجة- وبسمة – الطبيبة النفسية- خارج المنافسة تمامًا.
كنت أعتقد أن الممثل العظيم يمكن أن يقبل بدور جانبي أو هامشي إذا فقط وجد في نفسه القدرة على أن يصنع من الدقائق القليلة التي سيظهر فيها على الشاشة وقتًا لا يُنسى وانطباعًا لا يُمحى، إلا أن المسالة جاءت محبطة مع الممثلات الثلاث دون استثناء، وخصوصًا أنه لا يوجد في العمل دور أنثوي قوي يوازي الأدوار الذكورية المستطردة والموزعة على الفيشاوي ومالك والكدواني والبزاوي.
يضعك الفيلم في سؤال أمام ذاتك: هل أنت حقًا أنت، أم أنك صورة من أحد ما، من ذكرى ما، من شيء ما، من فكرة ما؟، ما الذي يثبت لك حقًا أنك أنت ولست آخر قد يذهب، وأنه ليس بداخلك آخر – آخر- قد يظهر؟.
«شيخ جاكسون» سيجعلك تتذكر مرحلة ما من حياتك، مرحلة مضت منذ وقت، أو مرحلة قد تكون خرجت منها للتو، أو أخرى لا زلت تهيم في تيهها، ستجد فيه السلوى حينًا، والأمل حينًا، وحنين الذكريات أحيانًا أخرى، إلا أنه في كل الأحوال سيجد الطريق ليمس روحك، بطريقة أو بأخرى.