هل تتعارض آيات القرآن الكريم مع حقائق العلم؟
هي مسألة قديمة متجددة على الدوام، يخلقها الوعي الإسلامي المعاصر خلقًا من بعد خلق منذ بداية القرن العشرين، وربما منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهي الصدام الظاهر بين بعض معطيات العلم الحديث كالتطور وبين ظاهر النص القرآني. فنحن نرى «كمال أحمد عبد الجواد» الشخصية الرئيسية في ثلاثية نجيب محفوظ يتزعزع إيمانه عند قراءته لنظرية التطور، ويكتب فيها مقالًا يثير حفيظة والديه وغضبهما. لن تختلف ردة فعل أغلب المتعلمين في العالم الإسلامي كثيرًا عن ردة فعل شخصيات الرواية التي تحكي الواقع المصري في النصف الأول من القرن العشرين، رغم مرور أكثر من ستين عامًا على نشرها، فهم بين رافض للدين لتعارضه مع حقائق العلم، ومُنكِر لحقائق العلم لتمسكه بتأويل ضيق للنص الديني.
طبيعة اللغة الدينية
قبل بدء الحديث عن العلم الطبيعي وعلاقته بالنص المقدس، يجب أن نجيب عن بعض الأسئلة، وسنستخلص من إجاباتها حلًّا ربما يكون ناجعًا لهذه القضية.
ما هي طبيعة اللغة الدينية؟ هل تتمتع مثلًا بنفس الموضوعية التي تتمتع بها لغة العلم الطبيعي أم أنها أقرب للغة الشعرية والمجازية؟ هل تستعمل اللغة الدينية الأسلوب البرهاني لإثبات ما تود إثباته أم أنها تفضل الأسلوب الخطابي؟ وما هي الحقائق التي تكشف عنها؟
كتب الفيلسوف المسلم «أبو الوليد ابن رشد الأندلسي» في كتاب «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال» يقول:
يوضح هذا الاقتباس تلك الحقائق التي يكشف عنها الوحي الإلهي من خلال ما يسمَّى باللغة الدينية. ثم بيَّن ابن رشد أن طرق التعليم التي يتعلم بها الإنسان هي البرهان والجدل والخطابة، والبرهان هو أصعب تلك الطرق، لأن أكثر الناس ليس في طباعها قبول البراهين لاحتياجها إلى زمن طويل لتعلمها، وأضاف قائلًا: «وكان الشرع إنما مقصوده تعليم الجميع»[2]، ولهذا «كانت أكثر الطرق المُصرَّح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور»[3]. أي أن الوحي جاء لجميع البشر لكن أكثرهم لا يستطيعون فهم البراهين العقلية. ولهذا يستعمل الوحي أكثر الطرق قبولاً بين الناس، العوام منهم والخواص، لتعليمهم وهي لغة القصص والمجاز والتمثيل.
ومن المقولات التي تكشف طبيعة اللغة الدينية ما قاله «المير داماد» وهو أحد كبار فلاسفة الإسلام، حين بيَّن أن طريقة الحكماء والأنبياء هي «تبيين الحقائق بلسان الرمز وتصوير البرهانيات بصورة الخطابيات، وتغطية المعقولات بلباس المحسوسات».
لفهم المقصود من تلك المقولة، سنستعين بتفسير الإمام الطاهر بن عاشور لآية: «إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان»[4]. لقد شبَّه القرآن مفهومًا عقليًّا وهو إيداع الأمانة الربانية – وهي العقل المؤدي لمعرفة الله – في الإنسان وصرفها عن غيره من المخلوقات بالعَرْض، وهذا شيء حسي، كما تعرض شيئًا ما على أحدهم فيقبل أو يرفض، وشبَّه مفهومًا كعدم التلاؤم بين طبيعة السماوات والأرض والجبال – فهي مخلوقات جامدة غير مُدرِكة – وبين قبول أمانة العقل بشعور حسي هو الإشفاق مثلما يشفق أحدهم من تكليفه بشيء لا يستطيعه، وفعل ذلك أيضًا حين شبَّه ملاءمة طبيعة الإنسان لتقبل تلك الأمانة بالحِمل وهو من المحسوسات كذلك.
ائتيا طوعًا أو كرهًا
سنضرب مثالًا لتوضيح كيفية استخدام الوحي الإلهي للمجاز ليعرِّفنا الحقائق المختلفة خاصة الغيبية منها بأسلوب مجازي رائع.
في تفسيره لآية «فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا قالتا أتينا طائعين»؛ قال الإمام جار الله الزمخشري ما يلي: «ومعنى أمر السماء والأرض بالإتيان وامتثالهما: أنه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووُجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع، وهو من المجاز الذي يسمى التمثيل. ويجوز أن يكون تخييلًا … والغرض تصوير أثر قدرته في المقدورات لا غير، من غير أن يُحقق شيئًا من الخطاب والجواب. ونحوه قول القائل: قال الجدار للوتد لِمَ تشقني؟ قال الوتد: اسأل من يدقني» (5)، فالسماوات والأرض لا تعقل أو تنطق لكن يبين لنا الله قدرته وسلطانه عليهما بهذا التمثيل أو التصوير، ومثل هذا الأسلوب معروف في كلام العرب.
هنا علينا أن ننتبه إلى نقطة هامة، وهي لماذا رأى الزمخشري وابن عاشور أيضًا وغيرهما أن هذه الآية ليست إلا تمثيلًا أو تصويرًا وقاموا بتأويل معناها فلم يكتفوا بظاهرها؟
هذا لأنه قد تنامى إلى علمهم – وعلمنا جميعًا – أن السماوات والأرض ليستا بالكائنات المدركة أو العاقلة. من أجل ذلك لجأوا إلى تأويل الآيات.
ضرب الأمثال وتفسير الطباطبائي للشُّهب
هذا ما فعله العلَّامة الشيعي «محمد حسين الطباطبائي» في تفسيره المعروف بالميزان في تفسير القرآن، عندما فسر آيات من سورة الصافات، وهي الآيات التي تبدأ من «وحفظًا من كل شيطان مارد» إلى «إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب»، فلقد نما إلى علمه أن الشهب أجرام سماوية تُحرِّكها قوانين مادية طبيعية وأنها ليست كما ظن الأقدمون، فكتب يقول: «وقد اتضح اليوم اتضاح عيان بطلان هذه الآراء ويتفرع على ذلك بطلان الوجوه التي أوردوها في تفسير الشهب»[6]، ثم أضاف: «ويحتمل – والله العالم – أن هذه البيانات في كلامه تعالى من قبيل الأمثال المضروبة، تصور بها الحقائق الخارجة عن الحس في صورة المحسوس لتقريبها من الحس … والمراد باقتراب الشياطين من السماء واستراقهم السمع وقذفهم بالشهب اقترابهم من عالم الملائكة للاطلاع على أسرار الخلقة والحوادث المستقبلة ولرميهم بما لا يطيقونه من نور الملكوت»[7]، أي أن الله قد شبَّه هذه العوالم الغيبية بأشياء نراها بأعيننا في سمائنا المحسوسة.
ويستخدم القرآن الكريم بعض تلك المحسوسات في الدنيا ليمثل لنا الغيبيات مثل استخدامه العرش والكرسي دلالة على سلطانه وقدرته، والقلم واللوح المحفوظ ليستدل على علمه المُطلق. بالإضافة إلى أوصاف الجنة في القرآن الكريم، فلقد قال عنها الرسول إن فيها ما لا عين رأت، ولكن الله في كتابه يقربها إلينا بأوصاف دنيوية.
القراءة من خلال منظورك المعرفي
أود أن أوضح أنه عند قراءة أي نص، مقدسًا كان أو غير مقدس، فنحن نقرأه من خلال منظومتنا المعرفية، فعندما قرأ القدماء آيات السماوات والأرض، فلا شك أنهم تصوروا الأرض في المركز تحيط بها الشمس والكواكب والأجرام السماوية لأن هذا مبلغهم من العلم. يظهر هذا أيضًا في تفاسير الكثير من السلف للبحر في آية «ظهر الفساد في البر والبحر»، حيث يذكر الماوردي منها الآتي: «أحدها: أن البر الفيافي (الصحارى الملساء) والبحر القرى … الثاني: البر أهل العمود والبحر أهل القرى والريف»[8]. فالعرب تُسمي الأمصار بحرًا.
يفسر ابن عاشور فساد البحر بـ «قلة الحيتان واللؤلؤ والمرجان ونضوب مياه الأنهار وانحباس فيضانها الذي به يستقي الناس»[9]، ويقول إن الذي دعا البعض إلى تفسير البحر بهذا المعنى أنهم لم يعرفوا «أنه حدث اختلالٌ في سير الناس بالبحر وقلةٌ فيما يخرج منه. وقد ذكر أهل السير أن قريشًا أُصيبوا بقحط وأكلوا الميتة والعظام ولم يذكروا أنهم انقطعت أسفارهم ولا انقطعت عنهم حيتان البحر، على أنهم ما كانوا يُعرفون بالاقتيات من الحيتان»[10]. يوضح هذا المثال كيف تؤثر بيئة الإنسان ومعلوماته في فهمه لبعض الآيات، فالذين لم يكن لديهم معرفة بالبحر وأحواله فسروا البحر بمعانٍ بعيدة.
آيات الخلق
لنعرج إذن على قضية الخلق والتطور كمثال، آخذين أهمية المنظور المعرفي في الاعتبار.
تخيل معي إذن أن القرآن قد نزل على قوم يعتقدون أن المخلوقات نشأت بآلية طبيعية ما مثل التطور، كيف سيفهمون آيات الخلق؟ أغلب الظن أنهم سيؤولون الآيات مثلما فعل الطباطبائي آخذين بعين الاعتبار ما بيَّناه سلفًا عن طبيعة اللغة الدينية، وأن آيات الخلق ليست إلا لتعريفنا موقع الإنسان في هذا الكون وعلاقته بالله وبقية المخلوقات دون الاهتمام بآلية الخلق، فهذه ليست من وظائف النص المقدس، وقد أسلفنا القول بأن الشرع قد جاء للناس جميعًا، بُسطائهم وعقلائهم.
سنحاول التفكير في آيات خلق آدم مثل هؤلاء القوم ونسأل الأسئلة التالية. أولًا: حين قال الله سبحانه وتعالى إنه خلق آدم من طين هل كان مراده ذلك الطين الذي نعرفه؟ يتكون الطين المعروف من سيليكون وأوكسجين وأجسادنا لا تحتوي على عنصر السيليكون تقريبًا[11]، ألا يعني هذا أن الطين وأنواعه المذكورة في القرآن ليست إلا تمثيلًا للمادة الأرضية التي خُلق منها الإنسان والمراد من الطين حقارة المادة التي نشأ منها، وفي هذا دليل على قدرة الله الذي أنشأه من مادة ميتة.
ثانيًا: عندما قال الله إنه خلق آدم بيديه، هل مراده اليد المعروفة أم هي تمثيل لقدرته؟ بل هي تمثيل لقدرته تعالى إذ يُشبِّه أمره بتكوين آدم من الطين أي المادة الميتة «بهيئة صنع الفخاري (صانع الفخار) للإناء من طين إذ يُسويه بيديه» كما أشار ابن عاشور.[12]
ثالثًا: إنْ خُلق آدم تطورًا: فكيف نفسر قصة استخلافه وسكناه في الجنة مع زوجه وهبوطه منها؟ لا تعارض بين القول بالتطور وقصة آدم، فربما اصطفى الله أحد خلقه وعلَّمه وبيَّن له الحلال والحرام، وقصة آدم هي نموذج مصغر لقصة الإنسانية. فتعلم آدم للأسماء يوضح مقدرة الإنسان على تسمية الأشياء والتفكير في المجردات، وهذا ما ميزه عن بقية المخلوقات، وجعله أهلًا لأن يكون خليفة من الله في الأرض. وتبين الشجرة المحرمة بزوغ مفهوم المحرَّم أو الحرام لدينا، والذي يكشف للإنسان امتلاكه لإرادة حرة يمكن أن يعصي بها أمر الله، وكانت لحظة الأكل من الشجرة هي لحظة النضج عند آدم وزوجه، فقد كانوا قبلها «في طور سذاجة العلم وسلامة الفطرة … شبيهين بالملائكة لا يقدمان على مفسدة أو مضرة … ثم تطورت عقليتهما … فتكوَّن فيهما فعل ما نُهيا عنه»، كما وضَّح ابن عاشور.[13]
رابعًا: هل الجنة التي سكن فيها آدم وزوجه في الأرض أم في السماء؟ يرى الإمامان المعتزليان أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصفهاني أنها إحدى جنان الدنيا في الأرض وليست جنة الخلد، لأن من يدخل جنة الخلد لا يخرج منها مثلما خرج آدم لقوله تعالى: «وما هم منها بمخرجين»، ولأنها إن كانت جنة الخلد بالفعل فلما غرَّه إبليس حين قال: «هل أدلك على شجرة الخلد» لأنه سيكون بالفعل في دار خلود.[14]
خاتمة
نستنتج من كل ما سبق أن اللغة الدينية تكون لغةً خطابية قصصية مجازية تمثيلية عند تعليم الناس العلم الحق باصطلاح ابن رشد، ويكون هدفها وغايتها تقريب بعض الحقائق المتعلقة بالله وبموقع الإنسان في الوجود وباليوم الآخر والثواب والعقاب لكل البشر على اختلاف مستوياتهم، مُستخدِمة في ذلك الرمز والمجاز والتمثيل. على أن تلك اللغة تكون أكثر دقة وموضوعية فيما يتعلق بالأحكام الشرعية، حتى لا يختلط على الناس فهم مقصد الشارع جلَّ وعلا. نستنبط من هذه النتيجة أن محاولة الوصول لحقائق علمية طبيعية موضوعية عبر مثل هذه اللغة ستبوء في رأينا بالفشل، وستدخلنا في إشكاليات لا ترتكز على أساس صحيح.
وختامًا، فإننا لا نسعى إلى تأويل الآيات – بل لوي أعناقها كما يفعل البعض – حتى تتماشى مع اكتشافات العلم المتغيرة، بل نؤولها لتوفر دليلًا يقتضي صرف اللفظ عن ظاهره، أي من معناه الحقيقي إلى معنى يُخالف ظاهره، مثل المعرفة التي تراكمت لدينا فدفعت الطباطبائي إلى تأويل آيات الشهب، ولكنه لم يسع إلى تفسيرها لتتماشى مع اكتشافات العلم الحديث، أو معرفتنا بأن السماوات والأرض غير عاقلة. نؤكد أن لكل من العلم الطبيعي والدين مجاله الخاص ولغته الخاصة، وإن كان من الممكن أن يتحدثا عن حقيقة واحدة بلغتين مختلفتين.
إن العلم بحر مِلح أجاج لا يستسيغه إلا العالم بشئونه ودواخله، فهو القادر على استخلاص لآلئ معانيه، أما الدين فعذبٌ فرات سائغٌ شرابه تأتي أسماكه شرعًا لكل سائل ومحروم.
- كتاب “فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال” للقاضي أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد. ص 49.
- نفس المصدر، ص 50.
- نفس المصدر، ص 51.
- “تفسير التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور، الجزء 23، ص125.
- “تفسير الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل” للزمخشري. الجزء 4، ص184.
- “الميزان في تفسير القرآن” لمحمد حسين الطباطبائي. الجزء 17، ص 124.
- نفس المصدر والجزء، ص 125.
- “تفسير النكت والعيون” للماوردي، الجزء الرابع، ص 317.
- “تفسير التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور. الجزء 22، ص 109.
- نفس المصدر.
- “من الوحي إلى دارون: قضية الخلق للد”، حسن حامد عطية، ص27.
- “تفسير التحرير والتنوير” للطاهر بن عاشور، الجزء 24، ص 303.
- نفس المصدر، الجزء 9، ص 61.
- “موسوعة تفاسير المعتزلة 2: تفسير أبي مسلم الأصفهاني”، ص 35-36.