هل ألوان الصور الفلكية الساحرة حقيقية؟
كان «جيمس كلارك ماكسويل»، الفيزيائي الأسكتلندي الشهير، متأففًا حقًا حينما رأى تلك الصورة، ورغم أن توماس ساتون، صديقه الذي التقطها قبل أيام قليلة، كان مقتنعًا تمامًا بأنها مقبولة -بالنسبة لكونها فريدة من نوعها- إلا أن ماكسويل أراد أن تكون ألوانها أوضح من ذلك، واقترح أن يستخدما فلاتر أجود في المرات القادمة، نحن الآن في العام 1861، وهذه هي أول صورة ملونة نعرفها في تاريخنا كله.
أول لون
في الواقع، لم تستخدم تلك الصورة، وكانت لشريط هدايا مربوط بشكل جميل، لأغراض التصوير، بل كان ساتون يسعى لاستخدامها كدليل على صحة نتائج ورقة بحثية كان ماكسويل قد نشرها مؤخرًا تفترض أن استخدام ثلاثة فلاتر فقط، أحمر وأخضر وأزرق، في أثناء التقاط الصور بالأبيض والأسود، يمكن أن ينتج صورة فيها كل الألوان.
بنى ماكسويل نظريته على آراء توماس يونج وهيرمان هيلمهولتز التي ظهرت في أوائل القرن التاسع عشر، وتقول إن الخلايا البصرية المبطنة للعين من الداخل تنقسم لثلاث فئات كل منها حسّاس بشكل أكبر للون من تلك الألوان الثلاثة، وأن إدراك العين للألوان الثلاثة معًا يًنتج كل الألوان الأخرى.
يمكن لك، بالمناسبة، أن تنفذ تلك التجربة الخاصة بماكسويل في المنزل، فقط أحضر كاميرا وثلاثة فلاتر ذات ألوان مختلفة، الأحمر والأخضر والأزرق، الآن قم بتغيير إعدادات الكاميرا لتلتقط فقط صورًا بالأبيض والأسود فقط، بعد ذلك جهز أي شيء تراه للتصوير، وليكن الطاولة أو الشجرة، ثم في كل مرة تلتقط صورة ضع أمام الكاميرا أحد الفلاتر، سيكون الناتج عبارة عن ثلاث صور بالأبيض والأسود، لكن ما إن تضعها جميعًا على بعضها البعض في برنامج الفوتوشوب، على سبيل المثال، فإنها ستظهر بالألوان.
إذا قررت أن تدقق بشكل أكبر في صورك الثلاثة بالأبيض والأسود، فستجد أنها تختلف في شيء واحد، وهو درجة قتامة بعض مكوناتها. الفلتر الذي يسمح فقط بمرور الضوء الأحمر إلى الكاميرا -على سبيل المثال- سيخرج صورة تكون الأشياء الحمراء بها أكثر إشراقًا، وهكذا، هذا هو بالضبط ما يفعله العلماء حينما يستخدمون تلسكوباتهم الفلكية لالتقاط الصور للأجرام السماوية لكن المتاح لهم ليس ثلاثة فلاتر فقط، بل عدد أكبر، حيث يمكن أن يقتطعوا جزءًا صغيرًا جدًا من الطيف الضوئي.
نطاق الضوء
الطيف الضوئي هو فقط جزء صغير جدًا من نطاق أكبر يسمى «الطيف الكهرومغناطيسي». في الحقيقة فإن العالم بالنسبة لنا -نحن البشر- يختلف عن العالم بالنسبة لبعض الطيور مثلًا، وذلك لأن مستقبلاتنا العصبية يمكن أن تستشعر ثلاثة ألوان فقط بينما يمكن لبعض الطيور أن تستقبل سبعة ألوان، أي أنها يمكن أن ترى ألوانًا لا نراها، كذلك فإن العديد من الحشرات تتمكن من رؤية نوع من الطيف الكهرومغناطيسي يسمى «الأشعة فوق البنفسجية» أما الثعابين فقادرة على رؤية «الأشعة تحت الحمراء».
في الواقع، لا يهدف الفلكيون للحصول على صور ملونة، ولكن يهدفون -على سبيل المثال- إلى فهم مكونات السحب النجمية، يبحثون عن عناصر مثل الهيدروجين أو الكربون أو النيروجين أو الأكسجين، أو يفحصون درجة لمعان النجوم والمجرات، وهي أمور عادة ما تُلتقط بوضوح شديد بالأبيض والأسود لكن مع التركيز بعناية على نطاق صغير جدًا من الطيف الضوئي. يظهر الأكسجين بشكل أوضح مثلاً إذا قررت التركيز أثناء التقاط الصورة على الجزء الأخضر من النطاق الضوئي المرئي، أما الهيدروجين فسيظهر بشكل واضح إذا قررت التقاط صور في النطاق الأحمر .. وهكذا.
لفهم تلك الفكرة بصورة أبسط تأمل الصورة المرفقة، ما تراه هو 6 صور ملتقطة من نطاقات مختلفة من الضوء المرئي بالأساس، لكن بالأبيض والأسود، لتجمع نجمي مزدوج في السحاية الماكلانية الكبرى يدعى «هودج 301»، الرقم بالأعلى هو ما نسميه بـ« طول الموجة»، لا يهم أن تعرف الكثير عن هذا الاصطلاح الآن لكن فقط ركّز على أن اختلاف الجزء المرصود من الطيف الضوئي يجعل إشراق بعض المناطق مختلفًا عن الأخرى.
حينما يريد العلماء تلوين تلك الصور، لبعض الأغراض البحثية أو لإثارة انتباه الجمهور، فإنهم يفعلون ما فعلته قبل قليل مع الكاميرا، يدمجون الصور من النطاقات الثلاثة الرئيسية فتظهر ملونة، يعني ذلك أن بعض الصور الفلكية التي تراها على الإنترنت معدلة بالفعل عن طريق برامج مثل الفوتوشوب، لكن ما تراه هو كذلك ما سيظهر لك لو قررت السفر إلى هناك والنظر إليها.
أعمدة الخلق
لكن ذلك لا يحدث في كل الحالات، لفهم ذلك دعنا نتأمل صورتين شهيرتين جدًا التقطهما التلسكوب هابل لمنطقة شديدة الإثارة من السماء تسمى «أعمدة الخلق» وهي منطقة غنية بالغاز والغبار بين النجمي في كوكبة الحيّة، الصورتان غير حقيقيتين بالمعنى المفهوم، لكنهما أقرب ما يكون لخرائط حقيقية ثم تم تلوينها.
دعنا نبدأ من الصورة إلى اليسار، بشكل أساسي اعتمد العلماء على التقاط الصورة من نطاقات ضيقة جدًا داخل الضوء المرئي، والتي تشير بشكل أوضح إلى العناصر الأساسية المكونة لهذه السحابة، وهي الكبريت والهيدروجين والأكسجين، إذا قررت السفر إلى السديم والنظر إليه فإنه سيظهر بالشكل نفسه، لكنه سيكون مائلًا ناحية اللون الأحمر بشكل كبير.
يحدث ذلك لأن العلماء يهدفون لتوضيح الغازات في السحابة بقدر أكبر من أهمية أن تكون الألوان طبيعية، لكن نطاقي الهيدروجين والكبريت يتداخلان في اللون الأحمر وإذا التقطت صور لهما معًا لن تكون الصورة واضحة، لذلك يعاد تركيب نطاقات العناصر في الصورة يحيث يظهر الأكسجين في الأزرق، والهيدروجين في الأخضر والكبريت في الأحمر، فتظهر هكذا.
أما بالنسبة للصورة الثانية، فإن التعديل يتدخل بشكل أكبر ليبعدها تمامًا عن الواقع، التقطت هذه الصورة في نطاق الأشعة تحت الحمراء بالأساس، لهذا السبب اختفت بعض الأجزاء من أعمدة الخلق، وذلك لأن الأشعة تحت الحمراء الصادرة من النجوم في الخلفية تخترق السحب إلى كاميرات التلسكوب هابل، الملاحظ في الصورة الثانية هو ظهور الكثير من النجوم والتجمعات النجمية، وهذا هو هدف الصورة من الأساس، دراسة هذه النجوم في نطاق آخر غير الضوء المرئي، بعينيك لن ترى السحابة هكذا، رغم أنها ستتخذ الهيكل نفسه.
أيضحكون علينا؟
يختلف ما سبق كله عن الصور التي يلتقطها الهواة، مثل كاتب التقرير، من تلسكوباتهم، حيث تكون بالأساس لأغراض العرض على الناس، وهنا يكون كل المطلوب هو أن ترفع من زمن تعريض مستشعر الكاميرا للسحابة السديمية، فتظهر بألوانها الحقيقية، أو قد تكون مشبعة قليلًا.
إذا قررت تأمل سديم الجبار في تلسكوبك، فإنه يظهر بالأبيض والأسود، يحدث ذلك لأنه بعيد جدًا لا يصل إلينا الكثير من ضوئه، وعيوننا تحتوي نوعين من الخلايا لاستشعار الأشياء، الخلايا المخروطية والخلايا العصوية، تساعدنا الأولى على رؤية الأشياء الساطعة والملونة التي تطلق الكثير من الضوء، أما الخلايا المخروطية فتستخدم في حالة الأجسام التي تطلق القليل من الضوء، لكنها لا تظهر ألوانها بل تبدو بالأبيض والأسود.
مستشعر الكاميرا يشبه عيوننا، لكن مع فارق واحد، وهو أن عيوننا تلتقط صورة واحدة كل عُشر ثانية، ثم تركب الصور وتصنع ما نراه أمامنا كل لحظة. أما المستشعر الخاص بالكاميرا فيمكن أن يلتقط صورة في ساعة أو اثنتين أو عشرة أو أكثر، في أثناء ذلك يجمع قدرًا أكبر من الضوء، ما يُظهر الصور بالألوان. الآن تأمل معي الصورة المرفقة، التقطها كاتب التقرير من تلسكوبه قبل فترة قصيرة، لم تعدّل بأي شكل، هكذا سيظهر سديم الجبار لو قررت زيارته، بل سيكون أوضح من ذلك.
لو سألت: «هل الصور الفلكية على الإنترنت حقيقية؟» فالإجابة إذن معقّدة. الصور الفلكية الصادرة من تلسكوبات مثل هابل حقيقية وتعبر عن شيء موجود بالفعل يتخذ هذا الشكل، لكن ألوانها قد تكون معدلة قليلًا بحيث تظهر بشكل أكثر وضوحًا للعلماء الذين لا يهتمون كثيرًا بالمنظر الجمالي ولكن هدفهم هو فهم تركيب مكونات السماء، لكن حتّى مع كون بعض الصور معدلة، فالمشهد سيظل ساحرًا إن حدث يومًا ما وسافرت إلى أحد تلك السدم البديعة.