هل تقضي عقاقير «التعديل العصبي» على إرادتنا الحرة؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
هل نحن حقًا أحرار ومسئولون عن أفعالنا، أم أن خياراتنا محكومة بظروف بيئاتنا أو تنشئتنا أو جيناتنا أو أي عوامل خارجة عن تحكمنا؟ تعود الجدالات حول «الإرادة الحرة – Free Will» إلى عصر فلاسفة ما قبل سقراط في اليونان القديمة، وبعد ألفين ونصف من الأعوام تتيح لنا أدوات علم الأعصاب دراسة مفهوم «الإرادة الحرة» بطريقة أقل تكهنية. وفوق ذلك، فإن علم الأدوية العصبية (نيوروفارماكولوجي)، الذي تطور بالتوازي مع تنامي معرفتنا عن المخ، قد وُضع لتعديل، بل في بعض الحالات (خلق)، التجارب الإنسانية بطرق كانت ذات يوم حبيسة عالم الأفكار المجردة أو الخيال العلمي.
ومفهوم «التعديل العصبي – Neuromodulation» يشير إلى تعديل أنشطة عصبية معينة بالاعتماد على العقاقير أو التكنولوجيا، بشكل غائي. وتعيد الإمكانيات المعاصرة للتعديل العصبي المصطنع مسألة «الإرادة الحرة» إلى السطح، مصحوبة بأسئلة يتجدد طرحها بقوة.
أصبح لدينا، بفضل دراسة المخ، كم متزايد من البيانات والأدلة حول التشريح العصبي للمشاعر والعمليات العصبية الحيوية التي ترتكز عليها معنوياتنا؛ فنحن نعرف مثلًا كيف ترتبط مشاعر السعادة أو القوة أو التعاطف أو الخوف أو سلوكيات الود والإيثار بالمخ عبر الكيمياء العصبية. ولأنه صار ممكنًا على نحو متزايد ربط وتفسير العواطف والسلوكيات بأنشطة المخ وكيميائه، أصبح لدينا بالتبعية إمكانية متزايدة لتغيير هذه العواطف والسلوكيات بوسائل كيميائية؛ فالزيادة المصطنعة، على سبيل المثال، في مستوى الناقلات العصبية مثل السيروتونين والدوبامين تتيح مخرجًا سريعًا للحالات النفسية السلبية، وإذا ما وُظفت بشكل معين في المخ يمكن أن تسهل كذلك عملية التعلم.
بافتراض أن المستقبل قد يحمل إلينا إمكانية التغيير المقصود لسماتنا الشخصية وعواطفنا وقدراتنا الذهنية، بالاعتماد على التدخلات الكيميائية العصبية (في مجال «تعزيز الإنسان – Human Enhancement» [محاولة التغلب على حدود الجسد البشري بواسطة وسائل صناعية] على سبيل المثال)، أصبح يتعين علينا مراجعة بعض تصوراتنا الفلسفية الأساسية حول الهوية والشخصية والجدارة الأخلاقية.
تطرح إمكانية التدخل على مستوى الكيمياء العصبية عددًا من المسائل الجديدة والأخلاقية، في عدادها: أي نوع من المسئولية، وعلى من تقع، إذا كانت مصداقية التجربة البشرية قابلة للتهديد أو حتى التقويض باستخدام أدوات التعديل العصبي؟ وهل ستظل قوة الإرادة أمرًا يستحق الإعجاب إذا ما كان ممكنًا خلقها اصطناعيًا، أم أنه سيكون من قبيل الخطأ الحديث أصلًا عن قوة الإرادة على ضوء ظروف كهذه؟ والأكثر من ذلك؛ إذا كانت الأطر الأخلاقية قد تطورت تبعًا لفهم معين شائع للتجربة الإنسانية، فكيف تتبدل هذه الأطر؟ وأي المخاطر الأخلاقية تنطوي عليها عملية التغيير تلك؟
الأخلاق من منظور العرض والطلب
أصبح استخدام ما يعرف بـ «عقاقير اضطرابات اليقظة – Wakefulness Disorder Drugs» نوعًا من الثقافة الشائعة على نطاق واسع، بالرغم من أنها صُنعت أساسًا لعلاج حالات مثل اضطراب نقص التركيز وفرط الحركة ADHD. ومع أنه يصعب رصد وتتبع أنماط دقيقة، يمكن القول بثقة كبيرة إن تناول هذه العقاقير دون استشارة الطبيب بات أكثر شيوعًا من تناولها بناءً على وصفة طبية. بيد أن استخدام هذه العقاقير عشوائيًا أمر ضئيل الجدوى، أو على الأقل لا يصنع التأثير الذي يتوقعه متعاطوها.
في الحقيقة، تشير أبحاث إلى أن مستخدمي العقاقير ممن لا يعانون من الاضطرابات التي خُصصت هذه العقاقير لعلاجها، من المستبعد أن يلمسوا أي تحسن إدراكي جوهري، والتأثير الأكثر شيوعًا في هذه الحالات هو تأثير عاطفي، وفي معظم الحالات فإن ما تحسّنه العقاقير بالأحرى هو التحفيز لا التفكير. لكن مع ذلك، يجب القول إن تعاطي هذه العقاقير في بعض الحالات قد يرقى إلى تعاطي المخدرات وإدمانها، وهو ما يخلق أسواقًا موازية مريبة لتداولها، وفضلًا عن ذلك تكشف تحليلات أن الرغبة في تعاطي المادة الفعالة تستمر حتى بعد تناول العقار في موقف معين.
بل إن الآثار الأخلاقية – على جانب الطلب أيضًا – يمكن أن تكون أكثر تعقيدًا؛ فقد أظهرت دراسات مسحية مثلًا أُجريت على عدد من طلبة الجامعات ممن يتعاطون «الأقراص الذكية – Smart Pills» أن بعضهم قد بلغ بالكاد سن المسئولية الجنائية، والعديد من هؤلاء سيصعب عليهم الاستغناء عن تلك «المقويات»، أو بالأحرى سيدمنونها،حتى قبل أن يصلوا إلى سن الجامعة.
ويجادل الفيلسوف روبرت جودين فيما يتعلق بإدمان النيكوتين، أن الفتية الذين يغدون مدمنين حال كان ذلك قبل وصولهم للسن التي يمكن اعتبارهم عندها صناع قرارات عقلانيين (ويتحملون المسئولية الجنائية بالتبعية)، فإنهم يتحملون قدرًا أقل من المسئولية عن خطاياهم الشخصية، أما الجزء الأكبر فيقع على عاتق منتجي وموزعي هذه المواد.
ولا شك أن النيكوتين يختلف نوعيًا عن المقويات العصبية، لكن مجتمعاتنا ستجد نفسها أمام أسئلة أخلاقية في المستقبل حول المساءلة والإدمان فيما يتعلق بأدوات التعديل العصبي. ولنتذكر أن النيكوتين كان يُستخدم في البداية للمساعدة على التركيز، قبل ظهور الكم الهائل من العقاقير الطبية المخصصة لهذا الغرض.
هذه المقارنة واضحة في ترجيحها لصحة التصور الخاص بأن أسباب تحسن الأداء تلتبس على مستخدمي العقاقير؛ فليس ثمة أي تحسن في الوظائف الإدراكية ينجم عن استخدامها، وإنما ينحو الأثر الحقيقي إلى أن يكون تغييرًا في الحالة المزاجية، يشعر معه المستخدم بقدر أكبر من النشاط أو البهجة، وهذا بدوره يجعل إنجاز المهام الملقاة على عاتق الشخص يبدو أكثر سهولة، بل أكثر إمتاعًا. لكن ذلك ربما يتغير في المستقبل بظهور عقاقير أقوى منشّطة للأعصاب.
ولربما كان تأثير استخدام أدوات التعديل العصبي بغرض التحفيز، سواء في هيئة أقراص أم أجهزة تعمل كهربيًا، أكثر قوة وأطول زمنًا من التأثير العابر للنيكوتين – الذي يسبب مشكلات صحية ولا يُنصح باستخدامه من ثمّ – بيد أنه إن كان هنالك أشكال أخرى من المنشطات العصبية يمكنها زيادة قوة الإرادة والقدرة على القيام بأنشطة طويلة ومرهقة، أو الامتناع عن عادات سيئة، دون آثار جانبية جسيمة الضرر، فإن جاذبيتها لن تكون موضع شك. هل سيكون من المهم عندئذٍ حقيقة أن أدوات التعديل العصبي تلك ليست طبيعية، وإنما هي بالأحرى ضرب من التلاعب بالمخ؟
هل قراراتنا هي قراراتنا حقًا على أي حال؟ لقد طرح بحث في علم الأعصاب سؤالًا حول إذا ما كان ما نسميه «خيارًا» يطابق من أي وجه الطريقة التي عرّفه بها الفلاسفة تقليديًا. قبل أكثر من عقد من الزمن، أجرى فريق من علماء مركز برنشتاين لعلم الأعصاب الحاسوبي في برلين تجربة للتصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي، حيث تعين على المتطوعين الضغط على زر بإحدى سبابتيهم؛ اليمنى أو اليسرى.
لم تكن مفاجأة التجربة أن المتطوعين اتخذوا قراراتهم الواعية قبل التنفيذ الفعلي فحسب، وإنما اتّضح أن نشاط المخ السابق على القرار يمكن بدرجة ما أن ينبئ بالقرار قبل اتخاذه بسبع ثوان. وبعبارة أخرى، فإن أدمغة المتطوعين هي التي اتخذت القرارات قبل حتى أن يعي المتطوعون القرارات التي صنعوها.
ومع توغل علماء الأعصاب – حرفيًا – في المخ (عبر زرع الأقطاب الكهربية)، ودراستهم نشاط المخ الخاص باتخاذ القرارات عن وعي، ربما كانت الفكرة القديمة عن الإرادة الحرة تتداعى، لكن في المقابل سيتعين على علماء الأعصاب إقناع المجتمع بأن نتائج أبحاثهم لا يتطرق إليها الشك.
مع ذلك، أمست مسألة مصداقية «الإرادة الحرة» أكثر تعقيدًا على ضوء التعديل العصبي الاصطناعي. وإذا كنا قد بدأنا بالفعل النقاش حول مسألة أي قدر من عملية صنع قراراتنا عن وعي يمثلنا (بمعنى ذواتنا الواعية مقابل بيولوجيانا وكيميائنا العصبية)، فماذا يمكن قوله عن الأفكار والدوافع التي تتحكم بها تدخلات خارجية؟
معرفة الذات والمصداقية
رأى أرسطو (384 ق.م – 322 ق.م) أن الحياة الفاضلة تقتضي قيام المرء بالأعمال التي تجلب السعادة، وتبعه في ذلك كوكبة من الفلاسفة، لعل من أشهرهم روبرت نوزيك، الذي صك مفهوم أو فكرة «آلة التجربة» في كتابه «الفوضى والدولة واليوتوبيا» (1974).
في هذه التجربة الفكرية يدعو نوزيك القرّاء إلى تخيل وجود آلة قادرة على إدخالهم في أي تجربة يودون القيام بها، ومنحهم الأحاسيس التي كانوا ليشعروا بها في تجربة حقيقية، ويمكن للشخص المتصل بهذه الآلة تجربة فيض من التجارب الملفّقة دون خروج أي منها إلى عالم الواقع، وتتولى الآلة تغذية المخ بالأحاسيس الضرورية دون وعي الشخص بذلك.
لقد طرح نوزيك تجربته الفكرية تلك بغرض دحض «مذهب اللذة – Hedonism»، القائل إن التماس اللذة هو أكبر بواعث السعادة لدى الإنسان؛ فحتى لو كانت التجارب التي تقدمها آلة التجارب مثالية، يعتقد نوزيك أنه إن كان لنا الخيرة من أمرنا، فلن يختار معظمنا الاتصال بالآلة، وإنما الاستمرار في عالم الواقع، بكل ما ينطوي عليه من مخاطر وإحباطات.
يجادل نوزيك بأن تجربته تضيء على رغبتنا بأن تكون تجاربنا حقيقية وغائية، لا ممتعة فحسب. وربما كان بالإمكان تلفيق تجربة عن طريق التدخل العصبي، يغدو فيها شخص ما موضع حب وتقدير ومكافأة الآخرين، دون وقوع أي من ذلك في عالم الواقع، لكن هذا لا يضاهي بأي حال وقوعه في عالم الواقع. وسواء اتفقنا مع استنتاجات نوزيك أم اختلفنا، تظل مسألة التمييز بين التجربة الحقيقية وتلك الملفقة ذات صلة بموضوعنا الراهن.
يطرح التعديل العصبي الاصطناعي عددًا من القضايا المتعلقة بمصداقية التجربة البشرية، وبالأخص مصداقية «الإرادة الحرة». ومربط الفرس هنا أن أي عمل يقوم به المرء هو عمل ضئيل القيمة؛ فالمرء يتحفز للقيام بهذا العمل بفضل أدوات تحسين الحالة المزاجية، لا من أجل قيمة العمل في حد ذاته. وإلى جانب الأساس الفلسفي للاعتقاد بأن قيمة العمل تضيع وسط تحولات الدوافع، ثمة تطبيقات عملية مثيرة للقلق؛ فشيوع استخدام المنشطات الإدراكية يمكن أن يقوّض قيم التعلم والجدارة، وأن يكون على حساب النظام التعليمي والحياة ككل. هنالك أيضًا احتمالات مزعجة بشأن دور أدوات التعديل العصبي في دفع الأفراد إلى العزلة.
الطبيعة الإنسانية ومذهب اللذة والهوية
ثمة طائفتان واسعتان من تطبيقات التعديل العصبي الاصطناعي، إحداهما فلسفية والأخرى اجتماعية سياسية. فلسفيًا، بوسعنا أن نعتبر استخدام الأقراص الذكية مساويًا في النهاية لنوع ما من اللذة؛ فلأن هذه العقاقير تحسّن الحالة المزاجية أكثر منها تحسن الإدراك بشكل جوهري (حتى الآن)، يمكن أن تُعد ضربًا من التماس اللذة لذاتها، لا كوسيلة للوصول إلى أفكار أفضل.
إن التماس اللذة هو جزء أساسي من الطبيعة الإنسانية وفق مقاييس معينة؛ فالمخ البشري مبرمج مسبقًا على التماس اللذة وتفادي الألم، ناهيك بالتصرفات النابعة من غريزة البقاء. يقودنا ذلك إلى اقتراف وتكرار تصرفات نكون مدفوعين إليها بدوافع حسية أو ذهنية أو مزيج من الاثنين وفق نمط أساسي شائع؛ فشعور الرضا أو البهجة الناجم عن هذه الدوافع هو في النهاية نتاج عمل الكيمياء العصبية.
ومع ذلك، ثمة تراث ضخم وممتد من الأفكار، منذ أفلاطون وسقراط وصولًا إلى نوزيك، يجادل بأن اللذة هي مجرد قيمة بين عديد القيم الأخرى، ويحذّر من خطورة إهمال سائر القيم في سبيل التماس اللذة. ويضيف ذلك وزنًا فلسفيًا وأخلاقيًا إلى الحاجة لجهود أكبر لتنظيم وتحجيم استخدام المقويات العصبية، قبل أن تتحول إلى ما يشبه الوباء، بما ينطوي عليه ذلك من خطر جسيم.
في حقيقة الأمر، فإن أي طريقة للحياة تستلزم اعتماد المرء على التعديل المستمر لكيمياء مخه من أجل مساعدته على تحمل ظروفه، هي طريقة منافية لمقتضى الصحة على نحو خطير، وقد تنطوي على ما يهدد حياة الفرد أو يشكل تهديدًا للآخرين، إذ قد تتحول إلى اكتئاب عميق أو ضرب من الهوس.
ما لم يقتصر استخدام التعديل الذاتي للسلوك على علاج الحالات المنهِكة من الاختلال العصبي الإدراكي، فإنه يرقى إلى أن يكون ضربًا من خداع الذات، مع ما ينطوي عليه من فقدان لحرية الإرادة. وإذا ما استمرت هذه التصرفات لفترة طويلة، فلربما تتداخل مع، أو حتى تتعارض مع، الشعور المتسق بالهوية.
وفي التحليل الأخير، يمكن للتعديل العصبي أن يغرّب الناس عن أجزاء جوهرية من إنسانيتنا التي ساعدتنا على تطوير بوصلة أخلاقية. إن مشاعر الخوف والقلق والذنب وتأنيب الضمير هي كلها أمثلة للمشاعر الكريهة، لكن الضرورية والتربوية، بحيث ترشدنا إلى التعاطف والمرونة والتضامن بشكل أفضل مع الآخرين. ولربما كان تسكين هذه المشاعر السلبية أمرًا مريحًا إلى حين، لكنه مدمر إلى أبعد الحدود على المدى الطويل.
إن بعض دوافع السلوك الإنساني التي قد تبدو سلبية في ظاهرها، مثل الأنانية والمنافسة الغيورة، قد تكون في حقيقة الأمر ضرورية للتقدم الإنساني والبقاء، تمامًا مثل السلوكيات الإيجابية كالتعاون والتضامن والتعايش التكافلي. يطرح ذلك سؤالًا أخيرًا: ماذا إن كان بالإمكان استخدام التعديل العصبي من أجل غرس سلوكيات أكثر تعاطفًا وإيثارًا واجتماعيةً بداخلنا؟ هل يمكن أن ينطوي أمر رائع كهذا على شيء من الضرر؟