النزيف الصامت: العرب والمسلمون في المهجر
بنفس تملؤها الآمال العريضة في غد أفضل ومستقبل مُشرق، يبدأ المهاجرون أولى خطواتهم في الجنة الأوروبية التي أُدخلوا فيها بعد عناء وشقاء في دار المَشرق، ويبدو المشهد مبهرًا لهم، فهناك النظام والتقدم والقانون والحرية والغنى والشوارع النظيفة المزينة بالأشجار والورود، لكن ما إن يستقروا في تلك البلاد حتى يتكشف لهم ما وُوري عنهم من سوءاتها، ولعل أشقها على نفوسهم هو إدراكهم أن المستقبل الذي ينتظر أبناءهم في هذه البلاد ليس كما رسموه وطلبوه، وأن هذه الجنة ليست لهم، ولن يصيروا من أهلها حتى يفقدوا شخصيتهم وينزعوا لباس القيم التي جاء بها آباؤهم.
فينشأ الأبناء وسط من يرونهم غرباء ويعاملونهم كدخلاء في بلاد لا يعرفون لهم وطنًا غيرها، فلم يعيشوا في البلاد التي جاء منها آباؤهم ولم يألفوها، ويعانون من تصادم قيم عائلاتهم مع المجتمع شديد الانفتاح في مواضيع كالعلاقة بين الجنسين، ومشكلة الحصول على الطعام الحلال، ليس فقط اللحوم بل مشتقات الخنزير التي تدخل في كثير من المنتجات الغذائية، فضلًا عن تعارض الأعياد والمناسبات الدينية مع ظروفهم ومواعيدهم.
النزيف الصامت
لا يجد هذا الجيل نفسه مختلفًا دينيًّا فقط مع الوسط المحيط به، بل يصبح محملًا باختلافات ثقافية ومعيشية، لأن كثيرًا من المهاجرين ينقل ثقافة بلده على أنها الإسلام، ويطلب من الشباب المسلم في الغرب أن يلتزم بها، في خلط بين الدين الثابت والثقافة التي تتغير بتغير الأزمنة والأماكن وفقًا لما يورده البروفيسور الأمريكي جيفري لانج في كتابه «ضياع ديني: صرخة المسلمين في الغرب».
ويذكر لانج أن من أسباب تخلي أبناء بعض الأسر المسلمة عن الدين هو رغبتهم في التخلص من الازدراء والكراهية التي تحيط بهم داخل المدارس، وفي المجتمع الغربي بصفة عامة، بسبب ديانتهم، فيبدأ تساؤل الشباب خاصة في مرحلة المراهقة عن جدوى هذا الانتماء الديني، خاصة مع افتقاد الوالدين للمؤهلات التربوية، وحين تفشل محاولات الاندماج المجتمعي بمرور الوقت تنحصر المفاضلة بين الذوبان أو التمايز والاستقلالية، ويختار الكثيرون إما الارتداد أو التحصن بتعميق الالتزام الديني.
وعلى كل الأحوال تنشأ فجوة ثقافية بين الآباء والأبناء، إذ يشارك المجتمع بكل مفرداته في عملية التربية التي تتصف هنا بالازدواجية الفجة، كما في قصة غلام أصحاب الأخدود الذي كان يتتلمذ على يد الراهب المتدين وساحر الملك في نفس الوقت، ويسمع منهما كلامًا متناقضًا.
وقد رصدت تقارير ظاهرة ارتداد لاجئين لدى وصولهم إلى القارة العجوز، امتلأت بهم الكنائس الخاوية التي هجرها الأوروبيون، وأقيمت لهم حفلات خاصة بطقوس التعميد الجماعي في حمامات السباحة والبحيرات، وأحيانًا يحرص المتنصرون الجدد على ارتداء الصلبان الكبيرة أو وشمها على جلودهم في أماكن واضحة، إذ إن اعتناق المسيحية يعزز من قبول طلبات اللجوء، ولذلك تلجأ سلطات بعض الدول لامتحانهم لمعرفة مدى صدق ارتدادهم.
وفضلًا عن ذلك ينتشر الإلحاد أو حتى اللادينية (أي عدم اعتناق أي عقيدة) بينهم، وكثير منهم يذهبون ويرجعون إلى دينهم دون أن يعلنوا عن ذلك، في غياب الحاضنة المجتمعية التي تستطيع احتواءهم داخلها، وعجز الفعاليات العربية والمراكز الإسلامية عن أداء هذا الدور، وأما من يظلون على ديانتهم فينقسمون إلى فئات عدة، منها من يتبعون نمط «الإسلام غير الممارس»، أي لا يمارسون أي شعائر ولا يتقيدون بأحكام دينية، ومن البديهي أن يتعلم المهاجرون لغة البلد المضيف ومع ظهور الجيل الثاني فالثالث يتضاءل وجود اللغة العربية، وتفقد الأجيال انتماءها لبلاد لا تعرفها، وبمرور الوقت يزداد الذوبان اللغوي والثقافي والديني.
ومع إقبال الكثير من الأوروبيين والأمريكيين على اعتناق الإسلام والتعرف على الثقافة العربية فإن هذا المد يقابله جزر بسبب ظاهرة الارتداد التي تُفقد الأمتين العربية والإسلامية ثروة لا تقدر بثمن من أبنائهما، وتصبح المقولة الشهيرة للمفكر الإسلامي التركي، بديع الزمان سعيد النورسي: إن «أوروبا حبلي بجنين الإسلام وستلد يومًا ما». بحاجة للمراجعة.
كما تحاول الحكومات الغربية رعاية أشكال «مُروَّضة» من الدين، على غرار مبادرة «مؤتمر الإسلام» التي أطلقها وزير الداخلية الألماني الأسبق فولفغانغ شويبله منذ عام 2006، في ظل غياب مبادرات عربية فاعلة لرعاية الأعداد الهائلة من العرب المقيمين في هذه البلدان، فهناك ملايين المصريين في أوروبا والولايات المتحدة، وفي فرنسا وحدها يوجد نحو خمسة ملايين جزائري، فضلًا عن الملايين من اللاجئين السوريين والفلسطينيين والعراقيين وغيرهم يتوزعون على عشرات الدول الغربية.
وهؤلاء لا تنشغل الدول العربية بدعمهم ومتابعة أوضاعهم على غرار ما تفعله الدول الغربية مع مسيحيي المشرق، أو ما تفعله أنقرة تجاه الأتراك في ألمانيا، مع أن نصفهم تقريبًا يحمل جنسية البلد، لكن الحكومة التركية تتبع سياسة معلنة تقاوم جهود إدماجهم في البيئة الأوروبية، وتُشرف بإصرار على مؤسساتهم الدينية، وتتمسك بحق رعاية مسلمي البلقان الذين كانوا تابعين للسلطنة العثمانية سابقًا.
كابوس اليمين المتطرف
مما يزيد من محنة العرب والمسلمين في المهجر الأوروبي والأمريكي صعود اليمين المتطرف، وهو تيار يجاهر بميوله العدوانية ضد الأجانب، خاصة العرب والمسلمين، وكان على وشك الوصول إلى سدة الحكم في فرنسا خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي صوت فيها 41.46٪ من الناخبين (13.3 مليون) للمرشحة اليمينية مارين لوبان، ورغم نتيجة الانتخابات فإنها تكشف أن نسبة ضخمة من الفرنسيين أيدوا مرشحة اتُّهمت بالسعي لإشعال حرب أهلية ضد المسلمين، وكانت تجهر بعزمها على منع الحجاب ونزع الجنسية عمن ولدوا ونشئُوا في فرنسا من أبناء المهاجرين، الأمر الذي يجعل مصير الجاليات المسلمة محل تساؤل في ظل الصعود السياسي للتيار المتطرف في الغرب.
وعلى مستوى أوروبا تتعاظم حركات اليمين المتطرف، وتتزايد الاعتداءات على المسلمين، وكثير منها لا يتم الإبلاغ عنها، في ظل اتجاه لعسكرة الحركات اليمينية وتكوين أذرع مسلحة لها مثل الميليشيات الأوكرانية والمتطوعين اليمينيين الذين انضموا لها قادمين من مختلف أرجاء أوروبا والولايات المتحدة.
وتتراءى أمام مسلمي المهجر سيناريوهات متشائمة إن استمر زحف أحزاب اليمين المتطرف إلى العواصم الغربية، وحينها من المقرر أن يحمل هؤلاء أجندة متشددة إلى السلطة تهدف لتصفية الكتلة الإسلامية في الغرب بشكل كبير في إحياء مصغر لحقبة محاكم التفتيش التي أنشأها الكاثوليك في إسبانيا والبرتغال بهدف إنهاء الوجود الإسلامي هناك، شملت إجبار الأندلسيين على التخلي عن عقيدتهم أو التهجير من أرضهم، وتم ممارسة أبشع أنواع التنكيل بحق من بقي منهم، بينما يشكل أحفاد المهجرين اليوم كتلة بشرية ضخمة في دول شمال أفريقيا، ويُطلق عليهم اسم «الموريسكيين»، وتقدر أعدادهم في المملكة المغربية بحوالي أربعة ملايين نسمة، بعضهم يحمل ذكريات أليمة، ومنهم من يحمل مفتاح منزله ويتمسك بحق العودة إلى شبه الجزيرة الأيبيرية.
وتحتفل مدريد حتى اليوم بطرد الأندلسيين في الثاني من يناير/ كانون الثاني من كل عام، وتحظى فعاليات إحياء هذه الذكرى بتأييد حركات اليمين المتطرف في عموم أوروبا، وتمثل إلهامًا لها.