مبادرات الخيال العلمي العربي
صدق أو لا تصدق: منذ 1000 عام وأكثر، كان هناك شيء من الخيال العلمي يتحدث بالعربية! تستطيع أن تعثر على ملامح منه في العديد من الأعمال: كتأريخ المسعودي، ورحلات أحمد بن فضلان، ومدينة (الفارابي) الفاضلة. حتى قصص (ألف ليلة وليلة) لم تخلُ من بعضها، مثلًا؛ مغامرة (عبد الله البري، وعبد الله البحري)، وفيها استطاع البطل التنفس تحت الماء، وفي حكاية “أبي الحسن وجاريته تودّد”، تحاور البطلة سيدها بحديث مطول عن منازل القمر، وعن الطيب والشرير من الكواكب، وفي قصة ثالثة، يوجد حصان معدني/ ميكانيكي يسافر إلى الفضاء الخارجي.
هذا عن ألف ليلة وليلة، التي تعتبر تراكمات من التراث الفارسي والهندي والعربي.
سبقهم جميعًا (لوقيانوس السوري) الذي يعتبره البعض أول رائد للخيال العلمي في التاريخ، وصاحب أول ما تم اعتباره: قصة (خيال علمي)، مع أنه أصر على تسميتها بما يوحي بالعكس، أسماها (قصة حقيقية)، وتتحدث عن وصول بشري للقمر، ثم اشتعال فتيل الحرب بيننا وبين سكانه.
حي ابن يقظان
ربما هي الصورة الأنضج والأبرز بين الأمثلة التي ذكرناها.
ينسبها البعض إلى الفيلسوف الأندلسي (ابن طفيل)، أما الحقيقة فهي نتاج مجهود أربعة أشخاص رئيسيين أضافوا وعدلوا صياغتها أكثر من مرة: ابن طفيل، السهرودي، ابن النفيس، أما المؤلف الأول، وصاحب الفكرة الأصلي، فهو: ابن سينا، ويقال أنه ألفها أثناء فترة سجنه الشهيرة.
(ابن يقظان) طفل رضيع ألقى به القدر إلى جزيرة نائية، فربته ظبية حتى كبر، وبدأ في صعود سلم المعرفة وحيدًا، تقوده فقط حواسه وغريزته وحواسه.
حاولت القصة الإجابة على أكثر من سؤال علمي/ فلسفي في الوقت ذاته: لو ولد طفل بمعزل عن أيّ مصادر تعلم، أي لغة سيتحدث؟ كيف سيكون تفاعله مع الطبيعة من حوله؟ أيّ فكرة سيتصورها عن الإله؟
ظهرت الأعمال التي ذكرناها أعلاه، عندما أحاط بها مناخ حضاري يسمح، بل تحولت هذه الأعمال إلى مصدر استيحاء للغرب، عمل كـ (حي بن يقظان) مثلًا، يعتبر النسخة الأصل الأسبق تاريخيًا لعدد من الشخصيات الأجنبية المشابهة على غرار (روبنسون كروزو) و(طرزان)، و(ماوكلي).
اسمه (خيال “علمي”)، لذلك من المنطقي أنه ينشط فى المجتمعات المتقدمة علميًا، وقد كنا كذلك وقتها، وهي الصفة التي لا يمكن إطلاقها بأي حال من الأحوال على مجتمعنا العربي حاليًا.
لقد دار التاريخ دائرته، فنعيش فى بيئة يندر فيها تشجيع العلم، فما بالك بتخيله! للأسف، إنتاجنا الأدبي فيه محكوم عليه بالركود إلا قليلًا، وحتى هذا “القليل” أغلبه ما بين ركيك أو منحوت نحتًا من أعمال غربية. وسط هذا الشارع الغارق في العتمة، يوجد من أضاؤوا شمعة، ونادوا بعضهم البعض كي يتجمعوا حولها.
ذكرت في مقال سابق عددًا من مجلات الخيال العلمي العربية، ربما لم يسمع البعض عنها. وللحق، لاقيت ردود أفعال مشجعة على المقال، مما دفعني لكتابة جزء ثانٍ، هذه المرة نوثق التجارب العربية التي حلقت خارج السرب، وسعت لتأسيس روابط أدبية معنية بالخيال العلمي.
1. رابطة أدباء الخيال العلمي العرب
المكان: دمشق – سوريا (نفس وطن المنشأ لـ لوقيانوس السوري).
الزمان: يونيو/حزيران 2007م.
الحدث: ندوة دولية لأدب الخيال العلمي.
من سار في الأروقة وقتها، كان سيندهش حتمًا من كمية الأسماء المتواجدة، تستطيع القول أنه أكبر قدر من الخياليين الرواد، يمكن أن يجتمع في مكان واحد. (نهاد شريف) من مصر، (عبد السلام البقالي) من المغرب، (لينا كيلاني) من سوريا، (حسام الخطيب) من فلسطين، (قاسم قاسم) من لبنان، (طيبة الإبراهيمي) من الكويت، (كوثر عيّاد) من فرنسا.
خرج المؤتمر بعدة توصيات، أهمها الاقتراح التاريخي بإنشاء رابطة لأدباء الخيال العلمي العرب، بالإضافة لإصدار مجلة ناطقة للرابطة، لعلها من المرات النادرة التي يخرج فيها عرب بتوصيات، ثم تجد طريقها للتنفيذ يومًا. وفي 2008م، ظهر وليد جديد لدى أكشاك باعة الكتب، الوليد في صورة “مجلة الخيال العلمي” الصادرة عن الرابطة. وفي خانة رئيس التحرير حل اسم رئيس الرابطة (طالب عمران)، بالإضافة لهيئة استشارية تكونت من العمالقة المذكورين أعلاه.
«وزارة الثقافة ونتيجة لضغط النفقات أرادت أن تصدر المجلة مرتين في العام وهذا ما لم نرضَ به كُتّاب للخيال العلمي، فعرضنا الموضوع على جامعة دمشق.» بهذه الكلمات وصف م. طالب عمران سبب نقل تبعية المجلة لجامعة دمشق، ومع الأحداث المؤسفة في سوريا، لم يعد هناك مناص من تأخر دورية المجلة من شهرية إلى فصلية، بينما تجمد نشاط الرابطة بكاملها ومؤتمراتها لنفس السبب.
2. صالون «نهاد شريف» للخيال العلمي
رحل عن عالمنا في 4 يناير 2011م. ومثلي مثل أي عاشق للخيال العلمي، تمنيت لو أحظى بشرف مقابلته، ويزداد فضولي تجاه هذه الأمنية كلما سمعت عنه ممكن احتكوا به مباشرة. التقيت ببعضهم فى مناسبات مختلفة، على سبيل المثال، – مع حفظ الألقاب -: صلاح معاطي، عطيات أبو العينين، حمادة هزاع، حسام الزمبيلي، عبد الله مطر، مدحت مطر، محمد عبد الهادي. والعامل المشترك، أن أغلبهم ينتهز كل فرصة للثناء على الكاتب الراحل، سواء ككاتب أو رائد أو أستاذ، وقبل هذا كله كإنسان.
للحق، من النادر أن قابلت إخلاصًا بهذا الشكل، وهو ما استمر وظهر في تكاتف أولئك من أجل تكريم اسمه، فكان هناك ما سُمي بـ (صالون “نهاد شريف” للخيال العلمي).
تقول إيمان نهاد شريف كريمة الكاتب الراحل: «الصالون كانت فكرة صلاح معاطي، ونحن تحمسنا جدًا أنا وماما سميحة جمعة وشقيقي حاتم، ثم قمت بنقل المكتبة في خلال ٤ أشهر من منزل أبي بالدقي إلى منزلي بالهرم، وأقمنا به أول صالون فى يوم ٢٥ يونيو ٢٠١١م، بنهاية نفس السنة التي توفي فيها أبي».
شهد الصالون على مدار تاريخه عشرات النقاشات والقراءات، تاريخه الذي امتد لحوالي 45 جلسة، وهو ما يمثل استمرارية افتقدتها كيانات كثيرة أكثر مقومات وإمكانيات بكثير.
في عام 2013م، أشرف الصالون على إطلاق مسابقة باسم الرائد الراحل، تخصصت في أدب الخيال العلمي بفروعه (الرواية، القصة القصيرة، المسرح، أدب الطفل، الدراسات النقدية)، شهدت المسابقة إقبالًا لافتًا على مستوى الوطن العربي، لكن للأسف، كانت الدورة الأولى والأخيرة من الجائزة، ولم يعلن عن موسم آخر منها، نظرًا لأسباب تتعلق بتدبير التمويل.
3. الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي
طفل مصري صغير بالمرحلة الإعدادية عائد من انجلترا، مشبع بعشق عجيب لكتابات وروايات وأفلام أدب الخيال العلمي. أمسك والد هذا الطفل بيديه، مدركًا حبه العميق لأدب الخيال العلمي، واقتاده إلى منزل بحي الدقي بمدينة القاهرة، يقطنه محارب مصري أصيل، قاد ملاحم عدة في تمهيد الطريق الوعر لأدب الخيال العلمي في مصر. هذا الفارس هو الكاتب الرائع الودود الرقيق نهاد شريف.
هذا الطفل عُرف لاحقًا باسم حسام الزمبيلي، صاحب مشروع الجمعية المصرية لأدب الخيال العلمي، أما الاقتباس المذكور أعلاه فعلى لسانه شخصيًا، ضمن تقديمه لأول أعداد سلسلة الخيال العلمي التي رأس تحريرها.
حسام الزمبيلي، التلميذ المخلص لنهاد شريف الذي سعى بقوة نحو ذاك الحلم، لولا اصطدامه ببعض الإجراءات الإدارية التي حالت دون إشهار الجمعية، فكان البديل يتمثل في القفز على هذه الخطوة، ومحاولة التواجد مباشرة على الأرض، ونستطيع أن نوجز هذا التواجد في إطلاق صالون الجمعية شبه الدوري في 2012م، والذي أضيء بتواجد رواد مميزين من نجوم المجال مثل د.نبيل فاروق، سيد القمّاح، أمل زيادة، محمد فاروق، لمياء السعيد، وغيرهم.
أثناء مشاهدة أحد الأفلام الوثائقية بالصالون، في أقصى يسار أول صف مؤسس الصالون (حسام الزمبيلي)، وإلى جواره مباشرة الكاتب الكبير (نبيل فاروق).
كما يضاف إلى رصيد الجمعية أيضًا، إصدارهم سلسلة أدبية متخصصة في أدب الخيال العلمي، حملت اسم (شمس الغد).
صدر عن المجلة 4 أعداد، وتكررت اجتماعات الصالون حوالي ضعف هذا الرقم، قبل أن تتجمد أنشطة الجمعية تمامًا للأسف منذ عام تقريبًا.
4. مبادرة «يتخيلون» السعودية
خلال مؤتمر الخيال العلمي الدولي 2013م، تواجد على المنصة أحد الوجوه العربية الشابة. اسمه (ياسر بهجت)، أحد مؤسسي مبادرة (يتخيلون)، والذي يقول في سياق التعريف بها: «نحن لا نعلم هل الخيال هو أساس العلم أم أن العلم يغذي مزيدًا من الخيال، كل ما هو واضح أن هناك ارتباط بينهما، (يتخيلون) اسم على هيئة جملة فعلية، وهي تدعم هذه الفكرة.»
تأسست (يتخيلون) عام 2012م على يد السعوديان (ياسر بهجت) و (إبراهيم عباس)، وسرعان ما تحولت المبادرة إلى دار نشر رسمية، وبدا أن هذا هو الحل الأقرب نظرًا لمعاناة المؤلفين من رفض دور النشر المتكرر، لا لشيء إلا لأن رواياتهم تنتمي لأدب الخيال.
تهدف المبادرة إلى إثراء محتوى الخيال العلمي العربي، بشكل يؤهلها – حسب طموحهم – للتنافسية العالمية.
أصدروا باكورة إنتاجهم عام 2013م، رواية (حوجن) التي خالفت توقعات الناشرين سالفي الذكر، وحققت رواجًا واسعًا في الخليج، بل وتم ترجمتها إلى الإنجليزية، ليتبعوها بعناوين أخرى مثل (هُناك) و(يقطينيا: العالم القديم).
5. مبادرة «لأبعد مدى» الأدبية
أنا بدوري واحد من ذلك الجيل، مثلي مثلهم تربيت على روايات الجيب، وكبرت أتنفس حبًا للخيال العلمي، مثلي مثلهم أيضًا ضايقني وجود ندرة بالمجال الذي أشغف به.
في نهايات عام 2013م، عقدت العزم، واستحضر ذهني خططًا عريضة لمبادرة في هذا الصدد، فلم يتبقَ إلا منحها اسمًا. أثناء المشاركة باسم المبادرة في منتدى (الإسكندرية) للإعلام وفي مكالمة هاتفية من مدينتي (أسوان) أقصي جنوب مصر، إلى شريكي (مصطفى جميل) في العاصمة بأقصى الشمال، سعيت لأن أبلغه بالاسم الذي توصلت إليه أخيرًا.
مصطفى، وجدتها أخيرًا، ستكون مبادرة لأبعد مدى/ رائع يا ياسين، أحب هذه الروح منك، اخبرني ما الاسم الذي تقترحه إذن/ لقد أخبرتك، مبادرة لأبعد مدى/ أقسم أنني فهمتك، تريدها أن تكون مبادرة لأبعد مدى/ حمدًا لله، أخيرًا/ حسنًا، دعنا ننتقل الآن: لم تخبرني بعد ما الاسم الذي تقول أنك توصلت إليه للمبادرة؟
استغرقنا وقتًا حتى أشرح له أن (لأبعد مدى) هو اسم، لا الصفة.
باستثناء هذه الأوقات القاسية، كانت تجربة المبادرة ممتعة بكل المقاييس، وعلى مدار ثلاثة أعوام كان الحصاد:
– رواية جماعية حملت عنوان (الأمسية المظلمة)، جاءت بمشاركة 4 من رواد المبادرة: (ياسين أحمد)، (محمود عبد الحليم)، (داليا مصطفى)، (مصطفى جميل).
– 28 عدد، هي كامل أبجدية (ومضات) الإلكترونية.
– 10 أعداد من نشرة (لأبعد مدى)، أول ربع جريدة متخصصة في الخيال العلمي والرعب.
** قبل هذا كله، رصيد هائل من الامتنان لتجربة تفاعلية، غيرت في حياة صانعيها كثيرًا.
6. رابطة «سندباد» العربية، بإنجلترا
ومع الخفوت العام لوهج الخيال العلمي ما بين المحيط والخليج، أبى عرب انجلترا إلا أن يساهموا في إذكائه من جديد، ولو من مهجرهم البعيد. تقول (ياسمين خان) راعية المبادرة: «سندباد الخيال العلمي: هي مبادرة لتحفيز اكتشاف والتعامل مع الخيال العلمي العربي».
تحكي (خان) كيف جاءتها الفكرة أثناء عملها بمتحف العلوم البريطاني، تحديدًا خلال تنظيمهم لأحد المعارض به، ففكرت في عقد شراكات مع فاعليات مماثلة، بغرض استضافة محاضرين ومتحدثين هناك عن خيالنا العلمي العربي.
جسر مميز ولافت كما نرى، بدأ بجلسة نقاشية في رحاب مركز (دانا) عام 2013م، ثم امتد إلى مهرجان (نور) عام 2014م الذي أقيم بمتحف العلوم البريطاني، وختامًا بمهرجان جامعة (برادفورد) خلال مايو الماضي.
أما عن أبرزهم بالنسبة لي، ما تم على هامش مهرجان (Shubbak) بالمكتبة البريطانية سنة 2015م ، استضافت الندوة وقتها المصري الأشهر د.أحمد خالد توفيق مؤلف (يوتيوبيا) و(ما وراء الطبيعة)، بالإضافة إلى العراقي (أحمد سعداوي) الحاصل على البوكر عن رواية (فرانكشتاين في بغداد).