الرواية العربية وتجاوز الاستبداد
للأدب العربي وفي قلبه الرواية، تلك التي أريد لها أن تكون ديوانا جديدا للعرب بدلا من الشعر كما يرى الأديب والناقد المصري «سيد البحراوي»، وضع ملتبس في الفكر العربي الحديث. فقد كتب لهذه الرواية ألا تكون مجرد إبداع جمالي يخلق أنماطا جديدة في التعبير عن الوجدان تضاف إلى طموحات خطاب النهضة الفكري في خلق أنماط جديدة في التفكير، ولا أن تكون نتاج عقلنة شكلت الوجود الفكري والاجتماعي وخلقت طبقات جديدة تحتاج شكلا من الإبداع يحمل رؤيتها عن العالم ويميزها عن بقية الطبقات فتكون بهذا تعبيرا عن وعي عقلاني لطبقة برجوازية كما يفترض لوكاتش في سياق الرواية الغربية.
بل كتب عليها بدلا من كل هذا أن تحمل مع الخطاب الفكري النهضوي مهمة القيام بدور التحديث الفكري وخلق أنماط التفكير الجديدة وتغيير الواقع الفكري والاجتماعي؛ بل فلنقل كتب عليها أن تسبق هذا الخطاب في كثير من الأحيان، أن تجعل قدرتها على التعبير بأنماط جديدة عن وجداننا -بأوسع معاني الكلمة- هو الطريق لتجديد الفكر نفسه وتغيير صورة العالم [1] التي نحملها في رؤوسنا، مخلصة بهذا لأصل حضارتها؛ تلك التي تبدأ تاريخها من نص يسرد، ويغير عبر سردياته عن الأصل والمصير، اعتقادات ما سبقه من أديان، ومكررة هذا الدرس التاريخي عن أن الفن وحده -ربما لا يشاركه في هذا سوى الثورات- له القدرة على فتح الأبواب لنمط جديد من الوجود.
لكن هذا الالتباس في وضع الرواية العربية لا ينبع فحسب مما قلناه عن مشاركة الخطاب الفكري مهمته ومحاولة تغيير صورة العالم عبر إبداعها طرق تعبير جديدة، لكنه نابع أيضا من كونها لم تستطع للحظة من لحظات تشكلها مفارقة القضايا الرئيسة الموضوعة فوق أجندة خطاب النهضة، هذا لأنها تحملها بالفعل لا فقط في وعي كتابها -ومنهم من بدأ مفكرا بالفعل أو ظل مع فنه مفكرا مهموما بقضايا النهضة مثل الحكيم وطه حسين- بل كذلك في محاولتها تأسيس نفسها في السياق الفني العربي نفسه وتوطين وجودها عبر مد جذورها في تاريخه. فتلك الرواية التي نشأت محاطة باتهامات التغريب، وهو اتهام يجردها من القدرة على أداء مهمتها في التعبير عن وجدانات شعوبها المختلفة عن الوجدان الغربي، كان عليها أن تقدم ردودها على هذا الاتهام عبر استخدام تقنيات خطاب النهضة ذاتها مثل «الانتقاء» و «التوفيق»، ومفاهيمه المفتاحية الرئيسة مثل «الأصالة والمعاصرة»[2]. فكان على كتاب الرواية و كذا القصة و المسرحية أن يشرعنوا وجودهم ضد الاتهامات بنفس طريقة شرعنة التيارات الفكرية الحديثة وجودها، فكما انتقت بعض التيارات فكر ابن رشد لإيجاد شرعية لأفكار العقلانية والتأويل العقلي للنصوص الدينية وفتح المجال لتصورات أخرى عن الدين لا تتعارض مع نتائج العلوم الحديثة، هذا كله دون سؤال عن موقعه في الفكر العربي الإسلامي في عصره وسبر أعمق لبنية خطابه.
كذلك انتقى الحكيم بعض الحواريات داخل بعض الأشعار العربية تعبيرا عن وجود تقليد عربي يصلح كأساس للمسرحية، كما قام ثروت أباظة في كتاب صغير بعنوان «القصة في الشعر العربي»، بمحاولة مد جذور القصة التمثيلية لبعض الأشعار العربية الجاهلية والإسلامية؛ ودون التساؤل عن الفرق بين القيم التي يحملها الشعر في استخدامه للغة والقيم التي تحملها الرواية والمسرحية في استخدامها للغة، طلب من القصة أن تكون -على عكس لغة الشعر ونزعته البلاغية «التي تعبر عن إخضاع الملموس للماورائي، … و التي يتفرع عنها أسبقية اللغة على مادتها، و انفصال الدال عن المدلول، و العجز عن دمج جسم التجربة بجسم الكلمة، و السيطرة على المدلول بتفجير دلالاته الداخلية المتعشقة بجوهره الملموس»[3]– أن تكون معملنة ومعقلنة إلى حد كبير كما في كلام يحيى حقي عن تجاوز سحر الكلمة الذاتي لقدرتها على التعبير عن عمق إحساس الموجود البشري، وهو ما وجد أعلى تجلياته في روايات إدريس الخالية من إطناب أو زيادة أو إغراق في التشبيه والمجاز مما يعني دمج جسم التجربة بجسم الكلمة.
فضلا عن استخدام رواد الرواية والمسرحية تقنية التوفيق بين الفكرين الغربي والإسلامي أو الأصالة والمعاصرة، فقد تم أيضا اعتبار الرواية أو المسرحية من قبل الحكيم فنا غربيا شكلا، يمكن ملأه بمضمون إسلامي أو عربي. وهذا القصر من الحكيم للفن على الشكل واعتباره عاما و كليا لا يختص بحضارة ما، غرضه أن ينجو الحكيم بالمسرحية من النقد الموجه لها بكونها فنا غربيا لا يستطيع التعبير عن وجداننا [4]. ولأن هذا التفريق من الحكيم بين شكل للتعبير ومضمون، يفتت قدرة الفن نفسها على تغيير صورة العالم عبر خلق طريق تعبير جديدة عن الوجدان، جاءت محاولة لاحقة من زكي نجيب محمود بالتوفيق بين الفنين العربي والغربي عبر الجمع بين فردانية الفن الغربي واعتماده على التجربة الواقعية والتعبير البسيط وبين شمولية الفن الإسلامي والعربي وقيميته واعتماده على جمال اللغة والتعبير الجذل لخلق صورة كونية متعادلة تجمع بين قلب الشرق الفنان وعقل الغرب.
كل هذا الجدل الذي مارسته الرواية لتأسيس نفسها فضلا عن حملها مشكلات نهضوية على صفحاتها وفي أصوات أبطالها المتصارعة، مثل مشكلة العلاقة بين الدين و العلم «قنديل أم هاشم» ليحي حقي، «حكاية بلا بداية ولا نهاية» و «قلب الليل» لنجيب محفوظ، «ناس» ليوسف إدريس، أو مشكلة العلاقة بين الريف و المدينة مثل «البوسطجي» أو «صح النوم» ليحيى حقي، «النداهة» ليوسف إدريس = يعني كون الرواية في حد ذاتها خطابا يمكن عبر تتبع تشكلاته الخارجية في تأسيس نفسه والداخلية في تطوير ذاته -أساليبه ومواضعيه- فهم مسارات خطاب النهضة وطموحاته، وكذلك الخلل الكامن فيه بكل تأكيد.
ما نرومه هنا هو محاولة تتبع المسار الذي أخذته الرواية العربية في التعامل مع أهم المعضلات النهضوية الرئيسة، نقصد معضلة إصلاح الحكم السياسي وتجاوز الاستبداد. فمسألة إصلاح الحكم هي مدار الفكر الإصلاحي العربي الحديث كما يقول المفكر المغربي علي أومليل بحق [5] ما يجعل تتبع مسار التعامل معها تتبعا لخطاب النهضة طموحاته وإنجازاته -وإخفاقاته بالطبع-. وسننطلق من الرواية المصرية في محاولة تتبع هذا المسار، موافقين كذلك على التحقيب الذي وضعه البعض مثل عبد الرزاق العيد للرواية العربية كرواية محفوظية ثم رواية بعد محفوظية، باعتبار أن هذا التحقيب يتخذ الفرق بين موضع الراوي في روايات نجيب وروايات من بعده معيارا للتحقيب. وهذا المعيار، أي موضع الرواي، مرتبط بقوة بفكرة الاستبداد كما سيتبين لاحقا، مما يمكن معالجتنا لتناول الرواية معضلة الاستبداد، من تجاوز التعامل المضموني معه للتعامل القائم على تغيير أنماط التعبير عن الوجدان المفضي لتغيير صورة العالم كما قلنا.
الرواية المحفوظية
نستطيع إرجاع اهتمام العملاق بقضية الاستبداد السياسي لمرحلة مبكرة في مشواره الروائي الطويل الذي بلغ أكثر من 60 عاما. ففي روايته المبكرة «القاهرة الجديدة» الصادرة سنة 1945 والتي تعري مجتمع السلطة وتفصح عن فساده الشديد وغرقه في المتعة وتحويله القوادة طريقا وحيدا للصعود الاجتماعي -وهي فكرة ستستمر إلى الثلاثية حيث صعود رضوان عبر اللواط مع وزير- نستطيع أن نلمح تصعيدا لمشكل الاستبداد بحيث لا يتلخص في الحكم بلا دستور أو بلا قانون كما هو تعريف الكواكبي المعبر عن الحل النهضوي للاستبداد عبر تقييد السلطة، بل يتم التعبير عنه باعتباره تراتبية من الحكم الهرمي مطبقة الشدة ساحقة للأفراد، تأخذ شكل الاعتلاء الجنسي، «فالوزير يركب محجوب، والقصر يركب الوزارة، والانجليز يركبون القصر». مما يجعل الاستبداد لا فقط غياب لدستور يقيد فعل الحاكم بل إمعان الحاكم في نفي فعالية المحكومين عبر الإخصاء الرمزي لهم وغلق المجال دون فعل إلا فعله الوحيد.
استعانة نجيب بالجنس راجعة لما يحمله الجنس في سياقنا من دلالات تجعله حقلا لإنتاج الاستبداد، حيث الجنس في هذا السياق فعل يسير في اتجاه واحد يبدأ من اشتياق الرجل للمتعة وينتهي بتحصيله لها دون اعتبار لقدرة المرأة على الاستقلال بمتعة متخفية عنه يشاركها هو في تحصيلها، أي في إمتاعها عبر قدرتها هي لا عبر تعويضها الحرمان من القضيب. هذه الصياغة الأحادية للجنس تفرغه من معنى العلاقة وتحوله لمحض فعل إظهار للفحولة عبر التملك والقهر، و هو ما يبرر كون ألفاظ «يركب»، «يطأ»، «يعتلي»، «يفتح» بما تتضمنه من هرمية شديدة، هي الألفاظ التي تعبر في العربية عن الجنس.
وكما سمحت استبدادية صياغة الجنس لنجيب أن يعمق من تعبيره عن الاستبداد السياسي وأن يكشف جوهره القائم على الهرمية ونفي فعالية المحكومين وقصر علاقة الحاكم بهم على الاعتلاء، سمحت له أيضا أن يطرح استبدادية الجنس نفسها للسؤال. فقد سمحت له صورة الإله المستبد في بعض جوانب التراث الإسلامي والفرعوني أن يعمق فهمه للاستبداد لا كمحض فعل سياسي بل كتجلي لصورة العالم التي نحملها في رؤوسنا، مما يعني رهن الحل السياسي لمعضلة الاستبداد بالحل الفكري الطامح لتجاوز صورة الإله المستبد، هذا الموجود في كل مكان حد أنه يسكن حتى علاقتنا الجنسية فيؤسس الهرمية في عمقها.
وقد بدأت محاولات نجيب تجاوز هذه الصورة منذ الثلاثية عام 1956، فقد قال على لسان كمال الوفدي المشغول باستبداد الأب والسياسة والدين: «أريد تخليص الله من صفات الاستبداد». حيث يطمح لإعادة رسم صورة الله بشكل يخلصه من صفات القهر التي أحاطه بها الناس. لكن بينما تتم المحاولة هنا على شكل مونولوج ينطق به كمال، و يذكر ربما بالنزعة التضخيمية للأنا التي تلتهم كل الرواية وتسكت أصوات شخوصها مذكرة باستبداد النزعة البلاغية وقيامها على: إرادة الفرد الذي يملي يقينياته، لا على: الحوار الذي يكشف الحقيقة رويدا؛ فقد أخذت هذه المحاولة شكلا دراميا حواريا في رواية لاحقة هي «العائش في الحقيقة» عام 1985.
لكن قبل الحديث عن العائش في الحقيقة، علينا أولا الحديث عن «حضرة المحترم» عام 1975.. هذه الرواية ترسم صورة لموظف مصري «عثمان بيومي» مستوعب تماما في إطار الاستبداد الاستعماري والحكومي، استعيابا يذكرنا بما يسميه بورديو «مفارقة المعتقد» أي قبول من يهمشهم معتقد ما لهذا المعتقد. وقد أهلته لهذا الاستعياب صورة العالم التي يحملها هذا الموظف في رأسه والتي يقف على قمتها إله قاس وعنيف «خلق النجوم لا لتنير لنا و لكن ليعذبنا»، حيث «الهرمية المطلقة» ونفي فعالية الأفراد سوى في تقديم قرابين الدم والعمر للآلهة القاسية البعيدة = هي شيء كامن في جوهر الوجود نفسه يحول الإنسان لعبد منسحق تحت قدم أي إله. يهذا يصبح عثمان محض موظف، وتصبح الإدارة «حضرة إدراية عليا»، فالله لا تعلم حضرته إلا بالقياس على حضرة السلطان كما قيل، حيث الله سلطان العالم المستبد في مثل هذا التصور.
بهذا يكون نجيب في هذه الرواية قد وضع يده على أساس الاستبداد والمتمثل في صورة العالم المسكونة بالهرمية رديفة الإله المستبد، ما يمهد لتجاوز هذه الصورة دراميا في العائش في الحقيقة، حيث يرسم لنا فيها صورة أخرى للعالم خالية من الهرمية ومن هذا الإله المستبد.
تدور الرواية حول النبي إحناتون ودعوته التوحيدية، ويرسم لنا نجيب صورة هذا النبي المارق ذا الملامح الأنثوية الذي تزوج امرأة من عامة الشعب لا من ذوات الدم الملكي، وحكمه السياسي القائم على النزول وسط الناس دون احتجاب وغياب، ونبذ الحرب ومظاهر العنف والدعوة للسلام، وهذا الاختلاف في إدارة المملكة بين اخناتون ومن سبقوه من فراعنة والذي أثار عليه قواد الجيش، يتجاوب تماما مع تجديده الديني المبني على نسف عبادة الآلهة القاسية البعيدة وطقوسها المعقدة وكهنتها المستبدين وصورة عالمها الهرمي، والدعوة بدلا من هذا لعبادة إله واضح قريب لا يحتاج لطقوس سوى الغناء والإنشاد، مما يعني رهن تجاوز الاستبداد السياسي بتجاوز الإله المستبد وصورة العالم الهرمية. كذلك فإننا في هذه الرواية نرى بوضوح ما اعتبره عبد الرزاق العيد ميزة الرواية المحفوظية، أي خفوت صوت الراوي، فصوت الرواي العالي هو نفسه بقاء للاستبداد «كإله الفقهاء الفضولي الذي يمسك بتلابيب الناس متدخلا حتى في خلواتهم في بيت الخلاء»؛ لذا فإن بقاءه (أي الراوي) في الرواية العربية دليل على فشلها في استخدام طرق تعبير جديدة لتغيير صورة العالم التي ورثتها من الميراث الثقافي العربي: «يبدو أن الميراث الثقافي العربي يلعب دورا هاما في صياغة بنية المخيال الروائي في الرواية العربية، فعلاقة الله بالبشر فقهيا يؤسسها الفقهاء على علاقة تدخل واسعة في شئون العباد و تفاصيل حياتهم اليومية».
في العائش من الحقيقة، لا نجد هذا الرواي شديد التدخل في كل التفاصيل، ذا الصوت العالي والمهيمن على المصائر والحقائق عبر أفكاره المسبقة؛ بل يختفي هنا صوت الرواي العليم امتداد المؤلف/الإله هذا لصالح «بطل» الرواية وراويها الذي يقف إلي جوار الجميع بمن فيهم «القارئ» باحثا عن حقيقة الملك المارق. تتكشف له -تماما كالقاري- المعرفة تباعا وعبر حوار مع كل أصوات قصة نبي التوحيد «الزوجة والكهنة وقواد الجيش والمحظيات»، ما يعني أننا أمام تجاوز سردي للاستبداد ينضاف للتجاوز المضموني الذي تحدثنا عنه، فرواية «العائش في الحقيقة» عبر شكلها ومضمونها ترسم صورة جديدة للعالم تختفي منها الهرمية كصيغة وحيدة لعلاقة الله/العالم، الحاكم/المحكوم، المؤلف/القارئ.
الرواية بعد المحفوظية
نستطيع أن نلاحظ كذلك في بعض الأعمال بعد المحفوظية مثل هذه المحاولة الطامحة لتجاوز الاستبداد السياسي عبر خلخلة صورة العالم وصياغتها بصورة جديدة يختفي منها أثر الهرميات. نشير هنا، حتى لا نطيل، لعملين معاصرين هما: «واحة الغروب» لبهاء طاهر 2008، و«يوم غائم في البر الغربي» للمنسي قنديل 2010.
في واحة الغروب يتناول بهاء طاهر قصة محمود أحد ضباط ثورة عرابي المهزومة، والذي يتم إرساله للواحات في محاولة الدولة مد سيطرتها على هذه المناطق النائية، أو في محاولة من الاستبداد الذي لم تسطع الثورة تجاوزه استخدام محمود نفسه في إعادة إنتاجه بإخضاع سيوة دون محاولة لفهم أفكار أهلها وطريقة حكمهم لذاتهم حيث لا تفترض العلاقة الهرمية بين الدولة والناس أي اعتبار لوجود هؤلاء أو لتنوعهم.
كما يخترق هذا الاستبداد غير المنهزم العلاقة الجنسية بين محمود وكاترينا فيحولها لعلاقة هرمية حيث يصبح محمود شخصا لا يهمه سوى متعته ولا يعطي كاترينا ما تحتاجه من متعة. وتنتهي الرواية بمشهد تفجير محمود لمعبد الإسكندر الأكبر هذا الذي حكم مصر كالفراعنة عبر الخوف، والذي أعلن من سيوة انه ابن آمون، إله الكهنة وقدس الأقداس الذي أعلن إخناتون حربه عليه، مما يجعل محمود أحد أبناء إخناتون؛ هؤلاء الذين أدركوا أن تجاوز استبداد السياسة لن يكون سوى بقلب المعبد!
أما في «يوم غائم» فإن مصطفى كامل يعلنها بكل بساطة: «لن يحكم المصريون أنفسهم إلا إذا كانوا في قلب الصورة». ولم يكن المصريون يظهرون في الصور المنقوشة في مقابر الملوك، لكنهم ظهروا في مقبرة اكتشفها هوارد -على بعد صفحات من جملة مصطفى كامل- هي مقبرة توت عنخ آمون ابن إخناتون المارق ووريث جسده الأنثوي وابن زوجته الشعبية. مرة أخرى يرتبط تغيير حال المصريين وتجاوزهم الاستبداد السياسي بذكرى إخناتون نبي إله الرحمة ومدمر معبد آمون.
وقد قامت الرواية المصرية بتحقيق هذه الفضيلة الآتونية بإعادة رسم الصورة ووضع المصريين في قلب نقوشها لا الملوك والكهنة. حققت هذا عبر بنائها السردي متعدد الاصوات الذي أعطى حق الكلام للمهمشين غير المعبر عنهم في الشعر مثل الفلاحين. من أهم الأعمال في هذا السياق، ما قام به يحيى حقي في «خليها على الله» و«البوسطجي» وغيرهما من إعطاء الحق في الكلام لمن هم خارج النخب الفكرية والسياسية؛ فتم إعطاء الفرصة للفلاحين للتعبير عن تصوراتهم الخاصة تجاه السلطة ونوابها وطريقة تعاملها معهم، حاكين رواية أخرى تختلف مع رواية السلطة ونخبها عن كسل الفلاحين ولؤمهم وتحملهم وزر تعطيل التحديث.
كما كان يوسف إدريس صوت من لا صوت له بتعبير أصلان يكتب عن عمال التراحلية (كما في «الحرام») ومرضى القصر العيني والفقراء الذين لم يفقدوا بفعل القهر خصوصية أجسادهم فحسب، بل كذلك فقدوا خصوصية أوراحهم و تحولوا لـ«بيت من لحم». إلى جانب أعمال البساطي ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبد المجيد وخيري شلبي وغيرها من أعمال أعادت رسم الصورة وفي قلبها رواية المصريين أنفسهم عن أنفسهم في مواجهة رواية السلطة والمثقفين.
هذا التتبع السريع لمسار تعامل الرواية المصرية مع معضلة الاستبداد، يبين ما كنا نتحدث عنه من سبق الرواية للفكر في أحيان كثيرة. فبينما اقتصر تعامل المفكرين الكبار مثل الكواكبي وعبده مع هذه المعضلة على أحد حلين: إما تقييد الاستبداد عبر البرلمانات والدساتير، أو تقييده عبر استنارة المستبد، أي على المعالجة السياسية لمعضلة الاستبداد والتي بدورانها داخل هذه الازدواجية بتعبير أومليل تعجز عن تجاوز الاستبداد عبر إعادة تأسيس الظاهرة السياسية كلها على التعدد؛ لأن هذه الإعادة وخلق التعدد في قلب الظاهرة السياسية رهن بإعادة رسم صورة العالم وتجاوز الهرمية والأحادية التي تسكنها.. فإننا نرى الرواية منذ نجيب محفوظ تجاوزت هذا التعامل، وسعت لتجاوز الاستبداد انطولوجيا (وجوديا) عبر تأسيس شكل جديد لصورة العالم تنتنفي منها كل هرمية وتصلح وحدها أساسا لتنظيم جديد للظاهرة السياسة مسكون في أصله بالتعدد. وقد حققت الرواية هذا سواء عبر مضمونها أو عبر تقنياتها السردية المتجاوزة للنزعة البلاغية التضخيمية والمفتتة -بتعدد أصواتها- طغيان صوت المؤلف.
فعبر قتل الإله المستبد الذي خلق العالم من فوق قمة هرمه ليعذبنا أو لتجري مشيئة منه غير معلومة، يتحرر وجه الإله الذي خلق العالم كي يُرى ويخرج كنوزه المخفية. هناك فحسب يكمن حل معضلة الاستبداد، تلك هي الحكمة التي قدمتها الرواية العربية.
[1] نستخدم هذا التعبير بالمعنى الذي يستخدمه ولتر ستيس في كتابه “الدين والعقل الحديث” والذي يعني به مجموعة من الأفكار العامة عن طبيعة العالم و مكان الإنسان فيه. و هي صورة توجد متناسقة إلى حد ما في فكر الفلاسفة والعلماء و إن كانت تعمل عند معظم الناس بطريقة حفية بوصفها الخلفية المعتمة لأذهانهم، وغالبا صورة العالم تنتمي لحقبة ما، وتتغير بإستمرار، فتطور التاريخ هو تغير صور العالم، ص23.[2] وإن كان هذان المصطلحان لم يأخذا شكلهما الأكثر دقة ولم تتحدد جغرافية محتوياتهم إلا متأخرا مع أحد قمم الفكر النهضوي والمعبر بكتاباته عن متناقضاته وطموحاته ومآلاته و هو زكي نجيب محمود، لكن مضمونهم الواقعي المتمثل في صراع التراث مع الوافد موجود من أول لحظة حضر فيها الفكر الغربي عربيا.[3] الأدبية السردية كفعالية تنويرية، عبد الرزاق العيد، ص20.[4] كذلك حرص الحكيم على الربط بين المسرح و المدينة ليبرر عدم ترجمة العرب للمسرح اليوناني في حركة الترجمة الكبيرة التي تمت لليونانية.[5] الإصلاحية العربية والدولة الوطنية، علي أومليل، ص193.