زيارات العرب للقدس: هل غيرت واقع المدينة وأنهت التهويد؟
هكذا افتتح الرئيس الفلسطيني محمود عباس كلمته خلال القمة العربية الثالثة والعشرين المنعقدة في بغداد عام 2012، مُطالبًا بدعم صمود أهلها، وأعاد هذا الطلب حالة الجدل حول «زيارة العرب والمسلمين للقدس» إلى الواجهة، خاصة وأن تلك الزيارات تتزامن مع استمرار إسرائيل في إجراءاتها بابتلاع كل ما هو إسلامي في القدس عبر الاستيطان والتهويد.
فهل السياحة العربية يمكن أن تؤدي وظيفة الإنعاش للاقتصاد المقدسي الذي عمد الاحتلال إلى تدميره منذ أن وطأ ثراها؟، أم أنها تخدم التطبيع الذي تُريده إسرائيل مع العالم العربي وتخدم استمرار نهج الاستيطان والتهويد؟.
زمن السادات وما بعده
في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977 كانت المفاجأة التي هزت البرلمان المصري بإعلان الرئيس محمد أنور السادات استعداده لزيارة القدس والكنيست الإسرائيلي، وما لبث أن نفذ إعلانه في العشرين من ذات الشهر، حينها وقف أمام أعضاء الكنيست الإسرائيلي يدعو لسلام قائم على العدل، بل وأكثر من ذلك فعرض استعداده قبول كافة الضمانات التي تحتاجها إسرائيل لتحقيق ذلك السلام.
مثّلت الحادثة أولى خطوات التطبيع في العلاقات السياسية مع الاحتلال الإسرائيلي، وكانت ضربة قاسية خاصة وأن مناحيم بيغن، رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتها، كان قد أعلن أنه لن يعود لحدود 1967 ولن يعترف بالدولة الفلسطينية، كما وأنه لن يقبل بإجراء أي اتصال مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وبرغم ذلك لم يتوانَ السادات عن الزيارة والدخول إلى القدس عبر البوابة الإسرائيلية المحتلة والوقوف في الكنيست ليُنادي بسلام عادل لم يتحقق أبدًا، وبحسب محمد حسنين هيكل في كتابه «زيارة جديدة للتاريخ»، فإن زيارة السادات عمدت إلى التلاعب بالتعبئة العقلية والفكرية والنفسية للمصريين وفكت أوصالها بانتظار السلام الذي لم يأتِ ولم يُحقق لهم تاليًا الحرية والرخاء الاقتصادي المنشود، ولم يُعد إليهم سيناء كاملة بل منقوصة، كما لم يُعد للفلسطينيين أراضيهم التي استُبيحت من قبل الاحتلال.
وعلى مدار السنوات توالت زيارات شخصيات عربية بارزة للقدس المحتلة منهم من أتاها بوفد دبلوماسي لأهداف سياسية ومنهم من أتاها مُنكسًا رأسه حزنًا على رحيل رئيس الوزراء الإسرائيلي «إسحق رابين» في نوفمبر/تشرين الثاني 1995 للمشاركة في تشييع جثمانه كالرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك والذي ألقى وقتها خطابًا مُؤثرًا بحق رابين، ووصف اغتياله بـ «الضربة القوية» للأهداف الإستراتيجية في التقارب والتعايش السياسي بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خاصة وأنه أسس للسلام وأوجد جوًا من الثقة والاحترام المتبادل بين إسرائيل والبلاد العربية.
لكنّ الفارق في زيارة الشخصيات العربية إلى القدس كانت الطابع الديني الذي بدأت تتخذه منذ عام 2012 بزيارة «علي جمعة» مفتي الديار المصرية السابق في 18 إبريل/نيسان، فكان أول شخصية دينية تزور القدس مما فتح باب الجدل خاصة في ظل التحريم السابق من الداعية يوسف القرضاوي للزيارة تحت لواء الاحتلال الإسرائيلي باعتبارها تطبيعًا يُضيع حق المسلمين والفلسطينيين.
وبعد عامين فقط وخلال سبتمبر/أيلول 2014 زار الشيخ «صباح الخالد الحمد الصباح» وزير الخارجية الكويتي المسجد الأقصى والقدس في إطار العلاقات الأخوية المميزة التي تربط الكويت وفلسطين، وتحدثت وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا» وقتها أن الزيارة تاريخية، وأنها استجابة لدعوة الرئيس الفلسطيني محمود عباس العرب لزيارة القدس خلال القمة العربية الثالثة والعشرين في بغداد 2012، وتم خلالها بحث الدعم الكويتي للخطوات السياسية التي تقوم بها السلطة لإنهاء الاحتلال وسبل سعيها لإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
ولن تكون زيارة البابا «تواضروس الثاني» بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية آخر زيارات العرب إلى القدس، بل سيتبعها الكثير في ظل التهاون في حفظ عروبتها وإسلاميتها وفلسطينيتها، وكان البابا تواضروس الثاني زار القدس في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 بهدف الصلاة على الأنبا أبراهام مطران القدس، غير أن الكنيسة الأرثوذكسية قالت في بيان لها إن وجود البابا تواضروس الثاني ليس سياسيًا وإنما لتأدية واجب إنساني بحت.
الزيارات بين التطبيع والدعم
ظلت زيارة العرب للقدس وخاصة المسجد الأقصى تحت راية الاحتلال الإسرائيلي محل جدل وخلاف بين معارضيها ومؤيديها؛ فالفريق الأول يرى أنها تطبيع ويُبدي اعتراضًا على بعض الزيارات التي تقوم بها شخصيات سياسية ودينية، بينما الفريق الثاني يرى أنها دعم لصمود المقدسيين، وتسعى إلى تثبيت وجود المقدسيين في وجه الإجراءات الإسرائيلية المُحرضة على التهويد وإفراغ المدينة منهم.
وبدأت هذه الزيارات تزداد بعد مطالبة الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال القمة العربية الثالثة والعشرين في بغداد عام 2012 العرب بزيارة القدس لدعم صمود أهلها، وهو ما اعتبره الكاتب الإسرائيلي «نير حسون» مكسبًأ للاقتصاد الإسرائيلي، وقال في مقال له نُشر في صحيفة هآرتس مطلع إبريل/نيسان 2015:
كما وأصدرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية تقريرًا بأعداد صادمة للزيارات، إذ شهدت القدس خلال العام 2014 وصول (26.6) ألف زائر من إندونيسيا، وقُرابة (3300) من المغرب، وحوالي (9000) زائر من ماليزيا و(23) ألف زائر من تركيا و(17.7) ألف زائر من الأردن، وبيّن التقرير أن الأنظمة العربية والسلطة الفلسطينية كانت مُشجعة لتلك الزيارات استنادًا لفتاوى سياسية صادرة عن جهات إسلامية.
لكن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي يُصر على تحريم زيارة غير الفلسطينيين للقدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وقال:
وكذلك تُحذر مؤسسة القدس الدولية من تلك الزيارات، إذ ترى أنها تُمهد الذهنية العربية والإسلامية للتنازل عن قضية القدس وعن الثوابت الفلسطينية، ويقول مديرها «ياسين الحمود»: «إن زيارة العرب دليل دامغ على قبول مبدأ تبادل الأراضي مع الاحتلال»، خاصة وأنها تكون من قبل شخصيات رفيعة المستوى.
والحال لم يكن مختلفًا لدى رئيس الحركة الإسلامية في الداخل المحتل «الشيخ رائد صلاح» الذي يؤكد وجوب تحرير القدس والمسجد الأقصى والعمل على نصرة أهلهم لكن بعيدًا عن التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، رافضًا رفضًا قاطعًا دعوة الرئيس محمود عباس للعرب بزيارة القدس والأقصى باعتبارها «خدمة مجانية للاحتلال تصب في مصلحته وتُكرس سيادته الباطلة عليهما».
حقيقة تحسين واقع المدينة الاقتصادي
تتنوع أسباب المؤيدين أو الداعين لزيارة العرب مدينة القدس عبر البوابة الإسرائيلية، والهدف هنا كما يُخبرون «تحسين الواقع الاقتصادي للمدينة»، ما يُسهم في تعزيز وجود وصمود أهلها في الحيز الجغرافي، من أولئك كان «فادي الهدمي» مدير الغرفة التجارية الصناعية العربية بالقدس الذي يرى أن الفائدة الاقتصادية التي يُمكن أن تجنيها مدينة القدس وأهلها تأتي عبر بوابة الاستثمار العربي في المدينة، خاصة في ظل حالة من التنافسية مع الخدمات التي تُقدمها المرافق والحوانيت اليهودية في القدس الغربية للسُياح الوافدين إليها، مما يُسهم في إحداث حالة من الإنعاش الاقتصادي.
فيما تُصر «عفاف الدجاني»، الناشطة المقدسية والتي ترأس إدارة جمعية «دار الرعاية الصحية والاجتماعية لرعاية الأيتام» في القدس، على أن زيارة العرب للمدينة المُقدسة من شأنه أن يفك قيد الحصار الإسرائيلي عليها، ويُشجع السياحة في أرجائها، بالإضافة إلى تصديها لإجراءات الاحتلال بالاستحواذ على السياح الأجانب والأوروبيين وتعريفهم بوجه المدينة وفق رؤيتهم الاستعمارية، وتتساءل: لماذا لا يستفيد التاجر المقدسي المُتخم بالضرائب من زيارة العرب للقدس، فيُحسن وضعه الاقتصادي وفق زيادة فرص البيع لما لديه من تحف ونثريات وأعمال يدوية جميعها تُعرف بفلسطينية المدينة ومكانتها الدينية والتاريخية؟.
وفي إطار تحقيق رؤيتها لا تترك «الدجاني» فعالية رسمية تُنفذها مؤسستها إلا وتدعو لها الأدباء والفنانين العرب للمشاركة فيها، لكن «جميعهم يرفضون وضع ختم إسرائيل على جوازات سفرهم خشية من الاتهام بالتطبيع».
ويقف «جمال عمر» المختص في شئون القدس موقف المُحايد من مسألة زيارة العرب للقدس، فهو يرى أنها ليست تطبيعًا ولا تُعد حرامًا، إذا ما كانت من المواطنين العرب المُناصرين للحقوق الفلسطينية ولقضاياهم بشكلٍ عام، وفيما عدا ذلك كالشخصيات الرسمية الهامة والبارزة التي تحتاج إلى تنسيق مع الاحتلال قبل دخولها فهذه يجب الحذر منها لما تنطوي عليه من علاقات تطبيعية مع المحتل الإسرائيلي وما تُمثله من اعتراف فعلي بإسرائيل، خاصة وأن الاحتلال يُجبر أولئك دخول المسجد الأقصى من باب المغاربة للتأكيد على سيادته وسيطرته على القدس والمسجد الأقصى.
هل استفاد الفلسطينيون؟
اللقاءات التي أجرتها «إضاءات» مع نُشطاء ومواطنين أكدت نفي الاستفادة عن المقدسيين لصالح الاحتلال الإسرائيلي خاصة على المستوى الاقتصادي، إذ قال «فخري أبو دياب» الناشط المقدسي: «إن زيارات العرب لا تدعم أهل القدس لا على المستوى الاقتصادي ولا على المستوى الوجودي»، فالزائرون لا يقضون أكثر من يومين لزيارة المسجد الأقصى والأماكن التاريخية والحضارية في المدينة المُقدسة.
وهو ما يجعل حجم الاستفادة المادية لأهل القدس مما يُنفقون ضئيلًا، ناهيك عن استحواذ الأدلاء السياحيين الإسرائيليين عليهم وتحريضهم على عدم الشراء من الأسواق العربية وتشجيعهم للانتقال للجزء الغربي من المدينة الذي يملك فيه الاحتلال معظم المرافق والفنادق التي يُمكنها استقبال السُيّاح، ما يجعل الاستفادة ضئيلة جدًا للفلسطينيين وكبيرة للبنية التحتية الاقتصادية والسياحية الإسرائيلية عبر تنشيط عمليات الشراء وإدخال العملة الصعبة للاقتصاد الإسرائيلي مقابل خدمات الإقامة أو ركوب المواصلات أو التسوق من المراكز التجارية.
ووفقًا لأرقام حصلنا عليها من «معهد القدس للدراسات الإسرائيلية» فإن قطاع السياحة الفلسطيني واجه ركودًا منذ احتلال المدينة عام 1967، إذ انخفضت الحجوزات الفندقية في القدس الشرقية من 60% إلى 40% خلال الأعوام من 1968-1979، وذلك لصالح الحجوزات السياحية في القطاع الفندقي الإسرائيلي بنسبة 20%، واستمرت الزيادة خلال ثمانينيات القرن الماضي ووصلت نسبة الحجوزات لدى قطاع السياحة الإسرائيلي في القدس الغربية إلى 80%.
والناظر لتاريخ القدس يجد أن الأسباب لا تعدو الإجراءات العقابية التي فرضتها إسرائيل على المدينة المقدسة منذ احتلالها وتصاعدت خلال الانتفاضتين الأولى والثانية، والتي لم تُراوح إرهاق المقدسيين بالضرائب الباهظة واللامتناهية إضافةً إلى سياسة حظر التجول، ناهيك عن جدار الفصل الذي بدأت إسرائيل ببنائه عام 2002.
ذلك كان كفيلًا بتدمير القطاع السياحي الفلسطيني في القدس الشرقية وانخفاض عدد الفنادق فيها إلى النصف، في وقت يتمتع القطاع السياحي الإسرائيلي بدعم الحكومة، ما جعلها تجذب السياح للإقامة فيها، وبالتالي استأثرت بالعائدات المالية جميعها.