الفهم العربي للمؤامرة
في مسلسل الرسوم المتحركة الشهير «ناروتو»، تظهر في النصف الثاني من المسلسل شخصية اسمها «أوبيتو»، أوبيتو هو شخصية مضطربة نفسيا وناجية من الموت بأعجوبة، وكبر وهو يشعر بكره شديد تجاه الشر في هذا العالم، فرأى أوبيتو أن الحل الأمثل للقضاء على الشر هو إلقاء تعويذة على القمر، تجعل كل من ينظر إليه مسيّراً من قِبل أوبيتو، ويجبرهم أوبيتو بذلك أن يتصرفوا بتصرفات خيّرة، لكن بالرغم عنهم، لا بإرادتهم.
مما لا شك فيه، أن هذا النوع من التحكّم، ليس موجوداً إلا في القصص الوهمية، فالتحكّم في تصرفات الناس، حتى وإن كان موجوداً، فهو تحكّم واعٍ، بمعنى أن الشخص المتحكَّم به يشعر تمامًا بحقيقة كونه مسيّراً. أما الشارع العربي فيبدو أن له رأياً مختلفاً بهذا الشأن، ففكرة الفرد العربي عن نظرية المؤامرة ليست عن مجموعة من المتنفذين وكبار الشأن الذين يسعون لتوسيع نفوذهم فحسب، بل وتمتد لتصور نظرية المؤامرة على أنها أشبه ما يكون بالتنويم المغناطيسي، فالفرد العربي ينظر لتدخل «الغرب» في شؤونه على أنه أمر لا مجال للنقاش فيه، فإذا أرادت «أمريكا» أو «إسرائيل» أو اليهود، أو حتى «هم»، أمراً ما، فإن أمرهم نافذ لا محالة، كأن المجتمع الدولي قد نوّم صانعي القرار والحكومات العربية تنويماً مغناطيسياً، متناسين بذلك صراع المصالح بين الدول والبروتوكولات الكثيرة والمملة التي يتم من خلالها تفيذ القرارات السياسية والاقتصادية.
بالطبع ليس بالإمكان لعب دور المتَآمر عليه دون وجود نتيجة واقعية على الأرض لهذا التآمر، وخير نتيجة للمؤامرة ضد الشعوب العربية هي قضية فلسطين، فالفرد العربي بعد احتلال فلسطين، وحروب 48 و67، أصيب بصدمة عارمة، ورأى المؤامرة أمام عينه عندما عجزت جيوش العرب الجرارة عن استرداد دونم واحد من أراضي فلسطين، وأدى ذلك إلى حالة من المظلومية جعلته يفسر حرب العراق مع إيران، ومن بعدها حرب الخليج، ومن ثم الغزو الأمريكي للعراق، على أنها أطماع يهودية فيما يملك المسلمون، وعزز ذلك كون صدّام حسين – بمواقفه الشكلية المناصرة للقضية للفلسطينية – حاضراً في هذه المشاهد جميعها، مما صور الأزمات العراقية الثلاث على أنها محاولة للتخلص من «صدام حسين» حامي حمى القضية الفلسطينية، جاعلاً هذه الأزمات مرتبطة بشكل أو بآخر بإسرائيل والأطماع اليهودية.
لا تكاد تخلو جلسة عائلية أو حلقة نقاشية أو حوارية لمجموعة من المسنّين من مصطلحات كـ «اللوبي الصهيوني» أو «النخبة السرية التي تدير العالم» ومرادفاتها، كأن اليهود يستطيعون بكبسة زر تغيير العالم، متناسين بذلك التاريخ العريق لليهود في الشتات والكره من قبل الشعوب والحكومات الأخرى، ومدى تأزّم وضع اليهود – ممثلين بإسرائيل – بالرغم من نفوذهم حالياً. فلو كان اليهود بهذا التنفّذ وهذه القدرة على السيطرة على الشعوب والحكومات، فلماذا لا يسعون إلى جعل وضع إسرائيل أكثر استقراراً؟ أو أن يأمروا الحكومات العربية بحرق المقاومة الفلسطينية عن بكرة أبيها؟
في بداية عام 2011، بدأت الثورات تعم أرجاء البلاد العربية، الربيع العربي أعطى العرب أملاً بأن سردية المظلومية والمؤامرة التي اقتاتوا عليها طيلة القرن العشرين قد تؤول إلى زوال، إلا أن فشل الثورات العربية عموماً، وثورتي مصر وسوريا خصوصاً، أكد للـ «مؤامراتيين» أن هذه المؤامرة، أو «النخبة المديرة للعالم»، متنفذة وقوية لدرجة أنها استطاعت الإطاحة بأعظم نماذج الحرية منذ الانتفاضة الفلسطينية الأولى على أقرب تقدير، بل وذهب البعض إلى أن الربيع العربي نفسه ما هو إلا جزء من هذه المؤامرة التي تحاك بإتقان في واشنطن وتل أبيب، وأجج هذه الاعتقادات تحوّل الثورة السورية إلى ثورة مسلّحة، والتدخّل الخارجي غير الرسمي فيها، مما جعلها في نظر المتابعين ساحة تمثل استمرارية المؤامرة و وتؤكّد كونها عصيّة على الحل.
كذلك مما زاد رسوخ هذه القناعات ورود تصريحات – بعضها صحيح ومعظمها مكذوب – من سياسيين أمريكيين وإسرائيليين تؤيد الحكم الانقلابي في مصر، وصارت جمل كـ «السيسي صديق أمريكا في مصر» حجة يصعب مساءلتها بأن أمريكا وراء الانقلاب المصري.
هذا النمط من التفكير ليس مقتصراً على الأجيال الكبيرة التي عاصرت الأزمات العربية أزمة تلو الأخرى، بل امتدّ ليطال أبناء هذا الجيل، فمنذ بزوغ نجم «داعش» امتلأت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات من طراز «داعش صناعة أمريكية» معللين ذلك بحقيقة أن داعش ظهرت فجأة في الساحة العربية، وما يظهر فجأة لا بد أن يكون صنيعة أمريكية!
المضحك المبكي في هذه المسألة أن داعش كانت موجودة منذ سقوط بغداد في 2003 لكن لم يكن يسمع بها إلا المهتمون والمحللون ودارسو الجماعات الاسلامية، وبالرغم من تأليف الكتب والمقالات التي تدرس ظاهرة داعش وتؤرخ لهم، إلا أن الشارع العربي بعمومه يرمي بهذه الكتب والجهود البحثية عرض الحائط، ويتجاهل الساعات التي يظهر بها الأستاذ حسن أبو هنية أو أحمد أبا زيد على شاشات القنوات العربية محللين الوضع السوري فيما يخص داعش وغيرها من الجماعات الاسلامية، لأن داعش على ما يبدو صنيعة أمريكية.
إن السعي إلى ربط الأحداث العربية البائسة بالمؤامرات الخفية بهذا الشكل، ما هو إلا نتاج الأزمات المتتالية على الشعوب العربية، والمسلمة منها خصوصًا، إضافة إلى رداءة الظروف المعيشية، وحالة المظلومية التي يروج لها الكثيرون. تعليق كل ما يحدث في المنطقة العربية على شماعة المؤامرة ما هي إلا حيلة نفسية يلجأ إليها الفرد العربي ليخلّص نفسه من مسؤولية النهوض بالوضع العربي، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي، فما يحدث خارج إرادتنا ليس لدينا يد في إصلاحه، وما دامت الأمور في يد أمريكا وإسرائيل وفي يد المكاتب المغلقة، فأنّى لنا نحن العوام أن نتدخل بها؟
كما ومن الملاحظ تكرار مصطلحات معينة في السياق المؤامراتي تشعرك مباشرة أن كاتب النص يفكر بهذه الطريقة، فلا بد أن تجد كلمة «الماسونية» مرة أو مرتين، أو أن تجد مصطلحات منحوتة بعناية على شاكلة «المدّ الإمبريو صهيو قطرو أردوغانو إيرانو سعودي» كمحاولة لجمع كل المتآمرين في اسم واحد، أو أن ترد كلمات ك«المكاتب المغلقة» كإشارة إلى المتآمرين.
المؤامرة موجودة بالفعل، لكنها ليست تنويمًا مغناطيسيًا، وليست تُحاك في الخفاء، فنحن نراها تحاك على شاشات التلفاز يومياً بوضوح. هي ليست عصيّة على الفهم، وهي ليست «كبسة زر» تحول جميع الدول العربية إلى خراب، وهي ليست كقمر «أوبيتو» تجبر كل من ينظر إليه أن يتصرف كما أراد «أوبيتو». هي مؤامرة خاضعة لظروف السياسة والاقتصاد التي نعرفها – أو نستطيع أن نعرفها – جميعاً، وقد تكون محاولات إيقافها صعبة للغاية، لكنها حتماً ليست مستحيلة.