المجتمع والدراما العربية في «منعطف خطر»
لقد استطاع مسلسل «منعطف خطر» كواحد من المسلسلات البوليسية التشويقية أن يجذب جمهور المنصات الإلكترونية، لمتابعة ذلك العمل الذي يتميز بعنوانه الفصيح والغامض، الذي أطل به المخرج السوري الشاب «السدير مسعود» على الجمهور المصري، بعدما بدأ مشواره الفني، عام 2014، كوجه جديد -وهو في العشرين من عمره، وذلك تحت رعاية والده الفنان «غسان مسعود»، ثم إذا به يتجه إلى الإخراج الذي درسه في الجامعة اللبنانية الدولية، بعد أن اشترك مع والده في عدة أعمال تمثيلية، كان آخرها المسلسل البوليسي التشويقي «مقابلة مع السيد آدم» عام 2020.
في العام الماضي (2021)، استطاع ذلك الممثل الناشئ أن يُقدم -بعيدًا عن التمثيل- أول أعماله الإخراجية، وهو المسلسل السوري «قيد مجهول»، الذي يدور في إطار بوليسي حول التحقيق في جرائم قتل، ثم في العام التالي (2022) قدّم المسلسل المصري البوليسي «منعطف خطر»، الذي حقق نسبة مشاهدة عالية، ونال قدرًا لافتًا من الاستحسان.
إن المنعطف في أي طريق هو مكان انحرافه أو منحناه ومُنعرَجه، والمنعطف الخطر هو ذلك المنحنى الضيق الذي يتغيّر به اتجاه الطريق. ومن خلال أحداث مسلسل «منعطف خطر» نتبين وجود منعطف ما خطر في حياة شخصيات العمل، خصوصًا المشتبه بهم في جريمة القتل، وعلى رأس هؤلاء «جمال الوكيل»، والد القتيلة، الذي قام بدوره الممثل المصري «باسم سمرة»، فبعد أكثر من عشرين عامًا استطاع على مدارها أن يُكوِّن أسرة، بعد ارتباطه بامرأة أحبها فأصبحت له تلك الزوجة الطيعة هادئة الطباع التي تكرس جُلَّ وقتها لأبنائها وبيتها، لم يكن يخطر ببال «عتمان» أن كل ما قام ببنائه تحت اسم «جمال الوكيل» سوف ينهدم في لحظةٍ ما بيده هو وليس بيد أحدٍ سواه. ولكن الفاجعة كانت قسوتها أشد وأكبر عليه.
دراما الجريمة والأعمال المقتبسة
لا شك أن الأعمال البوليسية التشويقية هي من أكثر الأعمال الدرامية الجاذبة لعدد كبير من الجمهور، بخاصة المراهقون والشباب، وهذه النوعية من الأعمال كلما كانت مثيرة وتحوي قدرًا كبيرًا من الغموض، استرعت انتباه المشاهد وحفزته على التفكير، من أجل اكتشاف الجاني. فهل الإثارة والتشويق وحدهما كافيان كي يكون ذلك النوع من الأعمال الدرامية يحوي قدرًا كبيرًا من الإبداع والقيمة الفنية؟
في ظل ارتباط الأعمال البوليسية بالجرائم، التي بالقطع لا تخلو من القتل (وهو الجريمة الأقدم والأبشع على وجه الأرض)، ومن خلال رحلة رجال التحقيق من أجل البحث عن الجناة وحل لغز الجريمة، لا بد من توفر عنصري التشويق والإثارة بهدف إمتاع المشاهد، ولكن هذا لا يمنع من تسليط الضوء على أحوال المجتمع الذي ارتكبت فيه الجريمة، وما يمكن أن يحويه من تشوهات ومشاكل أدت إلى كثير من الرذائل، ومن ثَمَّ أفضت إلى ارتكاب جرائم عديدة.
ومسلسل «منعطف خطر» أثار العديد من القضايا التي تستحق أن يتم تقديمها برؤية أعمق مما قُدمت به؛ فلا يتم الاكتفاء بإلقاء نظرة علوية على جزء ما من المجتمع وما به من سلبيات، من خلال جريمة قتل يتتبعها رجال المباحث الجنائية على مدار حلقات العمل الـ15، التي تضمنت جرائم قتل أخرى.
لقد تمكن مخرج العمل من إدارة مواهب الممثلين، فظهروا جميعًا في أفضل حالاتهم الفنية، مما جعل المسلسل نسخة مميزة من المسلسل الأجنبي (المُقتبس منه) The Killing، وهو بدوره النسخة الأمريكية من المسلسل الدنماركي Forbrydelsen، والذي يعني بالإنجليزية «الجريمة»، ويعود إنتاجه إلى عام 2007.
ولأن السيناريست الشاب «محمد المصري» اقتصر دوره على عمل معالجة درامية لمسلسل «منعطف خطر»، وشاركه كل من «أحمد جودة» و«علي جبر» في كتابة السيناريو والحوار الخاص به، فقد اعتمدوا على نقل نفس صورة موقع الجريمة في العمل الأصلي، حيث الأحراش، إضافة إلى السيارة التي عُثر فيها على القتيلة، وما يحيط بها من غموض.
والسؤال هنا: أيهما أفضل للدراما العربية؛ أن تتم اقتباس فكرة العمل الدرامي بكل خطوطه العريضة ثم تنحصر مهمة ورشة الكتابة في تغيير بعض التفاصيل الدرامية من أجل ملاءمة العمل للمشاهد العربي؟ أم أن يكون للكاتب السبق في إبداع فكرة القصة وصياغتها من خياله كيفما يشاء فتحمل بصورة تلقائية ودون تصنع ملامح مجتمعاتنا الأصيلة؛ بل وتقدم مضمونًا يهدف إلى إبراز الإيجابيات وتسليط الضوء على السلبيات من أجل إيجاد حلولٍ لها؟!
ولكن من الواضح أننا في هذه الآونة قد أصبحنا نهتم أكثر بالصورة الجاذبة لعين المشاهد، ونستسهل إعادة تقديم الأعمال الناجحة التي نالت الجوائز، حتى لو كانت تنتمي لثقافات مغايرة.
فرغم تزايد الاهتمام بجودة العناصر الفنية للعمل الدرامي وتقدم تقنياتها، ورغم بذخ الإنفاق من شركات الإنتاج، فإن عمق المضمون وما يتركه العمل من تأثير مستمر على المشاهد، وليس ذلك التأثير المؤقت الذي ينتهي بانتهاء العمل، قد بات أمرًا ثانويًّا، لا يلتفت إليه أغلب صناع الدراما العربية. بل يبدو أن الإصرار على إعادة تقديم أعمال جاهزة ومستوردة من الثقافات الغربية يوحي بتعمد تغلغل تلك الثقافة وفرضها بشتى الوسائل، كي يتم محو الهوية الأصيلة لكل مجتمع على حدة، فهل ما زالت هناك أدنى مقاومة لذلك الغزو الثقافي العالمي؟!
ومضات على أزمات المجتمع المصري
إلى جانب الإثارة والتشويق فقد حاول ذلك العمل أن يلقي ومضات خاطفة وسريعة وغير متعمقة على عديد من القضايا المهمة في المجتمع المصري، ومنها: تعاطي المخدرات والاتجار فيها، والعلاقات الجنسية بين الشباب دون زواج، وكيف يمكن أن يؤدي اليأس والإحباط إلى الانتحار، وتسلط الآباء على أبنائهم وتحكمهم في اختيار مستقبلهم المهني والأسري، وانشغال الآباء عن تربية أبنائهم والتقرب إليهم ومصادقتهم مما يفضي إلى الجفاء والهجر واللجوء في أحيان كثيرة إلى أصدقاء السوء، هذا إضافة إلى مفهوم الثأر والانتقام للشرف بخاصة في جنوب مصر، وكيف يمكن أن تكون العادات والتقاليد الموروثة أقوى تأثيرًا من اتباع الشرع وأوامر الدين.
وللأسف كل تلك القضايا لم يتم تقديم أية قضية منها بموضوعية من خلال التعرف على أسبابها أو كيفية إيجاد حلول لها. أمّا في ما يتعلق بالحرب بين رجال الأعمال، فقد ابتعدت تمامًا عن السياسة بخلاف العمل الأجنبي، فلم يُقدَّم للمشاهد أي مُبرر لها، ولماذا بدأت، وكيف يمكن لها أن تنتهي.
ومع الحلقة قبل الأخيرة من المسلسل يستطيع المشاهد أن يستنتج الخطوط الدرامية الأساسية للعمل، ويصل إلى استنتاج أن «سيئات الإنسان لا تسقط بالتقادم، بل إنه سوف يجني ثمارها يومًا ما، وسيدفع ثمن كل أذى تسبب فيه للآخرين، حتى لو لم يكن يعرفهم أو يقصد الإضرار بهم».
ومن خلال ذلك العمل، يتضح أن دفع الآباء والأمهات لأبنائهم في مجتمعات ذات ثقافات مغايرة وأنماط حياة مختلفة، فقط لأنها في تصورهم هي المجتمعات الأفضل والأرقى، التي ستمنح أبناءهم مستقبلًا أفضل، سينتج عنه تشكل وعي مغاير لأبنائهم؛ ومن ثَمَّ ستبدأ الفجوة بين الجيلين في الاتساع، ليس بسبب الفارق الزمني والعُمري، ولكن بسبب التناقض والتضاد بين ما تربى عليه الآباء والأمهات، وما يتلقاه أبناؤهم في مجتمعات، فُرض عليهم التفاعل معها كي يكونوا جزءًا منها.
وفي مسلسل «منعطف خطر»، تم الاكتفاء بلفت الأنظار بطريقة غير مباشرة نحو عديد من آفات المجتمع وسلبياته مثل: تفشي ظاهرة احتماء الأبناء بنفوذ وسلطة آبائهم، مما يُحصِّنهم من المساءلة القانونية، وكيف قد يكون عدم الحرص على تجنب الشبهات سببًا في زرع الشك في سلوك الأبناء، مثلما حدث مع سلمى وعمها ووالدها.
ربما تكون سطحية الاقتباس هي العائق أمام الإبداع الفني في الدراما العربية، فلا يتم تناول القضايا المجتمعية بعمق، أو طرحها برؤية مؤثرة، تمنح للعمل قيمة إضافية تفوق ما قد يناله من نجاح مؤقت ومتابعة مليونية.