ثورة العرب في الميزان: يوسف العظمة والأمير فيصل
كانت الحرب العالمية الأولى ولا زالت من أهم المفاصل التاريخية التي تحدد وفقًا لنتائجها، مستقبل المنطقة العربية والشرق الأوسط ككل. ولعل إحدى أكثر تفاصيلها الخاصة بنا إثارة للجدل هي الثورة العربية الكبرى، ذلك الحدث المؤثر الذي ترافق مع سقوط الدولة العثمانية وانهيار الخلافة الإسلامية وتقاسم المشرق بين دول الغرب المتصدرة للمشهد آنذاك؛ فرنسا وبريطانيا. هذه «الثورة» كانت حراكًا عسكريًا اصطف فيه حسين بن علي والجيش الذي كوَّنه لاحقًا إلى الجانب البريطاني من الحرب، مغرَّرًا بوعود بريطانية كاذبة بالحرية وبناء دولة للعرب، تلك الوعود التي تثير الضحك حين مطالعتها كما تثيره أي كوميديا سوداء.
ولا ريب أن أفضل طريقة لاستعراض هذه الأحداث ومناقشتها في محكمة التاريخ، هي أن نستعرض سيرة رجلين اتخذا موقفين مختلفين منها. نتحدث هنا بالتحديد عن وزير الحربية السوري الشهيد يوسف العظمة وفيصل بن حسين بن علي متزعِّم جيش الثورة العربية الكبرى. سوف نلقي الضوء على جانب من حياة هذين الرجلين والموقف المفصلي الذي اتخذاه ورسم موقعيهما في سجل التاريخ.
يوسف العظمة
يوسف إبراهيم العظمة 1884-1920، وزير حربية سوريا عند اجتياح فرنسا لها وسليل عائلة عريقة في الشام. ولد وتعلم في دمشق ودخل السلك العسكري ليكمل دروسه العسكرية في عاصمة الدولة العثمانية إسطنبول. ترقى في الرتب العسكرية في الجيش العثماني من خلال تميزه وقدراته الكبيرة. كان يتقن التركية والألمانية والفرنسية والإيطالية وبعض الإنجليزية. تقلَّد عدة مناصب عسكرية بين دمشق وبيروت وإسطنبول، ثم أرسل من قبل الجيش إلى ألمانيا ليتمرن على أحدث أساليب الحرب وفنونه العسكرية. عاد بعدها إلى إسطنبول وعين كاتبًا للمفوضية العسكرية العثمانية في مصر، لتندلع الحرب العالمية الأولى وتبدأ الملامح المهمة في سيرته المميزة.
بمجرد تفجر الحرب سارع يوسف العظمة بالعودة للعاصمة وتم تعيينه رئيسًا لأركان حرب الفرقة الرابعة والعشرين ثم الخامسة والعشرين، ثم تصدر لمهمة رئاسة أركان حرب الجيش العثماني في القوقاز، وقد كانت من أقسى الجبهات ضد عدو روسي شرس لا يرحم. عاد يوسف العظمة بعدها ليكون رئيسًا لأركان حرب الجيش العثماني الأول في إسطنبول، وهكذا بقي يوسف العظمة على امتداد الحرب في صف الدولة العثمانية رغم تصدر الاتحاد والترقي لمشهد سنواتها الأخيرة. لكن نظرته الثاقبة وسفره لأوروبا ومصر وسعت وعيه بالأيام القادمة ما بعد الانهيار ومخطط تقاسم التركة العثمانية وجعلها نهبًا لدول الغرب بعد هزيمة دول المركز ومن بينها الدولة العثمانية في الحرب، ذلك المخطط الذي كان واضحًا لا لبس فيه لكل ذي بصيرة.
فيصل بن حسين بن علي
فيصل بن حسين بن علي 1883-1933، ثالث أبناء حسين بن علي، مُعلِن «الثورة العربية الكبرى» ضد الدولة العثمانية وملك سوريا من مارس/آذار إلى يوليو/تموز من عام 1920، وملك العراق من 1921 حتى وفاته.
سافر مع والده الشريف حسين إلى إسطنبول عام 1896 بدعوة من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وهناك تعلم التركية والإنكليزية وبعض الفرنسية واكتسب دراية بالسياسة وشؤون الدول. وبهذا، فقد كان فيصل على قدم المساواة مع شخصية المقال الأخرى، يوسف العظمة، في الاطلاع السياسي على مجريات الأمور في قلب الدولة العثمانية والمناخ الممهد للحرب العالمية وأفكار الدول الكبرى بشأن المشرق.
عزل الأتراك الاتحاديون السلطان عبد الحميد الثاني، ودخلت الدولة العثمانية طور نهايتها، واشتدت النزعة القومية للاتحاديين إثر هزائم حرب البلقان، وتردت الأحوال لدرجة كبيرة. اشتعلت الحرب العالمية الأولى بعد خمس سنوات على عزل السلطان، وأخذت الدول بالاصطفاف في المعسكرين المتحاربين. الدولة العثمانية كانت من دول المركز، خصمًا للدول الطامعة في المشرق؛ فرنسا وبريطانيا. بعد انتصارين عثمانيين مهمين على الحلفاء في جناق قلعة والعراق، نجحت محاولات بريطانيا المطولة وتمويلها السخي بدفع حسين بن علي شريف مكة لإعلان الثورة ضد العثمانيين. بدأت العمليات الحربية في الحجاز بقيادة فيصل وبتواجد البريطاني الشهير لورنس إلى جانبه في كل خطواته.
فيصل ويوسف في كفتي الميزان
صاحب الشرف الرفيع (كما يعرف في سوريا) وشهيد الشام، يوسف العظمة، كان يمكن له وهو في موقعه العسكري الانضمام لعسكر حسين بن علي كما فعل عدد لا بأس به من الضباط العرب في الجيش العثماني، لكنه حافظ على اصطفافه إلى جانب العثمانيين لإدراكه ما سيلي الانهيار الكبير من اجتياح غربي للمشرق.
بقي يوسف العظمة على هذا الاصطفاف حتى هزيمة الدولة العثمانية في الحرب وسقوطها. كان الخيار مرًا ولم يكن الاتحاديون والقوميون الترك خيارًا عظيمًا، لكن شخصًا كيوسف العظمة بدرايته العسكرية ومعرفته الوثيقة بالدول العظمى من خلال دراسته في أوروبا والنظرة البديهية لبريطانيا كعدو شرس يحتل مصر القريبة، مما يلغي، بأي حال من أحوال اليأس، احتمال أن تكون حليفًا – ثبت على موقفه إلى جانب العثمانيين حتى آخر لحظة. حاله في ذلك كحال أمير البيان شكيب أرسلان الذي قال بأنه لو كان يعلم بأن الثورة ضد الأتراك سوف تمنح العرب استقلالهم لما سبقه إليها أحد. وكانت رؤية الشخصيتين محقة بتسرب اتفاقية سايكس-بيكو بعد انفجار الثورة البلشفية في روسيا أثناء الحرب ولما تنته الحرب بعد.
وضعت الحرب أوزارها بانتصار الحلفاء وخروج العثمانيين من البلاد العربية، وعُقِد مؤتمر باريس الذي حضره فيصل والتقى على هامشه بحاييم وايزمان عام 1919 في باريس، وعقد معه اتفاقية تضمن لليهود تسهيلات للقدوم إلى فلسطين ويقر فيها بوعد بلفور، وترافق خروج الجيش العثماني مع دخول البريطانيين والجيش العربي بقيادة فيصل للشام واحتلال الفرنسيين للساحل الشامي تهيئةً للمرحلة القادمة، وأصبح فيصل ملكًا لسوريا عام 1920.
و أما يوسف العظمة، فلم يتوانَ عن القدوم لخدمة بلاده رغم عرض الأتراك عليه البقاء في تركيا والمساهمة في بناء الجيش التركي الجمهوري الجديد بعد الحرب، لكنه رفض ولبى نداء الشام ليساهم في خدمة المملكة السورية الناشئة التي تزعمها فيصل، حيث عيّن في عدة مناصب آخرها كان تعيينه وزيرًا للحربية.
كانت أقل من سنتين فقط حتى رتب الحلفاء اتفاقاتهم وتقسيمهم لتركة الدولة العثمانية في اتفاقيات بينية، وبدأوا الغزو الغربي للشام. نزل الجيش الفرنسي على سواحل الشام وبدأت عملية الغزو عام 1920، حينها كان يوسف العظمة وزيرًا للحربية لفيصل. أرسلت فرنسا إنذارًا لفيصل بحل الجيش العربي ومجموعة شروط تلخص الاستسلام وتسليم البلاد. استجاب فيصل للإنذار إذعانًا، بدل أن يعلن النفير العام، وظن بأن استجابته للإنذار سوف توقف زحف العدو نحو دمشق، لكن يوسف العظمة رفض ذلك وأصر على مواجهة الجيش الفرنسي الغازي.
في هذه اللحظة بالضبط يكتمل تباين صورة الشخصيتين، حين جمع يوسف العظمة جيشًا صغيرًا لمواجهة العدو رافضًا بإبائه كمسلم وإنسان تشبع بحبه لبلاده أن يسلم الأرض للعدو بدون دماء ولا معركة تغسل عار الاستسلام المهين. وردّ يوسف على فيصل الذي حاول أن يثنيه عن الخروج لمواجهة الجيش الفرنسي ببيت الشعر التاريخي للمتنبي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى :: حتى يراق على جوانبه الدم
بنظرة منطقية لميزان القوة حينها، فإن الفرنسيين كانوا سوف يدخلون البلاد في كلتا الحالتين، لكن رأي يوسف العظمة كان أنه من العار أن يدخل العدو دمشق بلا ثمن. لقد كان محقًا. كان يدرك أنه لن يعود، وما كان لشخص مثله وقد خاض أعنف الحروب في الدردنيل والقوقاز ألا يدرك ميزان القوة، لكنه الشرف الرفيع كما قال وثمن الكرامة الغالي لأمة وأرض. خرج بصفوة شباب الشام الذين استنفرهم وجال بنفسه لجمعهم من مدن وأرياف الشام، ليلتحم بجيش الجنرال غورو في معركة ميسلون ويقاتل بما أتيح له من أبسط العتاد العسكري.
استشهد يوسف العظمة ورفاقه في تلك المعركة غير المتكافئة، ولكنه ترك أثرًا كبيرًا ومثالًا لا يزال يستذكر بعد قرن من الزمن. وعلى الرغم من عدد الشهداء الكبير وبساطة العتاد إلا أنه ورفاقه قد أردوْا عددًا مهمًا من جنود الجيش الفرنسي وضباطه، واعترف الفرنسيون أنفسهم بشجاعة يوسف العظمة وشرفه العسكري.
أما فيصل فمع اقتراب الجيش الفرنسي الغازي من دمشق خرج منها. وللمفارقة فقد استخدم لهروبه خط الحديد الحجازي متجهًا نحو درعا ومنها إلى حيفا. ذلك الخط الحديدي نفسه الذي عمل رفقة لورنس على نسفه وتدميره لضرب إمدادات الجيش العثماني للمدينة المنورة والحجاز. ومن حيفا أكمل رحلة البحث عن تاج جديد، وقادته رحلته تلك إلى بريطانيا التي رأت فيه ممثلًا مطيعًا لسياسة انتدابها، فعينته ملكًا لمملكة العراق المنشأة حديثًا.
مضى يوسف و فيصل، واستحالت سيرتهما صفحات متباينة في سجلات التاريخ. فأين موقع هذه السير اليوم في ذاكرتنا ووقائع المنطقة؟ الإجابة كفيلة بتحديد المضيء منها والمظلم، وأخذ العبرة من دروس التاريخ المكررة.