السياسة التعليمية والتنموية العربية وشعار ثورة «الميجي»
من يقول إن الأنظمة العربية قد فشلت في مجال السياسات التعليمية فقد جانبه الصواب، ويحاول أن يخفي الشمس بغربال! ذلك أن مجهود أكثر من خمسة عقود في صياغة البرامج والنظم التعليمية، قد أعطى ثماره المرجوة وبشكل يدعو إلى الدهشة، وحجتي لإثبات هذه الفعالية قد تبدو غريبة للوهلة الأولى، لكن –للأسف- هذه الأمثلة تختزل بوضوح ما يريده الحاكم العربي -ومن ورائه الغرب- من المنظومة التعليمية العربية بشكل عام.
ألم يتم اقتحام وإغلاق المسجد الأقصى من قبل سلطات الاحتلال الصهيوني في الشهر الماضي دون أي رد فعل من الشعوب العربية؟ ولم تفتح أبوابه إلا بجهود الشعب الفلسطيني، الذي يعد بدون شك من الشعوب الحرة التي لا زالت تمتلك إرادتها الحرة، ألم يتم الانقلاب على إرادة الربيع العربي في الحرية والكرامة الإنسانية، وعلى شرعية صناديق الاقتراع، ودعم الثورات المضادة بالمال والسلاح، دون أن تبدي الشعوب العربية أي رد فعل ضد الظلم الذي مورس على أحرار الربيع العربي، ذلك أن قسم عريض من هؤلاء الأحرار محسوب على التيار الإسلامي؟
فانعدام رد الفعل إزاء إهانة المقدسات وتدنيس المعتقدات وانتهاك حرمات وأعراض المسلمين من قبل العدو الداخلي والخارجي، دليل قاطع على أن الأنظمة العربية نجحت في مهامها التعليمية والتربوية والثقافية، فمن الصعب فهم النهايات دون الرجوع للبدايات. ومعظم السياسات التعليمية العربية تستند إلى نفس المبدأ العام، وهو تغيير هوية الأمة العربية وإبعادها عن تاريخها وعقيدتها الإسلامية.
ويتم هذا التغيير تحت عناوين براقة وغير مستفزة لريبة وشك عامة الناس، فالغرض هو تحديث المجتمع وتطويره وعلمنته، لتحسين مستوى معيشة المواطن العربي، وربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل، وتأهيل المجتمع العربي لمسايرة ركب الحضارة الإنسانية، وتقليص الفجوة المعرفية بين الشعوب العربية والغرب. ما أجملها من شعارات لكنها تخفي بين ثناياها داءً يفتك بالأمة ونهضتها.
داء يقتل حصانة الأمة ويميع رسالتها، داء يجعل الأمة غثاء تتحرك دون هدف، شعارها طلاسم إيليا أبو ماضي: «جئت، لا أعلم من أين، ولكني أتيت.. ولقد أبصرت قدّامي طريقا فمشيت.. وسأبقى ماشيًا إن شئت هذا أم أبيت.. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري!».. داء يجعل المجتمع العربي أداة للاستهلاك والإنتاج، مجتمعا من العبيد لا من الأحرار، وهذا شعار السياسات التعليمية والتنموية في العالم العربي منذ عقود.
لست من الذين يتكلمون بعاطفية، ولكن أدرك جيدًا فحوى السياسات التعليمية المتبعة في العالم العربي، فهي سياسات وضع بنيتها المستعمر الأجنبي منذ أكثر من قرنين، وحاول جاهدًا بطريقة مباشرة تغيير العقيدة في عقول أفراد الأمة، بعدما عجز عن تغيير النصوص، واستمر في سياساته بعد الاستقلال عبر وكلاء ينتمون إلى الأمة، ومن لونها ويدينون بدينها، حاول هؤلاء الوكلاء تغيير هوية الأمة بالاستعانة بالفكر الاشتراكي، والشيوعي، وحين فشل المشروع الماركسي في بلاد المهد، تم العودة إلى الفكر الرأسمالي والأمركة، وما إلى ذلك من شعارات لا يفهم مضمونها ولا يجلها ويقدسها إلا حكامنا العرب.
هؤلاء الحكام ينافقون شعوبهم، ولا يسعون لنهضة وتقدم شعوبهم، فلو كانوا بالفعل يعملون بما يقولون لتحقق شيء إيجابي على الأرض، فعلى الأقل سيكون هناك إنجاز فعلي وملموس، سواء في الاقتصاد أو الطب أو الزراعة. لكن هل يبدو أي إنجاز على أرض العرب؟ فما جدوى الشعارات المرفوعة منذ عقود؟ فالاقتصاد في معظم العالم العربي لازال يراوح مكانه، فمعدلات البطالة جد مرتفعة، ومعدلات النمو الاقتصادي لا تؤيدها الوقائع على الأرض، ونسب التضخم في تزايد، وقيمة العملة الوطنية في تدهور، مما يدل على غياب الكفاءة الإنتاجية والفعالية الاقتصادية.
أما على المستوى العلمي والتعليمي فالطامة أكبر، ويكفي مثالًا على فشل المنظومة العلمية والتعليمية، أن الحكام العرب وأسرهم وبطانتهم، لا يعالجون بأوطانهم بل وجهتم الأطقم الطبية في فرنسا وإنجلترا وأمريكا. بل إن تعليم أبنائهم وأحفادهم لا يتم إلا في بلاد الغرب، وبعضهم أصبح يتجه تدريجيًا نحو كوريا الجنوبية وسنغافورة. أليس في ذلك شهادة دامغة مصدرها صناع السياسة، على فشل السياسات التعليمية العربية، وعدم فعاليتها في بناء الأمة وتحقيق نهضتها؟
أيها السادة، النهضة طريقها مختلف، نعم من المؤكد أن التعليم والمعرفة محرك أساسي في النهضة، لكن عن أي تعليم وأي سياسة تعليمية نتحدث؟ فالمسألة ليست تقنية أو معادلة لوغاريتمية محايدة، فعندما نتكلم عن التعليم فالمسألة بالدرجة الأولى سياسية وأخلاقية/ قيمية، إنها رؤية مجتمعية، وحتى لا يكون حديثي مجردًا سأعطي مثالًا عمليًا لتجارب مرت من نفس المنعطف الذي لا زالت الأمة العربية تعاني من تموجاته.
ففي اليابان قبل حوالي قرن ونصف عام 1868 انطلقت ثورة «الميجي»، وهي بالمناسبة جاءت مواكبة لإصلاحات دشنها حاكم مصر «محمد علي» في نفس الفترة تقريبًا، والفكرة الأساسية المحركة للمبادرتين كانت هي الاستفادة من التقدم التقني والحضاري الذي تحقق في أوروبا، فتم بعث خيرة شباب اليابان ومصر إلى العواصم الغربية لتلقي العلوم والعودة لأرض الوطن، لنشر المعارف الجديدة وتوطين المعرفة، لكن الوجهة اليابانية كانت مختلفة عن الوجهة المصرية، ومن هنا اختلفت النتائج.
فبينما رفعت اليابان شعار «التقنية الغربية والروح اليابانية»، فضّل رسل المعرفة من الشباب المصري من أمثال «قاسم أمين»، و«رفاعة الطهطاوي»، و«طه حسين»، و«توفيق الحكيم» الروح الغربية، وحاولوا أن ينقلوها لأوطانهم لتحل محل الروح الإسلامية، ولم تستفد مصر من التقنية الغربية إلا القليل عكس ما حققه اليابانيون.
فاليابانيون كانوا أكثر ذكاءً واحتياطًا في التعامل مع مخرجات الحضارة الغربية، فهم اعترفوا بسيادتها تقنيًا، ولكن حافظوا على انتمائهم الحضاري والأخلاقي والقيمي، فالثقافة والحضارة اليابانية ظلت سامقة في عقول القادة وصناع النهضة، بينما افتقدت مصر ومعها العالم العربي هذا الإحساس، وأعطت أوروبا وقيمها مكانة سامقة على حساب جلد الحضارة العربية والإسلامية ونبذ القيم الإسلامية، ففقدت الأمة بوصلتها ولم تحقق إنجازًا يذكر، واستمرت الأمة العربية ككل في هذه الحلقة المفرغة.
بينما أدركت اليابان وبعدها الشعوب الآسيوية المجاورة سر النهضة، فقلدت خطى اليابان في نهضتها، وحققت بالفعل نتائج نهضوية وتنموية جيدة، والقصة اليابانية تم إنتاجها مجددًا في كوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا، والصين أيضا تبنت نفس السيناريو الياباني، وحملت منذ 1978 تاريخ نهضتها الحالية، شعار «التقنية الغربية والروح الصينية».
لأجل ذلك، فإن أي نهضة تحاول أن تخط طريقها بعيدًا عن روح الأمة، لن يكتب لها النجاح والتوفيق، ورسالتي ليست للحكام فهؤلاء اختاروا الغرب بديلًا، ونصبوا قيم الأمة وفي مقدمتها الإسلام عدوًا، واعتبروه عائقًا في وجه التنمية والتقدم، متجاهلين حقيقة تاريخية لا جدال فيها، أن حضارة الإسلام والحضارة العربية كان محرك نهضتها الإسلام، فقبل بعثة النبي العربي محمد -عليه الصلاة والسلام- كان العرب يرعون الإبل، وبعد الإسلام أصبحوا رعاة للأمم، ولا نهضة ولا مستقبل لهذه الأمة بدون مصالحة مع مبادئ وقيم الإسلام. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.