عرب 48 في كتابات عزمي بشارة
هناك وراء الخط الأخضر حيث آلاف الفلسطينيين، الذين وُلدت تسميتهم من رحم قضيتهم، عرب الداخل أو عرب 48، الذين تجرعوا مرارة الاحتلال القابع على أنفاسهم، فاعتادوا استنشاق الهواء المدنس بفساد الأفّاقين والمغتصبين، ولكن دوام الحال من المحال فهل استقرت أوضاع هؤلاء وباعوا القضية كما يراهم البعض؟.
وقد تناول الدكتور عزمي بشارة، المفكر والأكاديمي الفلسطيني، في دراسة سابقة له قضية عرب 48 بالشرح التفصيلي؛ كانت بعنوان «هل يُشكل العرب داخل إسرائيل حالة سياسية؟»، وقد صدرت ضمن سلسلة تحليل السياسيات للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في يناير/كانون الثاني 2011.
خلفية تاريخية
بدأ الدكتور عزمي بشارة ورقته بالحديث عن خلفية تاريخية موجزة عن أوضاع عرب 48، منذ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وقد ركز بشكل خاص على تطور الوضع السياسي للعرب داخل تلك الأراضي المحتلة.
فكما هو معروف، أنه بعد النكبة بقي داخل حدود الهدنة عام 1949 حوالي 150 ألف عربي من الفلسطينيين أبناء المكان، وقد بقوا لأسباب مختلفة تتفاوت بتفاوت زمان ومكان الاحتلال الذي تعرضت له القرى والبلدات العربية خلال حرب 1948، ويمكن القول إن الأشلاء التي بقيت لم تشكل شعبًا متماسكًا بل شكلت تجمعات سكانية متناثرة، فما تبقى هو قرى وبلدات صغيرة ضعيفة اقتصاديًا ومعزولة عن شعبها وأمتها منشغلة بالبقاء وغير قادرة سياسيًا وحضاريًا على استيعاب التحولات الكبرى التي عصفت بها، وغابت القيادة السياسية لأن قيادة الشعب الفلسطيني التقليدية وغير التقليدية انتقلت إلى المنافي بعد الشتات.
وقد خلت فلسطين داخل خطوط الهدنة من الفئات البرجوازية الصاعدة والطبقة الوسطى وكبار ملاك الأراضي، فما تبقى هو ريف زراعي متناثر ومُشتت، غير قادر على التواصل في ظل غياب تكنولوجيا الاتصال وغياب سوق واقتصاد عربي، كما أنه كان مقيد الحركة وخاضعًا لحكام عسكريين على مستوى البلدة والناحية والمنطقة.
وربما دفعتهم كل تلك الظروف والضغوط إلى مشاركة الاحتلال -في مرحلة مبكرة- في الاقتراع على انتخابات الكنيست عام 1949، بعد أن مُنحوا المواطنة الإسرائيلية، وقد شكّلوا في تلك الفترة حوالي 12.4% من المواطنين، وقد ازداد إقبال العرب على الاقتراع في الانتخابات البرلمانية في عام 1951.
وقد تشكلت البنية الاجتماعية لعرب 48 في تلك الفترة على البنية التقليدية، التي تؤكد على الانتماء للعائلة الممتدة؛ أي «العشيرة»، والقرية والناحية والتي مثّلها زعماء محليون، وكانوا وسيطًا بين السكان المحليين من جهة والدولة متمثلة في الحاكم العسكري.
وقد تحول بعض أعضاء الدائرة العربية في نقابة العمال العامة «الهستدروت»، مع مرور الوقت، إلى نواب في الكنيست، بعد أن استخلص مستعربو حزب العمل وأجهزة الأمن الإسرائيلية من هذه البنى الاجتماعية قوائم عربية لتخوض الانتخابات البرلمانية، ففي ذلك الوقت لم تسمح الأحزاب الإسرائيلية بعضوية العرب فيها.
وقد كان التصويت لتلك القوائم يعني التصويت للأحزاب الصهيونية التي راعتها، ولم يكن غريبًا أن نجد عربًا يصوتون بنسب مرتفعة للأحزاب الصهيونية مباشرة وحتى الحزب القومي الديني المتطرف «المفدال»؛ وذلك بسبب الوزارات التي يديرها الحزب الصهيوني، والخدمات التي يعد بها الزعماء المحليون مواطنيهم في حالة التصويت لذلك الحزب.
وجدير بالذكر أن هذا النوع من الاتصال بين القيادات التقليدية (أي العربية المحلية) والكيان الجديد تمخض عنه مطالبة «قيادة الطائفة الدرزية» أن يخدم أبناؤها في الجيش عام 1954، وقد لبى بن غوريون هذا المطلب عام 1956، ومنذ ذلك العام مُهد الطريق لاتجاه هذه الفئة من العرب في الداخل نحو نتائج اجتماعية وسياسية كارثية.
نهوض فأسرلة
أشار الكثير من الباحثين الفلسطينيين إلى ظاهرة نهوض الوعي القومي في أوساط العرب في إسرائيل في السبعينيات، كظاهرة «فلسطنة» الوعي، كجزء من عملية نهوض الوعي القومي الفلسطيني، وقد أشار بعض الباحثين الإسرائيليين في الفترة نفسها إلى أن الموضوع أكثر تركيبًا، وأن العرب في إسرائيل يمرون بعمليتين متوازيتين: «عملية أسرلة» و«عملية فلسطنة». ففي السبعينيات فقط، بعد نشوء فئات واسعة نسبيًا من المتعلمين والمثقفين، ونشوء تنظيمات طلابية، وبعد أن تبلورت قيادات وطنية في مناطق مختلفة، وبعد نشوء بدايات طبقة وسطى من المهنيين وصغار رجال الأعمال، بدأت تتولد حركات وطنية عربية منظمة ذات خطاب قومي عربي أو وطني فلسطيني.
ولم يأتِ توقيت هذا النهوض صدفة، فقد تزامن ذلك مع صعود الوطنية الفلسطينية بعد هزيمة 1967، وبعد اللقاء المباشر مع فلسطينيي الضفة والقطاع، وبشكل خاص مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية بقوة على الساحة الدولية بعد حرب 1973، وفي تلك الفترة نشأت حركات ذات طابع قُطري (المقصود غير محلي)، مثل اللجنة القُطرية للطلاب الثانويين العرب عام 1974، واتحاد لجان الطلاب العرب في الجامعات عام 1975، على سبيل المثال لا الحصر.
وعلى الرغم من تلك الصحوة والنهوض الوطني الذي دبَّ في نفوس عرب 48، إلا أنه من المتوقع في ظروف عيش أبناء أقلية قومية كمواطنين في دولة، حتى لو كانت دولة احتلال، أن ينشأ تيار قوي موالٍ لتلك الدولة، ويرى الكاتب أنه يصح ذلك حين تكون الأقلية من السكان الأصليين الذين كانوا أكثرية وأصبحوا أقلية، خاصة إذا كانت تلك الأقلية معزولة عن أمتها وضعيفة اقتصاديًا وثقافيًا، ناهيك عن سيطرة أجهزة الأمن والخوف منها، في مثل هذه الحالة يُفرَز المجتمع بشكل واضح إلى قوى وطنية وقوى غير وطنية.
واقع مركب أم صراع هوية؟
مع النمو الوطني الذي تناولناه سابقًا، نما أيضًا وعي إسرائيلي يحمله مثقفون وليس زعماء تقليديين، وتطور هذا الوعي الإسرائيلي السياسي على درجات، فنجده يبرر الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية بغرض الحصول على حقوقه في المقابل، أو نجده يُدخل وعي المعارضة لسياسات الحكومة، ولكنها معارضة كقوة إسرائيلية، وتعتبر نفسها قوة سلام إسرائيلية، أو جسرًا للسلام مع الدول العربية والفلسطينية وهكذا.
ومن ناحية أخرى وفي مقابل هذه التركيبة، نشأت الحاجة لفكر وطني عربي يعمل في هذه الظروف المركبة، ويعي أنه لابد أن يتعامل مع الواقع المركب لمجتمعه على مستوى الحياة اليومية وعلى مستوى الوعي، ومن هنا نشأت المحاولة للجمع بين فكرة المواطنة المتساوية المتناقضة مع الفكرة الصهيونية.
ويقتادنا هذا الواقع المركب إلى إثارة سؤال الكاتب الذي عنون به هذا البحث؛ وهو: هل يشكل المواطنون العرب في الداخل حالة سياسية في هذا الواقع المركب؟.
ولكي يجيب الكاتب على هذا التساؤل المهم، كان لابد أن يستعرض أولاً الإجراءات الإسرائيلية المستميتة لإنجاح دمج هؤلاء العرب في شتى مجالات الحياة داخل الكيان الصهيوني، والإغراءات التي استخدمها الصهاينة لإسالة لعاب كل من يتوق إلى حياة أفضل في ظل هذه الظروف المعقدة.
فلم تكن المؤسسة الصهيونية، ذات الخبرة الواسعة في التعامل مع عرب الداخل، غائبة عن تشكيل تلك الصورة التي شرحناها سابقًا، فهي لم تدركها فحسب بل أثرت فيها بشكل فاعل عبر سياساتها وإعلامها، ومن خلال مناهج التدريس، وعبر التعيينات والوظائف والميزانيات والخدمات وغيرها.
كما طورت المؤسسة الإسرائيلية تعاملها مع العرب وفقًا للمرحلة، فقد أبطلت الحكم العسكري عام 1966، وفتحت الأحزاب الصهيونية المجال لعضوية العرب بالتدريج، وبدأت في اتباع السياسات التي توسع هامش النقد وحرية التعبير، وتعترف حتى بوقوع تمييز بحق المواطنين العرب.
وفي الأعوام 1974 و1975، وفي مقابل لجنة الدفاع عن الأراضي العربية، بادرت الدولة (مُمثَلة حينها بمكتب مستشار رئيس الحكومة لشئون العرب) بجمع رؤساء البلديات والسلطات المحلية العرب كقيادات معتدلة، وما لبث أن حوّلت هؤلاء إلى جسم دائم يفاوض الدولة على الميزانيات الممنوحة للقرى والمدن العربية وعلى سياسات التخطيط والبناء، ويُنتخَب غالبية هؤلاء على أساس محلي أو عشائري، وقلما يُنتخَبون على أساس انتماء حزبي، أو موقف سياسي، ولذلك فهم لا يشكلون حالة سياسية قُطرية.
أما الأحزاب السياسية العربية سواء كانت وطنية أو عربية إسرائيلية (بالمعنى الحرفي للكلمة)، فتتنافس تحت سقف البرلمان الإسرائيلي، وبموجب قواعده، ولا يوجد سقف وطني يجمعها ليضع قواعد بالمسموح والممنوع.
مما جعل التنافس بين الأشقاء العرب في الكنيست يصل حد التآمر، لمحاولة إثارة إعجاب المؤسسة الحاكمة والإعلام الإسرائيلي على حساب القوى الوطنية وتقديم تنازلات سياسية مقابل خدمات، حتى أنه وصل إلى حد التحالف مع القوى الصهيونية ضد القوى الوطنية المنافسة.
وعلى الرغم من نشوء الهيئة التي قامت عام 1981 من هذا المزيج المركب، وسُميت هذه بلجنة المتابعة لشئون المواطنين العرب، إلا أنها لم تنجح في أن ترتقي إلى درجة أعلى من لجنة تنسيق.
كما نشأ في داخلها خلاف بين القوى السياسية التي ترغب بالارتقاء بها إلى هيئة وطنية تُمثل شعبًا، دون أن يتناقض ذلك مع حقوق المواطنة وبين تيار أكثر تأكيدًا على الاندماج في البنية السياسية للدولة اليهودية وفي الخارطة السياسية الإسرائيلية.
ولذلك يؤكد الكاتب أنه إلى أن تُحسم هذه المسألة فالعرب داخل إسرائيل لا يشكلون كيانًا سياسيًا يبلور إجماعًا أو حتى أغلبية وأقلية ديمقراطيتين، وتظل القوى السياسية منقسمة بين قوى تتجه نحو الأسرلة بشكل مطرد، وثانية تبلور طريقًا يجمع بين مطالب المواطنة القومية، وثالثة تبحث عن توازن بين الواقعية المعيشية وسياسات هوية دينية الطابع.
أسرلة مبتورة
وعلى الرغم من تلك الضبابية التي تسود المشهد السياسي للعرب داخل إسرائيل، يبقى هناك أمر واضح وضوح الشمس في كبد السماء؛ وهو عملية الأسرلة التي تنتهجها الدولة الإسرائيلية كما ذكرنا في السطور السابقة.
فقد أفرد الكاتب عدة سطور لتناول جانب جديد في تلك المسألة بالتفصيل، فيرى أن ما تقوم به إسرائيل من عملية أسرلة داخل الأراضي المحتلة أي أراضي 48، هي أسرلة مبتورة؛ أي منقوصة، لأنها لا تقوم ولا يمكن أن تقوم على قدم المساواة، فهي لا تساوي العرب في الداخل واليهود وفي إعطاء الحقوق.
وهنا يتساءل الكاتب بأنه إذا سلّمنا بما تزعمه نظريتا العلوم الاجتماعية الأساسيتان في إسرائيل، بأن عدم المساواة ناتج لأن العرب جزء من أمة في «حالة حرب» مع إسرائيل، أو لأن فجوة الحداثة تفصلهم عن تحقيق المساواة، ففي أفضل الحالات تفسر هاتان النظريتان ما هو قائم، هذا إذا سلمنا بهما جدلاً، لكنهما لا تفسران لماذا لن تكون المساواة ممكنة في المستقبل، حتى في حالة علاقات سلمية بالدول العربية، ما دامت دولة إسرائيل تحافظ على مبناها الحالي.
فمن الواضح أن تفسيرات منظّري المؤسسة الإسرائيلية التقليديين لم تعد تكفي، فإذا فندنا منطق نظرية التحديث التي تقول بوجود فجوة بين مجتمع المستوطنين اليهود صاحب الحداثة وبين مجتمع «السكان المحليين» الذي يمر بعملية تحديث وافدة عليه، نجد أن الادعاء المركزي في تفنيد هذه النظرية لا يمكن أن يأتي إلا من خارج الأسرلة على وجه العموم، وهو أن الحداثة الإسرائيلية كانت تعني بالنسبة إلى الفلسطينيين كشعب إجهاضًا تاريخيًا لعملية تحديثهم، التي بدأت قبل سنة 1948، ثم سُد طريق التحديث أمام الأقلية الفلسطينية بعد 1948، وذلك بفقدان هذا المجتمع نخبه الاقتصادية والسياسية والثقافية.
والأهم من ذلك كله فقدانه المدينة الفلسطينية، وبقاؤه مجتمعًا قرويًا يعيش عن طريق العمل في المدينة اليهودية التي لا تستوعبه، ثم فقد القرية بفقدانه الزراعة، فبقي لا هو مدني ولا هو قروي، والحداثة الوحيدة التي عرفها العربي الإسرائيلي هي الحداثة اليهودية، ينضم إليها مُقلِدًا ومُهمَّشًا.
أما المنطلق الثاني لتفسير أوضاع الأقلية العربية، وما زال يُستحضر سلبًا وإيجابًا، فهو الصراع العربي الإسرائيلي وانعدام الثقة بـ «ولاء المواطنين العرب للدولة».
فإن كانت إسرائيل تدعي دائمًا أنها ديمقراطية وليبرالية، يتساءل الكاتب هنا ماذا يعني الولاء في الدولة الديمقراطية الليبرالية؟، ولماذا يجب أن يكون شرطًا لمنح الحقوق المتساوية؟، وما هي وسائل فحصه أصلاً؟
وبغض النظر عن مطالبة العربي، وهي مطالبة مشوهة، بأن يكون مواليًا للدولة التي قامت على أنقاضه ككيان قومي، فإن الأمر الأساسي هنا هو تبني هذا الخطاب السياسي الصهيوني، خطاب الولاء للدولة، وكأن الدولة علاقة عاطفية شخصية للمواطن، وبذلك فهم لا يبترون عروبة العرب فحسب، بل ليبراليتهم التي يدعونها هم أيضًا.