مشمش أفندي: حكايات براء أشرف العادية تهزم الموت
تخين وبنضارة، بكتب عن حكاياتي الشخصية وهمومنا المشتركة.
هكذا وبكل خفة وبساطة وشجاعة كان البراء أشرف يضع الوصف الأول له على مدونته، يتخذ من الحكاية الخاصة جدًا سبيلًا للناس، ويقتات من نفس رغيف الخبز الذي يقتاتون منه همومًا يومية، ويعرفهم نفسه بكل موضوعية كما لو سألت غريبًا في الشارع عن ذلك الشخص الذي يقف على الناحية الأخرى، لن يجيبك بأكثر من الكلمتين اللتين نعت بهما الراحل نفسه في بداية التعارف.
البراء الحي
تميز البراء بقلمه الحي، حيث انعكست خفة روحه في كتاباته، لتجعلها حكايات تدق أنغامها طبول البهجة والذهول والتأثر والضحك في قلبك. كتب بالعديد من القضايا التي تمس واقع المجتمع المصري، حكى حكايات عن ذاته وعن الآخر، تكلم عن المجتمع ومشكلاته، خصص نصيبًا كافيًا لأمور الشباب وحُلم الثورة.
ولد 22 أغسطس/ آب 1985، حصل على ليسانس الآداب من جامعة جنوب الوادي بقنا، بدأ في تأليف القصص المختلفة منذ كان طالبًا جامعيًا، عمل ككاتب صحفي، وأخرج وأنتج عددًا من الأفلام الوثائقية، صدرت له مجموعة من القصص القصيرة في كتاب «الب(د)ين» بعام 2011. توقف عن الكتابة في 2010 وعاد إليها بشكل منتظم في أغسطس 2014، حيث كتب 14 مقالاً في موقع المصري اليوم، 3 في هاف بوست عربي، 26 مقالاً بمصر العربية، و6 آخرين بموقع كسرة.
عرفت مدونته الخاصة باسم «وأنا مالي» والتي وصف نفسه من خلالها كاتبًا: «تخين وبنضارة، بكتب عن حكاياتي الشخصية، وهمومنا المشتركة».
سافر إلى الدوحة في 2006 ليدرس بشكل متخصص إخراج وانتاج الأفلام الوثائقية، وكتب على مدونته: «طيب.. بالمرة أخبركم أن السطور السابقة هي آخر سطور معارضة لي في الإنترنت العظيم. بصراحة قررت أن أكون شابًا، مجرد شاب، يكتب عن الشباب وللشباب، عن همومهم وأفكارهم بعيدًا عن السيد جمال مبارك الذي أتم عامه الأول بعد الأربعين منذ عامين وبالتالي فهو ليس شابًا ولا هو شأن شبابي؛ لأني وجدت الكتابة بعيدًا عن السياسة أمتع كثيرًا، ولو قررت أن أكتب مرة أخرى عنها فسأكتب بعيدًا عن مبارك وآله ومن سار في ركبه؛ لأن السياسة ليست مبارك وولده، ولأن الحياة فيها من الأشياء الجميلة ما لم ولن يستطع مبارك أن يقتلها فينا».
هكذا هزم الموت
الكاتب والاعلامي تامر أبو عرب عن براء أشرف
كتب في مقاله «وهل سقط -أصلاً- حكم المرشد» حكم جماعة الإخوان المسلمين في مصر وفلسفة الجماعة، حيث وصفهم بالدولة داخل الدولة لطبيعة نظامهم الاجتماعي الخاص ونظامهم الاقتصادي وما يؤمنون به من قوانين، كما كتب: «الإخوان بنسختها الإسلامية انتشرت ونجحت بشكل ملحوظ، الدين أفيون الشعوب، لكنه ليس نوع المخدرات الوحيد المفضل للشعب المصري!».
و وصف حكم المرشد بـ «الاستحواذ، والاعتقاد المطلق في الأفضلية، الشعور بأن السلطة حق دائم، ومكسب نهائي، نهاية سعيدة لقصة طويلة، عدالة السماء. السلطة خلاص، خلاص له ولأتباعه وأعوانه وأعضاء جماعته التي فشلت الأنظمة في التخلص منها طوال عقود».
وفي مقال آخر بعنوان «لماذا يرقص المصريون» تساءل البراء عن ظاهرة رقص المصريين في الأحداث السياسية المختلفة من حيث الانتخابات الرئاسية والاحتفال بسقوط حكم مرسي، وكتب: «هل الرقص تعبير عن شيء ما؟، سمعت سابقًا أنه تعبير عن الحرية، وسمعت وجهة نظر أخرى تقول أن الرقص تعبير عن القمع والنضال ضده بالجسد الحر المتحرك المنطلق. أيًا كان هذا الشيء الذي يعبر عنه الرقص، فمع ملاحظة هذه الكمية الكبيرة (على ما يبدو) من الرقص، فنحن أمام تعبير عن شيء كبير، ضخم، غزير. ما هذا الذي نعبر عنه هذه الأيام بكل هذه الكثافة؟». اعتبر البراء مقاله عن الرقص مجموعة أسئلة حول هذا الفعل، هل يعتبر فنًا؟، هل يكون له دلالات سياسية واجتماعية؟، لم يقدم الأجوبة، لكنه الطرح الكثير فيما يخص المسألة، وتعجب من تحقيق أفلام الراقصات في مصر إيرادات عالية في حين تعتبر «ابن الرقاصة» شتيمة عنيفة يتم استخدامها في الشوارع، كما كتب البراء.
وفي 23 يوليو/ تموز 2012 كتب البراء عن كذب الإعلام المصري وضرورة مواجهة روايات السلطة الرسمية التي تحاول فرضها على الشعب من خلال الإعلام، حيث يقول: «عزيزي القارئ، إن أرادت السلطة لنفسها أن تكون الراوي الوحيد فقد حان دورك الآن؛ كي تكون أنت الحكم الوحيد».
لم تكن تلك المواقع منصة براء الوحيدة للتعبير عن أفكاره ومواقفه، حيث كانت مواقع التواصل الاجتماعي منصة أخرى له، نشر من خلالها الكثير عن الثورة وعبر عن أحلام الشباب في مجتمع أفضل، كما عبر عن يأسهم وإحباطاتهم في أوقات متفرقه، و كتب آسفًا على حسابه الشخصي بتويتر: أنا آسف إني نزلت مظاهرات يوم ٣٠ – ٦ – ٢٠١٣. و وصف براء ما تعيشه مصر في عهد السيسي بـ «سنوات من القهر تحت نظام سياسي قاتل وفاسد بشكل لا يتصوره أي عقل» خلال لقاء تلفزيوني.
لم يمر براء على العالم مرور الكرام، حيث حفر بكلماته وأفلامه بصمة حيه في أذهان الكثير، لتهزم حكاياته الحاضرة بالرغم من غيابه الموت.
كيف انتصر مشمش أفندي للحكايات العادية؟
عبر براء أشرف عن فلسفة الأفلام الوثائقية في كونها فرصة ومساحة لانتصار حكايات البشر العاديين على الأساطير والحكايات الخيالية، حيث اعتبرها انتصارًا للإنسان. اعتبر البراء أن الأفلام الوثائقية تحدٍّ لنقل الواقع بصورة كافية لإقناع الناس بفكرة وسردية صانعه، وكل إنسان بما يحمله من تجارب صالح لتحويله لفيلم وثائقي بقصة قوية كما عبر البراء.
أنتج وأخرج الكثير من الأفلام الوثائقية، ومن بينهم فيلم «مصطفى محمود – العلم والإيمان» بعام 2010، حيث تناول مسيرة حياة المفكر مصطفى محمود من خلال أعماله وما روته عنه عائلته وبعض الشخصيات العامة من بينهم جمال البنا وعمار علي حسن، وتم عرضه على قناة الجزيرة الوثائقية. وأنتج فيلمًا عن الأزهري والزعيم الروحي عمر عبد الرحمن، وآخر عن الراهب متى المسكين ويُعرف بـ «الراهب والبابا»، حيث يحكي قصة الراهب المصري يوسف الإسكندر من بداية ملاده مرورًا بتخليه عن شهادته الجامعية والتحاقه بسلك الرهبنة؛ ليصبح واحدًا من أهم أربعة رهبان بالعالم، كما وصفته مجلة النيوزويك الأميركية.
إلا أن أعزهم لقلبه كان «مشمش أفندي»؛ يحكي عن شخصية كرتونية عربية وجدت في مصر بالتزامن مع فترة ظهور ميكي ماوس، حيث قرر صانعوها ترك صناعة الموبيليا والتوجه إلى الفن من خلال إنتاج فيلم بعنوان «مفيش فايدة» متأثرين بأفلام ميكي ماوس المتحركة، لتكون شخصية مشمش أفندي أول شخصية كرتونية في مصر والشرق، ولقبًا يعرف به براء في محيطه.
ويعد «صناعة الكذب» من أشهر أفلامه الوثائقية لما أثاره من جدل واسع، حيث تناول ورصد 10 طرق استخدمتها وسائل الإعلام المصرية للدفاع عن نظام مبارك أثناء ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 ولتضليل الجماهير. اعتمد الفيلم على تحليل شهادات حية مع عدد من العاملين بقطاع التلفزيون المصري وعدد من رؤساء تحرير الصحف القومية وكان من بينهم سهى النقاش ومحمود سعد، كما اهتم بتوثيق ما تعرضت له عدد من القنوات الخاصة من انتهاكات على مدار الثورة المصرية ومن بينهم قناة الحرة والعربية.
الغائب الحاضر
دعاء الشامي، زوجة براء أشرف وأم ابنتيه، في مقال تحكي فيه كيف أخبرت ابنته الكبرى، مليكة، بخبر وفاة أبيها وكيف تصرفت الطفلة.
استقبل براء عامه الثلاثين -قبل وفاته بأيام معدودة- بمقال كتب فيه: «لا أريد أن أنسى الألم، لا أريد مزيدًا من الحكايات التي تنتهي بنهايات كئيبة وحزينة، ولا أريد أن أعيش الحياة في قلق ونزق، حقد وحسد، شر وشره، كره وكسل، وأريد لو أبتعد عن القتل، قاتلاً، مقتولاً، أو شاهدًا عليه. لو يختفي القتل عمومًاً، هذه مسأله مفيدة للعالم لو يعلم، تخصه أكثر مما تخصني».
عبر براء في مقاله «عما أريده من العالم قبل بلوغي الثلاثين» عن حياة الكثيرين التائهة؛ حيث لا معالم واضحة للمستقبل أو استمتاع حقيقي بالواقع، كتب عن الزيف والحقيقة وما بينهما من غموض لا ينكشف سوى بتجارب عديمة الجدوى، عبر عن صعوبة المسئوليات وحملها وخوفه من مواجهة لحظات موت الأحباء قائلا: «أريد، لو أنني أرحل عن العالم قبل الذين أحبهم. كنت محظوظاً بحيث لم أجرب فقد الأحبة كثيرًا، أخاف هذه اللحظات، أخافها أكثر من خوفي من رحيلي الشخصي».
كما كتب قبل رحيله بسبعة أعوام على مدونته الخاصة: «إن كنت سأموت صغيرًا كما توقع لي أبي ذات مرة مازحًا، وكما قالها لي أحد أصدقائي في ساعة لوم طويلة “يا أخي إنت هتموت صغير فعلاً، بس ده مش معناه إنك تبقى مستعجل قوي كده».
في السادس من سبتمبر/ أيلول 2015 رحل البراء مستعجلاً، لكن جولة عابرة على جدران أصدقائه اليوم تخبرك أنه ما زال عالقًا هنا، بكل قوة، وأن حكاياته لم تبرح مكانها، لم يهزمها الموت.