كيف انتزعت العلوم التطبيقية مكانة «الإنسانيات»؟

يعتقد البعض أن مجال الإنسانيات والعلوم الاجتماعية يمر في الوقت الراهن بأزمة ثقافية، وذلك في ظل النظم التعليمية المعاصرة المتغيرة.

وحسب رأي الباحث «آر هوارد بلوش»، هؤلاء لا يستندون في اعتقادهم إلى قلة الأعمال الأدبية والإنتاج الثقافي في هذه المجالات المعرفية، بل إلى خلو الساحة الثقافية من الأعمال العظيمة.[1] أما الباحثة «سوزان ستيوارت» فترى أن هذا الغياب وتلك الأزمة ترجع إلى كثرة الأسئلة التي لا تجد إجابة في مجال الإنسانيات. تتعلق هذه الأسئلة بالهدف الرئيس من الحياة وغايتها المنشودة. [2]

فتحاول الجامعات والمراكز البحثية أن تستفيد من اهتمام الإنسانيات باللغة والفلسفة والتاريخ لإضفاء عمق وتفسير للظواهر المرتبطة بالاستخدام المتزايد للتكنولوجيا والاتجاه نحو كل ما هو جديد في عالم العلوم الطبيعية.

وعلى الجانب الآخر تستفيد الآداب والفنون من التقدم المعلوماتي والتقني لتطور من أشكالها التقليدية، فلم تعد تُحفظ النصوص والصور وغيرهما في أشكال ورقية بل تتم «رقمنة» وحفظ التراث الإنساني في أشكال أكثر تطورًا مثل الأقراص متعددة الوسائط والشبكة العنكبوتية، من خلال ما يسمى بـ «الرقمنة».

دور الإنسانيات والعلوم الاجتماعية في عالمنا المعاصر

ظهرت الإنسانيات في عصر النهضة لتميز ما بين دراسة الأمور الإنسانية التي تعنى باللاهوت من جهة، والطبيعة من جهة أخرى. وقد تطورت الأخيرة لتصبح مصدر العلوم المعاصرة. ولكن بقي لنا دراسة الإنسان نفسه، فالإنسان هو الكائن الوحيد القادر على دراسة ذاته كشيء أو كمكون من مكونات الكون. على الرغم من أن جزءًا من هذه الدراسات ينتمي للعلوم، إلا أن الركيزة، وهي بناء النماذج الإبداعية الأساسية تنتمي لدراسة الإنسانيات.[3]

وبالتطرق للهدف من دراسة الإنسانيات، يعتقد الباحث «إتش نورثروب فراي» أن العلوم الإنسانية هي في المقام الأول مجالات لفظية. ففي صوب تركيزها نجد اللغات والأدب. ومن حولهما الفلسفة والتاريخ. ويخلق الخيال الأدبي، بطبيعة الحال، عالمًا من الاحتمالات، وهذه الاحتمالات هي طرق بديلة لرؤية الأشياء. باختصار، فإن الهدف من الإنسانيات هو تعزيز القدرة على التعبير والصياغة.

يميل البعض، ومنهم «فراي» إلى اعتبار العلوم والآداب مختلفين عن بعضهما البعض. وهذا صحيح إلى حد ما، فالعلوم تصب اهتمامها على دراسة العالم كما هو. أما الفنون والآداب فتهتم بدراسة وتخيل العالم الذي يريد الإنسان أن يعيش فيه.[4]

ويرى «بلوش» أن دور الإنسانيات لا يقتصر على المنظور الذي يعطيه إيانا ليجنبنا الوقوع في المشكلات، ويُعِدُّنا لمواجهة الصعوبات في الأوقات الجيدة. بل تلعب دورًا هامًا في الأوقات الصعبة، فتُحتِم علينا أن نستوضح ما هو مهم حيث تقدم لنا القوت الروحي والمعنوي لمواجهة العاصفة.[5]

توفر الإنسانيات ثروة من المعلومات عن الماضي، حيث تحاول الإجابة عن طيف واسع من الأسئلة السياسية والاقتصادية والإستراتيجية الأساسية. وقد يبدو هذا بطيئًا مقارنة بالجديد في عالم التكنولوجيا، ولكن تعمل الإنسانيات على تطوير قوى قادرة على اتخاذ القرار بفطنة. فتقدم الإنسانيات الشروط التي يمكن عن طريقها فهم نوايانا واهتماماتنا وشغفنا والتزاماتنا، سواء على المستوى الفردي أو الجمعي.

في عالم «متعولم» يزداد اتصالًا وصغرًا، تُقدم الإنسانيات رؤية لما هو شائع لكل البشر. فالباحثون في مجال الإنسانيات هم اختصاصيون في النشاط البشري الأكثر تميزًا، نشاط تعتمد عليه كل المجالات البحثية الأخرى، ونعتمد عليه يوميًا، بوعي أو بغير وعي، في كل ما نقوم به؛ هذا النشاط هو التفسير، وهو ينطوي على صنع وتقييم المعاني.

فصنع المعاني يشكل عالم الآداب والعلوم، وعلى الرغم من أن الطب قد يطيل الحياة، فإنه لا يمكن أن يعطي معنى لها، فترسم العلوم الإنسانية الخطوط الفاصلة بين حياة تستحق أن نحياها وأخرى خالية من المعنى. فالتفسير، حسب «بلوش»، هو النشاط الأساسي الذي تُسهم به الفنون الليبرالية في مجالات العلوم المختلفة من أجل إعطاء معنى للموضوعات الخاضعة للدراسة تحت مظلة هذه المجالات.

وعلى الرغم من أن المجالات الحديثة والمتطورة سواء في السينما أو الإعلام تأخذ من الماضي الحديث للتكهن بالمستقبل، فقد كان للحاسوب والهاتف الخلوي، والبريد الإلكتروني والرسائل النصية تأثير على مجال الإنسانيات. وقد تحول الاهتمام بالمعرفة قديمًا للمعلومات حديثًا. وتنبع أهمية المعرفة من أنها، على عكس المعلومات، تنطوي على حكمة وحُكم أخلاقي.

وتعد قراءة الأدب الكلاسيكي، بمختلف خلفياته الحضارية، غربية كانت أو صينية أو هندية أو بوذية أو إسلامية، بمثابة طريقة إستراتيجية لفهم ثقافة وطرق تفكير الأشخاص. فيرى بلوش أنه في أرض المعركة، تعد عقول وذوات هؤلاء الأشخاص بنفس أهمية الطائرات والأسلحة للجنود على الأرض. واستشهد بمقولة الكاتب الأمريكي «نورمان ميللر» للرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي:

أما العلوم الاجتماعية فتُعرّف بأنها المجالات التي تعنى مباشرة بتنظيم وتطوير المجتمع البشري، وبالإنسان كعضو في المجموعات الاجتماعية. ويعتقد المؤرخون الأمريكيون أن «قيمة المعرفة التاريخية تكمن في تعزيز الفرد، وشحذ العقل، وتوسيع الأفق، وإعطاء عمق للروح».

ويعتقد أنصار العلوم الاجتماعية أن التاريخ يوفر الإطار، أي التسلسل الزمني، لدراسة الأحداث والقضايا والاتجاهات والشخصيات في سياقات العلوم الاجتماعية.[6]

بناءً على ذلك، فلا يمكننا أن نستوعب قضايا معاصرة ملحة فرضتها علينا التغيرات التكنولوجية والمعلوماتية، مثل معضلة حرية التعبير والرقابة على الإنترنت، دون تدخل من العلوم الاجتماعية لوضع هذه القضية في سياقها الاجتماعي.

الخلاصة

تُعاني الإنسانيات من مشكلة في عالمنا المعاصر، يصفها البعض بالأزمة. وهي نتاج عدة أسباب منها على سبيل المثال اختفاء الأعمال الأدبية العظيمة، وانخفاض قيمة الإنسانيات مقابل ما يبدو كأنه الحقيقة العليا للعلوم الطبيعية والمادية، وثبات الإنسانيات مقابل سرعة التقنيات الحديثة، بالإضافة إلى اختفاء نواة العلوم الإنسانية من الجامعات الكبرى، لتصبح الإنسانيات بمثابة «العالم الثالث» لاقتصاديات الجامعات والمدارس.[7]

ويساهم كل ذلك في الاعتقاد بأن الإنسانيات أقل واقعية وأقل إفادة من الطرق الأخرى للعيش والعمل في عالمنا المعاصر. ولكن تبقى قيمة الإنسانيات فيما تقدمه من محاولة للإجابة عن أسئلة لا يستطيع أي مجال آخر الإجابة عنها. أسئلة ذات طابع عالمي إنساني. أسئلة تمثل همزة الوصل بين البشر، حيث لا تقتصر على ثقافة أو مجتمع بعينه بل تمتد عبر البلدان والقارات.[8]

أخيرًا، لا يجب علينا النظر بتشاؤم للأزمة التي تمر بها الإنسانيات والعلوم الاجتماعية. فحتى اليوم يستمر الطلاب في التسجيل والانخراط في دروس العلوم الاجتماعية والإنسانية كما كانوا دائمًا.[9]