اليوتوبيا المروعة: النشيد الجهادي عند تنظيم الدولة
بشكل مذهل أعطى تنظيم الدولة النشيد مرونة وأهمية أكبر من أية جماعة جهادية أخرى، لدرجة الاهتمام بأناشيد خاصة بالأطفال، وعمل مسابقات إنشادية للشباب والأطفال، كما كان للنساء دور فعلي في النشيد، حيث شاركن في كتابة الأشعار.
وفي الواقع، دخول تنظيم الدولة لعالم النشيد الجهادي جاء متأخرًا، وكان التنظيم في سنواته الأولى يستخدم أناشيد من خارج صفوفه، وأول نشيد رسمي أنتجه التنظيم كان في منتصف العام 2013، وهو نشيد أصدرته مؤسسة الفرقان بعنوان «يا الله الجنة».
ثم بعد أن حقق التنظيم انتصارات عسكرية منذ العام 2013، وأعلن تمدده إلى الشام، أراد أن يستغني عن أي شيء ليس من إنتاجه، فأنشأ استديوهات ومؤسسات خاصة للمنشدين ولقراء القرآن، أبرزها مؤسسة أجناد، التي أنتجت وحدها ما يزيد عن 150 نشيدًا، بجانب مؤسسات الولايات، إنتاج غزير جدًا في سنوات محدودة، هذا إضافة لأناشيد الصدح بالنصرة التي أصدرتها مؤسسات وأشخاص من خارج التنظيم.
من الناحية الفنية، تحسنت جودة الإنتاج بشكل كبير، وزاد التنظيم من استخدام خلفيات أصوات الرصاص والتفجير، كما ركز في معظم أناشيده الكثيرة على عدد محدود جدًا من الموضوعات، والنشيد تضمن فكرة واحدة رئيسة، وعدد سطور أقل من السابق.
لكن الجديد في نشيد تنظيم الدولة ثلاثة أمور، الأول: الإنشاد بلغات عديدة – حوالي 15 لغة – ، أبرزها، الإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية والأيغورية والبنغالية، وهذه الأناشيد الأجنبية ليست مترجمة من تلك الموجودة في اللغة العربية، إنما مكتوبة ومنشدة من متحدثين أصليين.
والثاني: استخدام الكلمات العامية واللهجات المحلية: العراقية، اليمنية، السعودية، وغيرها بشكل بارز جدًا، – على الرغم من أن معظم خطابات قادة التنظيم كانت بالفصحى – ، وبدلًا من استخدام يا ليل يا ليل، تم استخدام ألا يا لالي يا لالي، ويا لالاه يا لالاه، مثلما يقول أحد شعراء ومنشدي التنظيم أبو الغرباء اليماني: «يا لالاه يا لالاه يا لَالَيِ .. يا ليتني كنت أنصاري».
ومن أبرز أناشيد تنظيم الدولة العامية، نشيد «النصر ما يأتي مع التغريد»، يحث فيه المنشد مناصري التنظيم على ترك التغريد على تويتر والهجرة إلى دار الخلافة في العراق والشام، وأيضًا نشيد «المالكي غدا مقهور» يسرد فيه المنشد انتصارات التنظيم، وقد صار النشيد الأخير ينشد بشكل طاغٍ في جلسات الترويح عن النفس:
الأمر الثالث، أن معظم موضوعات أناشيد تنظيم الدولة ركزت على العسكرة والثأر الدموي من الأعداء، وكانت هجومية وليست دفاعية، ومعظم كلمات النشيد كتبت بضمير المتكلم (نحن – أنا)، وغالبيتها مليئة بالتهديد للأعداء وأساليب العمل ضدهم، كتقطيع أوصال الجسد وصور الاحتراق بالنار، قاموس من المعجم الحربي، منه:
«سنقطع الأعناق – أتينا بذبح وجز ونحر – أتينا نملأ الآفاق رعبًا – بالسكاكين انطلقنا – سقينا السيوف بالدماء – للقتل نسعى – لا نرضى بغير فنائكم – جاء انتقامي – سنزلزل عرش الصليب – أُمطر الأعداء ناري – اقلعوا خيام الكفر من أوتادها – دكوا الشرك وأوتار الضلال – حسامي لا يمل من الضرابِ – حامت صنوف الموت – سنقطف كل رأس تمادت – اسحقوا رأس الضلال – أبشر بليل معتم بالموت رعبًا – جئنا إليكم نشفي الصدور من العلل – نحن بالإرهاب عدنا – اسحقوهم واغنموهم – شردوا حلف المخازي – حاصروهم واحصدوهم جندلوهم في الشعاب – لن تفروا لن تعودوا – سعروا الهيجا لهيبًا وادخلوا من كل باب – أشعلوا النيران في أجسادهم – منطقنا الزناد».
وعلى عكس كل الأناشيد السابقة، بشر نشيد تنظيم الدولة بانتهاء عصر إذلال المسلمين، وتحقق حلم الماضي المجيد على أرض الواقع، الخلافة على منهاج النبوة، وصورت غالبية الأناشيد السفر إلى الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، كحل في حد ذاته لكل مشاكل الأمة، لأن معقل الإسلام الحقيقي موجود، وأما الذين يشعرون بالذل والظلم فيمكنهم أيضًا السفر إلى أراضي التنظيم ليكونوا أبطالًا فاعلين في الخلافة ويعيشوا مع الإخوة والأخوات في عدل وحرية تحت راية الشريعة:
كما عمل نشيد تنظيم الدولة على التقليل من الانقسامات الموجودة بين حتى مختلف جماعات السلفية الجهادية، وتبسيط مشهد الصراع المعقد، فالعالم لونان فقط: دار الإسلام ضد دار الكفر والردة، نحن وهم، رواية موحدة للصراع وعدم التسامح من الآخر + تسليح كامل للإسلام:
إضافة للاحتفاء المبالغ بشخصية أبي بكر البغدادي وتحديد العلاقة بينه والمحكومين والتي تقوم على الطاعة الصارمة، بجانب التحريض على منافسيه وأعدائه، الذين يوصفون بمصطلحات الكفار والرافضة والمجوس والأنجاس والأوغاد والشرذمة والغدارين وصحوات العمالة، وأرابيب الطغاة، وإخوان الشياطين.
أما الغرب والولايات المتحدة فيشار إليهما بـ كلب الروم والصليبيين، وفي أحيان عديدة يشار إليهم بأسماء حيوانات، كأحفاد القرود والخنازير، في حين أن جنود التنظيم يشار لهم بالصقور والأشبال والأسود:
استحضار الماضي في نشيد تنظيم الدولة يكون فقط من خلال ذكر الانتصارات التاريخية في الحروب، وربطها بانتصارات التنظيم، صحيح أنه يُعد إحياءً للماضي، لكنه يوظفه لإضفاء الشرعية على سلوكياته، ويستخدم رموزًا متجذرة في الوعي العربي لإثارة المشاعر، وترسيخ نظرته للعالم الإسلامي، وبالتالي يشعر أفراد التنظيم بأنهم في مكانة خالد بن الوليد مثلًا، سيوف الله المسلولة على الأعداء:
بجانب المبالغة في تصوير جندي التنظيم الذي لا يمكن إيقافه ويحظى بدعم إلهي، من أجل بث الرعب في قلب كل من يقف في طريقهم، والشجاعة ترتبط بالثأر الدموي، وقد تصل إلى حد شرب دماء الأعداء كما جادت قريحة أبي محمد العدناني المتحدث الأسبق لتنظيم الدولة:
في المجمل كان نشيد تنظيم الدولة قويًا ومفعمًا بالأمل، مليئًا أيضًا بالمصطلحات الإيجابية مثل: (نور – فجر – مجد – بشرى – يا أمتي ابتهجي – باقية مثل ضوء الشمس) وبعيدًا كل البعد عن الدفاع أو الضعف أو حتى التشاؤم وتعذيب الذات الذي كان موجودًا في الأناشيد السابقة، بل الثقة من النصر الواضح والمستقبل المزدهر، كما يقول النشيد الوطني للتنظيم:
انتهت الموجة الأولى من النشيد الجهادي بملحمة الغرباء التي وجدت بالأساس كرد فعل على القهر السياسي، ثم عادت اللطمية في صورتها العالمية مع احتلال أفغانستان والعراق، لتأتي بعد ذلك ثورات الربيع العربي التي قسمت صرح النشيد بعد عقد من الوحدة والانزواء، صارع أبو هاجر مع رفاقه الذين قتل أغلبهم في إعادة تجديد النشيد الجهادي، لكن طغت حنجرة الجحيم، فهل يا ترى يعود النشيد الجهادي بشكل جديد؟