رواية «شقة الحرية»: قاهرة الستينات بعيون خليجية
مع تصاعد المد القومي في العالم العربي، وبعد ثورة 1952 التي قادها ضباط الجيش المصري الذين سموا أنفسهم حينها «الضباط الأحرار»، تعلّقت آمال الكثير من شباب العالم العربي بأحلام الحرية والاستقلال واستعادة الكرامة، وغيرها من الشعارات البراقة، وطفا على السطح عدد من الأفكار السياسية والثقافية المرتبطة بالتحرر والحراك الاجتماعي المصاحب للثورات، ولعل عددًا من الدول العربية كانت تنظر إلى التجربة المصرية، وعددًا من الدول العربية التي تلتها في الحصول على الاستقلال والتحرر من الملكية وتحوّل الدول إلى نظام جمهوري ينادي بالديمقراطية.
يلتقط الشاعر والدبلوماسي السعودي الكبير غازي القصيبي تلك الفترة التاريخية الهامة، والتي صادف أن عاش بعضًا من تفاصيلها في مصر بالفعل، أثناء دراسته الجامعية في كلية الحقوق، لينسج أحداث روايته الأولى ذائعة الصيت «شقة الحرية» والتي عدها الكثيرون شهادة ميلادٍ لأديب وروائي كبير، أثبت مع الأيام موهبته الأدبية المتميزة، وكتب بعدها عددًا من الأعمال والروايات الناجحة والتي حققت له صدى كبيرًا حتى وفاته عام 2010.
تتناول رواية «شقة الحرية» حكاية أربعة من الشباب الخليجيين القادمين من البحرين للدراسة في القاهرة، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. تدور أحداث الرواية تحديدًا منذ 1956 قبيل العدوان الثلاثي على مصر وحتى 1961 مع انفصال الوحدة بين مصر وسوريا. استطاع غازي القصيبي أن يصوّر ما كانت تموج به القاهرة في هذه الفترة الحيوية جدًا من تاريخها وتاريخ الأمة العربية من صراعات وتضاربات بين الأفكار القومية والاشتراكية والوجودية والإسلامية وغيرها من أفكار ورؤى ومذاهب.
فؤاد الطارف، وقاسم، وعبد الكريم، ويعقوب، أربعة شباب جمعت بينهم الصداقة وفرقتهم التوجهات والأفكار السياسية، ولكنهم استطاعوا أن يوائموا بين تلك الأفكار ويتقبلوا ما بينهم من اختلافات حتى يبقوا سويًا في هذه الشقة التي أصبحت ملاذهم جميعًا.
في الوقت الذي يمثل فيه قاسم صوت البرجوازيين الجدد الكارهين لجمال عبد الناصر والثورة وكل ما يمثلانه من أفكار ورؤى، يأتي يعقوب من أسرةٍ فقيرة بسيطة، يؤمن بالأفكار الثورية محملاً بالغضب والثورة، يحب جمال عبد الناصر ويسعى بمجرد وجوده في مصر إلى الالتحاق بفرق المقاومة الشعبية وقت العدوان الثلاثي، ثم يتحوّل بعد ذلك إلى مؤمن بالوجودية غارقٍ في الملذات والمغامرات النسائية.
من جهةٍ أخرى يأتي عبد الكريم من أسرةٍ متدينة، ولكنه ما إن يستقر في القاهرة حتى يذوب في تحولات المدينة الجديدة ويغرق في البداية في قصة حبٍ عاصفة، فلمّا تفشل ينتقل إلى عالم الجن والأرواح والغيبيات، ويظل هكذا مذبذبًا بين أفكاره وهواجسه.
ورغم التنويه الواضح الذي يضعه القصيبي في بداية الرواية بأن: «جميع أبطال الرواية من نسج خيال المؤلف، والوقائع المنسوبة إلى أشخاص حقيقيين هي من صنع الخيال، وأي محاولة للبحث عن الواقع في الخيال ستكون مضيعة لوقت القارئ»، إلا أن المطلع على سيرة القصيبي وبمجرد معرفته أنه حاصل على ليسانس الحقوق من القاهرة في نفس الوقت الذي كان فيه بطل روايته فؤاد الطارف في القاهرة، لا شك سيعقد مقارنات بين بطل الرواية وكاتبها، وهو ما يقع فيه الكثير من الروائيين لا سيما في أعمالهم الروائية الأولى، حيث تشتبك أجزاء من سيرتهم الذاتية وتجاربهم الخاصة مع ما يسردونه ويحكونه من أحداث ومواقف.
اتسمت الرواية بقدرٍ كبير من الانسابية والتشويق، واستطاع القصيبي أن يعبّر عن أبطاله الذكور بشكلٍ جيد، وعن أفكارهم وتوجهاتهم المختلفة، ولم يغرق في التنظير لفكرة من تلك الأفكار أو اتجاه من الاتجاهات، بل كان حريصًا على أن يمثّل كل تيارٍ نفسه ويعبر به عن نفسه بشكل جيد، ولكن ربما بقيت العناصر النسائية أبطالاً ثانوية غير واضحة المعالم والتوجهات، لم تعبّر عن نفسها بالقدر الكافي، بل بقيت طوال الوقت على الهامش وفي الخلفية، رغم أن منهم شخصيات اهتمت بالسياسة وصرفها ذلك الاهتمام المبالغ فيه عن الحب وهو الذي وجدناه في حبيبة فؤاد الأولى سعاد، أو حبيته الأخرى شاهيناز التي تركته من أجل الفن، كما وجدناه في حبيبة عبد الكريم التي قررت فجأة أن تترك قصة حبه الجميلة لتتزوج أحد ضباط الجيش.
تزخر الرواية من جهةٍ أخرى بعدد من الشخصيات العامة الهامة في ذلك الوقت، فيقابل فؤاد الطارف وأصحابه نجيب محفوظ في مقهى على النيل ويناقشونه في آرائه حول الرواية والقصة القصيرة، كما يدخل في نقاشات طويلة مع الشيخ محمد أبو زهرة رئيس قسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق، فيسأله عن الإخوان المسلمين وكيف يرى حسن البنا، وهل يتعارض الإسلام مع القومية التي ينادي بها عبد الناصر، وغير ذلك من الأفكار، بالإضافة إلى لقاء عابر يجمعهم بميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي.
بين حكايات الشباب وأفكارهم وما يدور بينهم من صراعات فكرية وأيديولوجية يضع القصيبي، على لسان بطل روايته فؤاد الطارف، عددًا من القصص القصيرة الدالة، التي تعكس وعي بطله بطبيعة الكتابة القصصية ومفهومها عنده، حيث يبدأ فيها من الرمز الذي يعبّر فيه عن مواقف مرت عليه، إلى أن ينتقل للتعبير الواقعي المباشر عن الناس في الشارع ليحكي مواقف مرت به، وهي القصص التي ربما تشير أيضًا من طرف خفي إلى تفتح موهبة الكاتب الأدبية أثناء إقامته في مصر، واشتراكه بالكتابة والحضور في الندوات التي كان يقيمها «نادي القصة» في القاهرة آنذاك.
هكذا تقدم «شقة الحرية» بأبطالها وحكاياتها وجهًا آخر للقاهرة، يرتبط بشكلٍ مباشر بأحلام الشباب في تلك المرحلة الزمنية الحاسمة، ويعبّر بشكلٍ كبير عن المرحلة القومية وما صاحبها من أفكار وصراعات، ذلك العرض الجاد والدقيق الحيادي الذي لا ينتصر لفكرة على الأخرى، وإنما يقدم ذلك الصراع كما كان وكما تمثّل في حينها، والذي ربما يكون حاضرًا حتى وقتنا الحالي بنسبٍ مختلفة متفاوتة.
غازي القصيبي روائي وأديب ودبلوماسي سعودي حاصل على دكتوراه في العلاقات الدولية، تقلّد عددًا من المناصب السيادية في المملكة كان أبزرها تعيينه مندوبًا دائمًا للمملكة في اليونسكو عام 2006، ورشح لرئاسة اليونسكو عام 2009 ، وكان آخر المناصب الوزارية التي تقلدها وزارة العمل في السعودية حتى وفاته 2010.
كتب القصيبي عددًا من المؤلفات أبرزها روايات «شقة الحرية»، و«رجل جاء وذهب»، و«أبو شلاخ البرمائي»، و«العصفورية» وغيرها. كما كتب «حياة في الإدارة»، وكتب مشاهداته عن حرب الخليج الثانية في كتاب «في عين العاصفة» ، كما كتب في أدب الرحلات «باي باي لندن» و«العودة سائحًا إلى كاليفورنيا» وغيرها من الكتب والمؤلفات الهامة.
تجدر الإشارة إلى أن رواية «شقة الحرية» تم تحويلها إلى مسلسل تلفزيوني بنفس الاسم عام 1996 بإنتاج سعودي، كتب له السيناريو والحوار «ممدوح الليثي» ومن إخراج مجدي أبو عميرة.