مع بداية عرض فيلم أوبنهايمر لكريستوفر نولان في الثلث الأخير من شهر يونيو/حزيران من هذا العام، ومرور توقيت عرضه بذكرى إلقاء أول قنبلة نووية في السادس من أغسطس/آب عام 1945 على مدينة هيروشيما، ثم بعدها بيومين على ناجازاكي، انتقد البعض عدم ظهور أي آثار للمعاناة التي مر بها اليابانيون أصحاب المأساة الحقيقية في الحكاية، وأن الفيلم الذي يتحدث عن صناعة القنبلة النووية لم يُظهر تأثيرها أو الضرر الواقع منها، بل انغمس في مدته الطويلة في مشاعر شخصيته الرئيسية.

اقرأ أيضًا: فيلم «Oppenheimer»: محاكمة تاريخية لمستقبل مخيف

يسهل الرد على تلك الانتقادات بأن الأفلام لا يجب أن تغطي كل شيء في مرمى بصرها، بل إن غياب الطرف الذي يراه أوبنهايمر وسياسيو أمريكا (الآخر) هو عنصر رئيسي لغياب تعاطفهم وانغماسهم الكامل في ذواتهم وأفكارهم القومية، ولوضع الفيلم الذي أصبح من أنجح أفلام الموسم في شباك التذاكر على مستوى العالم في سياقه المنطقي بدلًا من الانغماس مثل أبطاله في دواخل علماء وعسكريين يتعذبون بسبب ذنب زائف، فإنه من المنطقي مشاهدة بعض الأفلام الصادرة من موقع الحدث نفسه: اليابان.

تناولت أفلامٌ يابانية عدةٌ أحداث القنبلة النووية وتأثيرها، ولم تصدر بأثر بعيد واستعادي، بل لحقت الحرب بسنوات قليلة، صوَّر بعضها تأثير الحدث نفسه وقت وقوعه، وبعضها تناول الأمراض المستمرة الناتجة عن الإشعاع، وتعامل بعضها مع الدمار المحقق في صورة مجازية أو صورة حرفية مروعة يصعب النظر مباشرة إليها.

ضد الحرب وليس العدو

سلام غير عادل أفضل من حرب عادلة.
من فيلم مطر أسود 1989

في عام 1952 صدر فيلم «أطفال هيروشيما – children of hiroshima»، أو أطفال القنبلة النووية، أخرجه وكتبه كانيتو شيندو بِناءً على شهادات شفوية ممن شهدوا القنبلة النووية على هيروشيما، والتي جمعها أراتا أوسادا في كتاب بالاسم نفسه.

وفي ظل توتر سياسي وعسكري ورقابة أمريكية على المحتوى السينمائي الياباني، طلبت رابطة المعلمين اليابانية من شيندو صناعة الفيلم، وتمحور السرد الرئيسي حول شابة تعمل معلمة في المدينة تعود لأرضها هيروشيما لتُلقي التحية على مقابر ذويها الذين لاقوا حتفهم بسبب القنبلة النووية، وفي جولتها حول مدينة في طور التعافي تتأمل الطبيعة من حولها وإعادة الإعمار، والأطفال والكبار المنكوبين من الأمراض المتسربة من الإشعاع، يصوِّر الفيلم هيروشيما في وضع هادئ كما لم يُعتَدْ تصويرها، تلاحق صور السماء والطيور وأصوات جريان الماء رواية صوتية تخبرنا أن كل شيء يمضي، وبعد موته يحيا من جديد، لكن هذا فيما يخص الأرض والنبات والمباني، أما فيما يخص البشر فإن من يمضي لا يعود.

مشهد من فيلم children of hiroshima 1952

انتُقد الفيلم لكونه غير سياسي ولا يحوي نقدًا مجتمعيًّا واضحًا أو يلقي اللوم على قوى دون غيرها، كما أنه يركز على جعل اليابان ضحية دون النظر إليها كجانٍ في الحرب، بجانب أنه يموضع معاناة هيروشيما من أعين شخص لا يسكنها، لاقت معظم الأفلام المصنوعة عن القنبلة النووية نقدًا مشابهًا وقتها نظرًا لصدورها بعد فاجعة الحرب بسنوات قليلة، بعد عام واحد سوف تكلِّف الرابطة هيديو سيكجاوا بفيلم هيروشيما 1953 hiroshima كمصحح لأطفال هيروشيما، والذي – على الرغم من تشابهاته مع الفيلم السابق فيما يخص المعاناة مع المرض وقصص أطفال المدارس – كان أكثر جرافيكية وقسوة، كما أنه أكثر سياسية وجرأة نقدية.

مشهد من فيلم hiroshima 1953

يصف دونالد ريتشي تصوير هيروشيما في السينما اليابانية، في مقاله “عبور الحياة: هيروشيما في الأفلام mono no aware: hiroshima in film”، بأنه كارثة tragedy وليس فعلًا وحشيًّا Atrocity، ففي كثير من أفلام القنبلة النووية لا يُذكَر العدو الأمريكي بالاسم بشكل تكراري، ولا تتبع الأفلام صيغة أفلام الحرب، بل إنها أقرب لأفلام الكوارث الطبيعية، ربما لتشابه الحدث الذي لم يسبق لأحد رؤية مثله مع الأحداث الكونية: برق ساطع يعمي الأبصار، حريق هائل لا ينجو منه أحد، وصوت مدوٍّ لا يقارن إلا بإنذار لنهاية الأرض كما نعرفها، تتمثل القنبلة النووية في الأفلام اليابانية كمأساة ممتدة تتحدد قيمتها بقيمة هشاشة الحياة وحتمية الموت، صُبغ بسببها اسم هيروشيما بالموت والبعث، يُلقَى اللوم في تلك الأفلام على تقاعس الإمبراطور والجيش الياباني نفسه وهوسهم بإكمال الحرب المحتم خسارتها أكثر من الفعل الوحشي الأمريكي، فتصبح الأفلام ضد الحرب نفسها وليس أعداء الحرب.

المعاناة دون خجل

صدر معظم أشهر الأفلام المتناولة تأثير القنبلة على هيروشيما وناجازاكي، وخاصة هيروشيما، بعد وقت قصير من الحادث نفسه في أوائل الخمسينيات، وعلى الرغم من قصر المدة الزمنية فإن آنية الموضوع المتناول لم تقل نهائيًّا، تتعامل تلك الأفلام مع الحدث بشكل يجمع الاستعادي بالآني عن طريق تصوير الكارثة نفسها ثم الآثار المترتبة عليها، يدور الكثير منها حول أمراض القنبلة النووية وامتداد شبح الموت لما بعد وقوع الحادث، فمن لقي حتفه وقتها فقد لاقى خلاصه، أما من عاشوا ليحكوا ما حدث أو ليعانوا منه لبقية حياتهم القصيرة هم من تهتم بهم الحكايات، في هيروشيما 1953 وأطفال هيروشيما 1952 والمطر الأسود Black rain 1989 يتركز السرد على الأمراض التي نتجت عن القنبلة، عن العيش الدائم في خوف من التعرض للإشعاع دون الموت بسببه، وفي الأفلام الثلاثة يتم استرجاع الحدث بشكل جرافيكي مروِّع.

يظهر من لاقوا حتفهم ومن نجوا بتفاصيل دقيقة ومتكررة؛ لأن الناجين أو بشكل أدق الضحايا المؤجلين مشاركون بشكل ما في صناعة الأفلام، في هيروشيما 1953 يظهر بعض الناجين في وسط جموع المعرضين للقنبلة، وفي أطفال هيروشيما 1952 يعتمد شيندو على روايات أطفال لصياغة حكاية شبه توثيقية معاد تمثيلها، لا تخشى تلك الأفلام أو تتجاهل المعاناة بأسوأ صورها، ليس لاستدرار التعاطف ولكن لوضع المتلقي أمامها كأمر واقع، كشيء معيش ببطء مضنٍ وغير قابل للتصور مهما بُذل مجهود سينمائي في تصويره، يقضي فيلم هيروشيما حوالي نصف وقته في تصوير أهوال مستمرة، بشر في أوضاع غير بشرية تستحيل أجسادهم من التماسك إلى الاهتراء، يتحركون على غير هدًى إلى ما يتصورون أنه نجاة حتى يلحق بهم الموت بعد المحاولات المضنية للهرب منه، تمثل مشاهد هيروشيما ماضيًا ليس بعيدًا يلحق به الحاضر في صورة أمراض تهاجم أصحابها فجأة، أو بالتدريج لأن ما أصابهم أشبه بلعنة ممتدة.

يظهر تأثير الخوف الممتد من المرض في المطر الأسود لشوهي إيمامورا الذي يصوِّر حياة هادئة لأفراد عائلة تعرضوا للقنبلة النووية لكنهم نجوا منها، ويركز بشكل رئيسي على فتاة تدعى ياسوكو مقبلة على الزواج، لكنها تخشى أن يعلم أحد أنها تعرضت للمطر الأسود، وهي أمطار مسمومة سقطت على هيروشيما يوم الكارثة، يستعيد الفيلم الحادث نفسه في لقطات استرجاعية تصور الأهوال المعيشة وقتيًّا لكنه يركز أكثر على الحياة المضنية في ظل التهديد بالموت المحتم، بالعيش في خوف ممتد بلا نهاية سوف يلحق بالجميع فتصبح لفظة ناجٍ غير ذات معنًى، فلا أحد ينجو.

تمتد تصورات المأساة وقت حدوثها إلى الرسوم المتحركة في فيلم جن الحافي barefoot gen 1983 من إخراج موري ماساكي المبني على مانجا (قصة مصورة يابانية) بالاسم نفسه لكيجي ناجازاوا، نظرًا لسيولة وحرية الوسيط أكثر من الصورة الحية فإن مشاهد تأثير القنبلة في جن من أكثر المشاهد التراجيدية ترويعًا، باستخدام مبالغات بصرية مصورة ببطء يستحيل على الصورة الحية تصويرها، يمكن رؤية لحظة تفسخ جسد ما من نفسه أو سقوط كرة عين من مقلتها، يركز جن بالكامل على وقع المأساة على أسرة صغيرة؛ أم حامل وأب وطفل وأخيه، يُفقَد الأب والأخ الأصغر، ويظل الطفل في محاولات لحماية والدته وأخته الجديدة التي ستولد حرفيًّا في رحم المأساة.

المقاومة بالسينما

لو كان جودزيلا ديناصورًا أو حيوانًا آخر، كان من الممكن التخلص به بواسطة مدفع، لكن إذا كان مساويًا لقنبلة نووية، فلن نستطيع ذلك، لذلك أخذت سمات القنبلة النووية وطبقتها على جودزيلا.
إيشيرو هوندا

بعد عام واحد من هيروشيما وعامين من أطفال هيروشيما صدر فيلم يحمل اسم واحد من أشهر الكيانات السينمائية: “جودزيلا”  1954، أخرجه إيشيرو هوندا، ولم يصبح فيما بعد حكرًا على السينما اليابانية، بل مثل كينج كونج أصبح شخصية عالمية وجزءًا من الثقافة الشعبية العامة، لكنه وُلِد من رغبة في صناعة نوع آخر من النقد المجتمعي للقنبلة النووية بدون تمثيل مباشر للحادثة، باستخدام السينما النوعية وخاصة نوع فيلم الوحوش للتعليق على العنف النووي والعسكري في إطار سينما تجارية نوعية تستخدم الوحوش كإحالات للكوارث الحربية، أصبح جودزيلا رمزًا يابانيًّا نسي الكثيرون أصله، وأنه وليد القنابل النووية والهيدروجينية، خاصة بعدما تبنته السينما الأمريكية في سلاسل نصف ناجحة لا تزال تصدر حتى الآن.

مشهد من godzilla 1954

ولدت فكرة جودزيلا بعد شهور من وقوع حادث لمركب صيد إثر تجريب هيدروجيني أمريكي، مما أحيا من جديد النشاط ضد الأسلحة النووية والمخاوف من هولوكست نووي محتوم، يتعامل الفيلم مع أسطورة يابانية شعبية قديمة عن وحش يقبع تحت الماء، لكن في إطار يابان ما بعد الحرب يصبح حقيقة كأي كارثة أخرى، لا يوجد في الفيلم ما يجعله فيلمًا خياليًّا بالشكل التقليدي، فمفاجأة سكان المدن بالدمار الصادر عن الوحش لا يختلف كثيرًا عن الكوارث الطبيعية أو القنابل النووية، حسب سردية الفيلم فإن التجارب الأمريكية للقنابل الهيدروجينية تحت سطح البحر هي ما أيقظ جودزيلا من سباته غاضبًا يعيث فيما حوله فسادًا، تنقسم السردية الرئيسية إلى قسمين، وهو تأثير التجارب النووية والدمار الصادر عنها، وسردية موازية تعكس أوبنهايمر نفسه في عالم ياباني آخر يستخدم سلاحًا مدمرًا في محاولة لإنقاذ بلاده، لكنه يأبى أن يعيش لكي يستخدمه مرة أخرى.

مشهد من فيلم labyrinth of cinema 2019

تطرح تلك التصورات السينمائية تساؤلات عن إعادة تمثيل الفظائع البشرية والمآسي الإنسانية ومدى تأثيرها، وعن دور السينما أو التمثيل البصري بشكل عام في ترسيخ الأحداث التاريخية الكبرى أو صناعتها.

يتعامل الفيلم الأخير لنوبيهبكو أوباياشي «متاهة السينما – labyrinth of cinema 2019» مع تاريخ الأفلام الحربية اليابانية، من البروباجندا حتى أفلام ضد الحرب، باستخدام تقنيات بصرية متعددة وخيال لا نهائي يستدعي تقنيات سينمائية من تواريخ متناثرة تتداخل مع الواقع داخل الواقع السينمائي، يموضع الفيلم هيروشيما كذروة سرده، ويتساءل بصوت عالٍ عن الدور الذي تملكه السينما في مواجهة المأساة التي يستحيل إيقافها، يستخدم أوباياشي لمسة خفيفة وكوميدية تدخل أبطال فيلمه داخل عوالم الأفلام كمسافرين من عالم إلى آخر، ويرى أن السينما لا يمكنها تغيير الماضي، لكن ربما بمقدورها تغيير المستقبل بتمثيل الماضي وإظهار حقيقته.

وعلى الرغم من رومانسية هذا الطرح فإن العجز  يصيب الشخصيات أمام حدث وتاريخ معين يعرفون جيدًا ما هو على وشك الحدوث فيه عندما تصل رحلتهم إلى هيروشيما في السادس من أغسطس 1945، يضعنا ذلك مجددًا أمام محدودية الفن أمام العنف، تحاول الشخصيات تحذير سكان المدينة «سكان الفيلم» من قنبلة وشيكة، لكن لا يمكن لأحد بشكل استعادي أو آني أن يتصور أن ذلك بإمكانه الحدوث فعلًا، حتى إن حذرك أفراد قادمون من المستقبل أن الوضع سيتحول من الحياة إلى الموت في أقل من ثوانٍ.

بشكل ما يصبح تمثيل الواقع في السينما أكثر واقعية من الواقع نفسه كما يرى الفيلسوف الفرنسي جان بوردريار، لذلك عندما يتعلق التمثيل البصري بحادث غيَّر مسار التاريخ فإن الحساسية تجاه التناول تصبح ضرورية، وإمكانية التعرض للنقد اللانهائي سواء كان صانع الفيلم من مكان الحادث أو من خارجه تصبح أكثر حضورًا، لكن على أي حال من المهم التعرف على رؤية صناع السينما أنفسهم لمجتمعاتهم والمجتمعات الغريبة عنهم في وقت التغيرات التاريخية الكبرى، وكيف من الممكن أن تصبح السينما وعاءً لشهادات الناجين وحافظة لذكرياتهم وللتاريخ الذاتي والعام لأطول مدة ممكنة.

اقرأ أيضًا: فيلم «Oppenheimer»: كريستوفر نولان يحكي قصة رسول الموت