المهدئات: شر مطلق أم دواء لا غنى عنه؟
الساعة الآن هي السابعة صباحًا، وبدأت أشعة الشمس تغزو فراغ الغرفة من حوله عبر النافذة نصف المغلقة، ورغم ذلك لم ينجحْ النوم على مدار خمس ساعات كاملة -مرت عليه كأنها خمسة أيام- في أن يغزوَ عينيْه، رغم استلقائه في السرير طوال تلك المدة، والإرهاق الشديد الذي عصف به على مدار يومٍ من العمل الشاق. كان الأقسى من كل هذا، أنه مُضطر رغم هذا الاختفاء القسري للنوم، إلى النزول في العاشرة صباحًا، لحضور اجتماعٍ بالغ الأهمية، أمّا الأشد قسوة، فهو أن ذهنه لا بُد أن يكون أعلى درجات الحضور، لأن العديد من القضايا المصيرية تنتظر الحسم في ذلك الاجتماع.
كان يشعر بحاجة ماسة للنوم ولو لساعتيْن فحسب، يجددان بعضًا من روحه وطاقة عقله، ويكسران حالة التوتر التي تعصف به، ودوامات التفكير الجنونية التي تسحب خلايا مخه حتى النخاع إلى أعماق مُهلكة من القلق والأفكار السلبية. تذكّر الدواء المُهدئ الذي وصفه له أحد أصدقائه بناءً على تجربةٍ شخصية، وكيف ساعده على النوم سريعًا وبعمق في حينه، وكيف شعر تجاهه بامتنان، بالرغم من الحالة العجيبة التي سببها له من الإرهاق والتناوم وعدم الاتزان طوال اليوم التالي.
خشي أن يلجأ لذلك الدواء في هذا الوقت الحرج، فيتعذر إيقاظه، ويتخلّف عن عمله. مرَّ اليوم بسلام، أو للدقة بأقل قدرٍ من الخسائر، لكنه شعر طوال ذلك اليوم الذي لا ينتهي أنه بنفس نشاط وحدة ذهن الزومبيز الذين يظهرون في أفلام الرعب الهووليودية.
القصة المذكورة في صدر المقال متكررة للغاية مع ملايين البشر كل يوم، ويحدث ما هو أشد منها سوءًا وأكثر فتكًا، من جرّاء اضطرابات القلق والتوتر وما يصاحبها من أرقٍ واضطراب في النوم، وتأثير ذلك على أداء الإنسان في كافة جوانب حياته العملية والاجتماعية. كل هذا يدفع الملايين يوميًا للاتجاه إلى المهدئات التي تساعد في السيطرة على القلق، وضمان بضعة ساعات من النوم يوميًا. لكن هل المهدئات هي الحل السحري الذي عثرت عليه البشرية؟
اقرأ: الأرق يقتلنا: هل يمكن تنظيم النوم؟
على شكل أسئلة وأجوبة سريعة، سنبرز أهم ما ينبغي معرفته عن تلك المُهدئات، والطرق المُثلى للاستفادة منها دون حدوث أضرار إن أمكن.
ما هي المهدئات؟
تعرف بالـ anxiolytics والترجمة الحرفية لذلك المصطلح هو مضادات القلق. وهي أدوية تتدخل في الميزان الطبيعي القائم داخل خلايا أمخاخنا بين النواقل الكيميائية العصبية المحفزة والمهدئة، فتكبح النشاط الزائد للمحفزة، وتُنشِّط المُهدِّئة.
وأشهر تلك المهدئات، وأكثرها استخدامًا، مجموعات البنزوديازيبينات benzodiazepines، والتي تضم العديد من العلامات التجارية التي يعرفها الكثيرون مثل الزولام والزاناكس والفاليوم… إلخ، وتمتاز تلك المجموعة مقارنة بالمجموعات الأقدم من المهدئات والمنومات، بأن تأثيرها المُهدئ يقتصر على مراكز النوم واليقظة، دون أن يؤثر بشكل ملموس على مراكز التنفس والتحكم في ضربات القلب، مما يُقلل آثارها الجانبية الخطيرة.
وهي تختلف عن بعضها البعض في الكثير من التفاصيل، لكن أهمها هو سرعة ظهور المفعول ومدته، فمنها فائق السرعة قصير المفعول مثل الميدازولام، الذي يُستخدم كثيرًا في التخدير الطبي للتدخلات السريعة كالمناظير، ومنها البطيء طويل المفعول مثل الكلورديازوبوكسيد الذي يستخدم في السيطرة على أعراض الانسحاب بعد وقف الكحوليات.
ما أبرز الدواعي الطبية لاستخدامت المهدئات؟
لدينا قائمة طويلة من تلك الدواعي الطبية، وأبرزها:
- اضطرابات القلق والتوتر النفسي.
- التشنجات الصرعية الحادة.
- للسيطرة على أعراض انسحاب الكحوليات أثناء العلاج من التعاطي المُفرط للكحول.
- الأرق واضطرابات النوم، لا سيما الناجمة عن الإصابة باضطرابات القلق.
- كجزء من عملية التخدير الطبي، لا سيَّما كمنوم قصير المفعول في التدخلات الطبية السريعة مثل المناظير وتعاطي الصدمات الكهربية للقلب… إلخ.
ما أبرز الآثار الجانبية لتناول المهدئات؟
- التعود عليها مع طول الاستخدام، مما يؤدي إلى أعراض انسحابية معكوسة في حالة إيقافها بشكلٍ مفاجئ، مثل تفاقم القلق والتوتر العصبي، والأرق الشديد، وقد تصل أحيانًا إلى حدوث التشنجات العصبية.
- فقدان مؤقت للذاكرة، وإن كان هذا الأثر الجانبي يعتبر من مزاياها في التخدير الطبي، لأنه يجعل المريض لا يتذكر تفاصيل الإجراء الطبي المُقبل عليه، والألم والقلق المصاحبيْن له.
- الإحساس بالغثيان والإرهاق الشديد، لا سيَّما في صباح اليوم التالي بعد الاستخدام.
- على المدى البعيد، تؤثر سلبًا على كفاءة الوظائف العليا للمخ مثل التفكير والذاكرة.
- في حالة تناول جرعات كبيرة، قد تؤدي إلى هبوط ضغط الدم وضربات التنفس.
هل هناك إدمان للمهدئات؟
للأسف نعم، وهو ذائع الشيوع، نظرًا لسهولة الحصول عليها نسبيًا، واستسهال تعاطيها من قِبَل الكثيرين، وشيوع استخدامها دون آثار جانبية كبيرة في البداية.
مع طول الاستخدام، تقل فاعلية نفس الجرعة، مما يؤدي بالشخص إلى تعاطي جرعاتٍ أكبر للحصول على التأثير الذي كان يحصل عليه بجرعاتٍ أقل، فيصبح بمرور الوقت أكثر اعتماديةً على تلك المهدئات، وأكثر قابلية لحدوث مضاعفات الجرعة الزائدة والتي قد تصل في حالاتٍ عديدة إلى هبوط شديد في الدورتيْن الدموية والتنفسية، والسقوط في الغيبوبة التامة، والوفاة.
اقرأ: الستروكس: موت جديد يغزو شوارع مصر
كيف أُحسِن استخدام المهدئات؟
أولًا: اللجوء إليها للضرورة القصوى، وليس بشكلٍ يومي، إلا أن يكون هذا بأمر طبيبٍ مُختص يرى أن الحالة الصحية النفسية والعصبية تستدعي ذلك.
ثانيًا: عدم الارتكاز على تجارب الآخرين في الاستخدام، فلكل حالة خصوصيتها، واستجابة كل جسم قد تختلف إيجابًا وسلبًا.
ثالثًا: استشارة الطبيب قبل تعاطي أية أدوية أخرى تؤثر على المخ أثناء تعاطي المهدئات، وتجنب تعاطيها مع الكحوليات.
رابعًا: الالتزام بالعلاج المعرفي السلوكي CBT وتغيير نمط الحياة، أثناء برنامج علاج اضطرابات القلق، لزيادة فاعلية المهدئات، وتسريع الشفاء، وبالتالي تقليل جرعة ومدة تعاطيها.
خامسًا: في حالة تعاطي المهدئات لفترة، يُمنَع التوقف المفاجئ عن استخدامها، وذلك لتجنب حدوث أعراض الانسحاب، ولابد من الرجوع للطبيب لرسم خطة سحب المهدئات تدريجيًا.
اقرأ: متلازمة الإجهاد المزمن: كيف نتغلب على مرض العصر؟
الخلاصة
لا مانع من استخدام المهدئات من خلال وصف طبيب الأمراض العصبية والنفسية المختص لها، في الحالات التي يرى التقدير الطبي أنها بحاجة إلى ذلك. أمّا بالنسبة لعموم الناس، فالأولى بذل الجهد في الوسائل الطبيعية لتهدئة الانفعال والأرق، كتعليمات النوم الصحي، وآليات التعامل الإيجابي مع الضغوطات النفسية، والتي تبدأ بالضحك والابتسامة والتجول في الأماكن المفتوحة، مرورًا بحسن تنظيم الوقت بين العمل والاسترخاء، والسفر برفقة الأصدقاء من حينٍ لآخر، والرياضة المعتدلة المنتظمة.