بين القلق والاكتئاب: كيف يؤثر كورونا على صحتنا النفسية؟
كورونا المستجد أو كوفيد-19.. أسماء لفيروس ظهر منذ شهور لينتشر في معظم دول العالم، لم يترك خلفه جثثًا لأكثر من 180 ألف شخص وأكثر من مليوني ونصف المليون مصاب فقط، إلى جانب خسائر مالية فاقت التريليونات من الدولارات، لكن ترك نفوسًا محطمة ووضع أنماطًا جديدة للبشر وخلق حالة نفسية تكاد تكون جماعية في العالم، فازداد القلق والضغط النفسي وظهر الوصم الاجتماعي والسعي إلى اكتناز الغذاء وحتى السلاح خوفًا من وباء خفي يقود الجميع للجهول، ليمحو ظواهر نفسية كامنة في البشر ويخلق أخرى ويحطم قيمًا أخرى راسخة منذ قرون.
من السخرية إلى القلق والخوف
مع انتشار فيروس كورونا المستجد تنوعت ردود الفعل بين السخرية واللا مبالاة، لم يتصور أحد أن هذا الفيروس سيصبح كابوسًا يسلب البشر حياتهم، لكن مع سرعة انتشاره وتزايد عدد الإصابات، ومختلف الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومات على مستوى العالم من قبيل غلق المطارات وفرض حظر التجول، بدأت موجة السخرية وعدم المبالاة في التراجع تدريجيًا لتحل محلها موجة من الخوف والقلق مصحوبة بعدد من الضغوط النفسية.
فاقم هذه الضغوط التداعيات الاقتصادية والاجتماعية التي طالت ملايين البشر حول العالم، واضطرتهم إلى البقاء في المنازل لأجل غير مسمى، فلم يعد بإمكانهم ممارسة أعمالهم، وعانى الكثير منهم البطالة سواء الكلية أو الجزئية.
فقد تسبب تفشي الفيروس المستجد في وضع ما لا يقل عن 16.8 مليون أميركي على قوائم البطالة في غضون ثلاثة أسابيع فقط، وأعلنت واشنطن عن خسارتها نحو 701 ألف وظيفة في مارس الماضي، ما مثل أكبر خسارة للوظائف منذ الكساد الكبير.
وفي كندا، فقد أكثر من مليون كندي وظائفهم خلال الشهر ذاته بسبب كورونا، حيث ارتفع معدل البطالة إلى 7.8% من 2.2% مقارنة بشهر فبراير الماضي. وفي فرنسا، أكدت التصريحات الرسمية لوزيرة العمل أن 3.6 مليون فرنسي سيكونون في بطالة جزئية بسبب كورونا. أما بريطانيا، فطبقًا لتوقعات غرفة التجارة فستستغني نحو 50% من الشركات عن موظفيها مؤقتًا.
ليس هذا فقط، فمختلف التوقعات التي صدرت عن المنظمات الدولية بشأن ما سيؤول إليه سوق العمل حول العالم كانت قاتمة ومتشائمة، حيث توقعت منظمة العمل الدولية حدوث تسريح كبير في عدد العمال بالدول العربية، بما يعادل 5 ملايين عامل بدوام كامل. وفي أوروبا نحو 12 مليون عامل بدوام كامل، أما آسيا والمحيط الهادئ 125 مليون عامل بدوام كامل، مشيرة إلى احتمالية إلغاء 6.7% من إجمالي ساعات العمل في العالم في النصف الثاني من عام 2020، أي ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل.
معدلات البطالة المتوقعة من شأنها أن تساهم في تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للملايين حول العالم خاصة من يرزحون تحت أعباء مالية بالفعل، ما يساهم بالنهاية في ظهور عدد من الاعتلالات النفسية من قبيل الاكتئاب والانعزال وانتشار النزعات العدائية وقد يصل الأمر إلى التفكير في الانتحار. وإذا أضفنا إلى هذا التوقعات الدولية بزيادة عدد الجوعى في العالم ووصولهم إلى 265 مليون جائع بنهاية هذا العام فقط، تبدو التداعيات المتوقعة أكثر قتامة.
الخوف: الطريق إلى الوصم الاجتماعي
رغم حدة هذه التداعيات وكونها عامل أساس في زيادة الضغوط النفسية، لكنها ليست السبب الوحيد. فقد تضافرت مجموعة من العوامل التي خلقت حالة من القلق والضغط النفسي من بينها سرعة انتشار العدوى، والغموض والخوف مما هو قادم حيث لا يعرف أحد متى تعود الحياة إلى طبيعتها.
بالفعل ترجمت الآثار النفسية لهذا الخوف فعليًا على أرض الواقع وظهرت في حالات تكديس السلع الغذائية والتهافت عليها، وارتفاع مبيعات السلاح بعدد من الدول تحسبًا للأسوأ، فضلاً عن حالات الوصم الاجتماعي المصاحبة لفيروس كورونا سواء على المستوى الدولي أو المحلي.
فدوليًا، ظهرت العنصرية وجرائم الكراهية التي تعرض لها الآسيويون عامة والصينيون خاصة. ومحليًا، أدى تمدد رقعة انتشار الفيروس وارتفاع أعداد المصابين والوفيات، إلى زيادة مخاوف الناس، واتساع ظاهرة الوصم المجتمعي والتنمر على المصابين بالفيروس والمتوفين به وذويهم.
ظهر ذلك جليًا بمصر في مشاهد عدة كان أبرزها رفض أهالي قرية شبرا البهو في الدقهلية دفن طبيبة توفيت بعد إصابتها بالفيروس، ولم يتم دفنها إلا بعد أن تدخلت الشرطة لتفريق الأهالي. وهو الأمر الذي تكرر في عدد من القرى والمحافظات مثل الغربية وإن كان لم يثر الضجة التي أثارها مشهد رفض دفن الطبيبة.
كما تكرر مع الطواقم الطبية، حيث عانى عدد منهم من حوادث تنمر ومضايقات واتهامات بنشر الفيروس ووصل الأمر إلى تجمهر عدد من الأهالي لطرد طبيبة تعالج مصابي فيروس كورونا ومنع دخولها المنزل خشية انتقال العدوى إليهم.
ولعلك رأيت الكثير من الكوميكس على مواقع التواصل الاجتماعي التي تناولت الحالة التي يعيشها الأطباء بعد انتشار الفيروس، حيث خوف الأفراد من نقل الأطباء للعدوى بدلاً من تقديم الدعم في مواجهة المخاطر التي يواجهونها.
الملاحظ بهذا الصدد أن الخوف من المرض ومختلف سلوكيات الوصم الاجتماعي لم تقف تداعياتها عند هذا الحد، بل امتدت إلى المساهمة في ارتفاع نسبة الوفيات بكورونا، الأمر الذي أعلنه صراحة ممثل منظمة الصحة العالمية في القاهرة جون جبور موضحًا أن 30% من الوفيات بكورونا في مصر قضوا نحبهم قبل الوصول إلى مستشفيات العزل والعلاج، وأن مخاوف الوصم بالمرض كانت أحد الأسباب وراء تأخر الإبلاغ عن الحالات.
التباعد الاجتماعي: سبب رئيسي في شعورك بالقلق
إلى جانب الخوف من العدوى، ساهم الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي في زيادة حالة القلق، فالانغلاق القسري بين جدران البيت لعدة لأسابيع، أمر غير اعتيادي يتسبب بالعديد من المشاكل والاعتلالات النفسية ويفاقم ما هو موجود منها لدى كثير من الأفراد خاصة من يفشلون في التعاطي معه بشكل إيجابي. تمثلت أبرز هذه الاعتلالات في ارتفاع معدلات العنف المنزلي والطلاق حول العالم، ما دعا الأمم المتحدة أن تصدر توجيهات للحث على وقف العنف الزوجي في المنازل.
ففي الصين، وخلال ثلاثة أسابيع فقط في الفترة من 24 فبراير الماضي حتى منتصف مارس، تقدم نحو 300 من الأزواج بطلبات للطلاق. وفي بريطانيا تصاعدت المطالبات الرسمية بوقف العنف ضد النساء والأطفال في المنزل. وكذلك هو الحال في ألمانيا وفرنسا حيث التحذيرات من تزايد العنف المنزلي. معظم هذه الاعتلالات نتيجة الإجهاد النفسي وارتفاع حالة التوتر ما يجعل المزاج حادًا، وفي حالة وجود أي خلاف أو جدل بسيط قد يتطور الأمر سريعًا إلى استخدام العنف وينتهي بالخصومة أو الطلاق.
على الجانب الآخر، ساهم هذا العزل والتباعد الاجتماعي في زيادة معدلات الاكتئاب والشعور بالوحدة نتيجة فقدان البشر للتفاعل الاجتماعي مع الآخرين، الأمر الذي يؤثر ليس فقط على الصحة النفسية ولكن الصحة الجسدية، حيث أشارت العديد من الدراسات من بينها دراسة أجرتها شركة أجرتها Cigna للخدمات الصحية العالمية بالولايات المتحدة، إلى أن الشعور بالوحدة مرتبط بزيادة خطر الإصابة بالسكتة الدماغية وأمراض القلب.
هكذا مع تحول حالة التباعد والعزل من أسابيع إلى أشهر، تزداد المعاناة الصحية والنفسية للعديد من الأفراد حول العالم، كما هو الحال في الولايات المتحدة. فطبقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة كايزر الأمريكية، فما يقرب من نصف الأمريكيين يشعرون بأن أزمة كورونا وحالة التباعد الاجتماعي قد أثرت بالفعل على صحتهم النفسية والعقلية، وأن الأمر تصاعد إلى مستوى الصدمة النفسية على مستوى البلد.
في المقابل عمدت مختلف الدول من بينها مصر إلى الإعلان عن برامج إعادة التأهيل وتقديم الدعم النفسي للمصابين بالفيروس أو من تظهر عليهم الاضطرابات النفسية، فتم تخصيص أرقام ووسائل عدة لتقديم المساعدة. وهو أمر عادة ما يحدث بعد الأزمات والكوارث والحروب أو الأوبئة كما هو الحال اليوم.
الضغوط النفسية ليست حكرًا على كورونا
بنظرة سريعة إلى حالة الضغط أو الصدمات النفسية التي يعانيها الأفراد حول العالم، يتضح أنها ليست حكرًا على فيروس كورونا الجديد، بل أمر طبيعي سبق أن حدث وتكرر مع مختلف الأوبئة التي شهدها العالم قبل ذلك.
طبقًا لدراسة بمجلة ساينس نيوز الأمريكية، تسبب تفشي وباء السارس وإنفلونزا الخنازير والإيبولا في معاناة العديد من الأفراد المعزولين من مشاكل الصحة النفسية والعقلية على المدى القصير والطويل، بما في ذلك الإجهاد والأرق والإرهاق العاطفي وتعاطي المخدرات، وما زاد الأمر سوءًا طول المدة الزمنية للحجر لأكثر من ١٠ أيام، وعدم الوصول إلى الإمدادات الأوليّة وخدمات الاتصالات.
كما ربطت عشرات الدراسات والاستطلاعات هذه المشاكل النفسية بالعزلة والأوبئة، حيث أشار استطلاع حول تفشي السارس في الصين عام 2003، إلى أن ما يقرب من نصف عينة الاستطلاع أكدوا أن تجربة الوباء أثرت على صحتهم العقلية وأصابتهم باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهي الاضطرابات التي تعرفها الجمعية الأميركيــة للطــب النفســي بأنها فئــة مــن فئــات اضطرابات القلق، يعانيها الأفراد بعد التعرض مباشرة لأحداث مؤلمة، وتتسبب في شعورهم بالخوف والقلق والتوتر وعدم التركيز والنوم والاكتئاب بشكل دائم.
وبالنظر إلى أسباب ذلك، نجدها تدور حول الآثار الناجمة عن هذه الأوبئة سواء كانت نفسية وعاطفية مثل فقدان الأحبة أو اقتصادية واجتماعية، ما قد يدفع بالنهاية لحدوث اضطرابات ما بعد الصدمة. كذلك يلعب عامل المفاجأة دورًا كبيرًا في حدوث مثل هذه الاضطرابات، فالأوبئة والكوارث بصفة عامة عادة ما تكون تهديدات مفاجئة، فتتسبب بارتفاع معدلات القلق مقارنة بالتهديدات المألوفة التي غالبًا ما يكون رد فعل الناس تجاهها أقل.
فالبرغم من أن الإنفلونزا مثلاً تصيب نحو 20% من الأفراد حول العالم سنويًا وتقتل آلافًا منهم، لكن مع ذلك نجد أنها لا تثير أي مستويات قلق مرتفعة لدى الأفراد، كونها ليست تهديدًا جديدًا، فالأفراد حول العالم اعتادوا عليها ويعلمون أن هناك لقاحًا لها وأنهم سينجون منها.
ختامًا، فإذا كانت هناك أعراض نفسية ظهرت بالفعل نتيجة انتشار جائحة كورونا وما ترتب عليها من تداعيات، فخبرة الجوائح السابقة تشير إلى أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد، فمن المرجح ظهور أعراض اضطرابات سيكولوجية، حتى لأولئك الذين لم يُصابوا بالفيروس. فالعزلة والانحباس والضغوط الاقتصادية الناجمة عن الوباء قد تتسبب بحالة من القلق والإجهاد النفسي، وربما يتطور الأمر لاضطراب ما بعد الصدمة.