من زمن فات: أنور السادات في مرمى برنامج «60 دقيقة»
قالها الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، نافثاً دخان غليونه المميز، في حواره مع المذيع والصحافي الأميركي مايكل والاس ببرنامج «60 دقيقة»، الذي أُذيع في أغسطس/ آب من العام 1977. جاء تصريح السادات الذي لا يحمل أدنى شك في معدلات دعمه والموافقة على سياساته في الشارع المصري بعد أشهرٍ معدودة من تظاهرات وأعمال شغبٍ واسعة شهِدتها مصر في منتصف يناير/ كانون الثاني من العام نفسه.
كان عام 1977 عامًا حافلًا بالنسبة لنظام أنور السادات، المُحاصر داخلياً بغضبٍ شعبي موجهٍ لسياسات الانفتاح الاقتصادي، وخارجياً بضغوطاتٍ في اتجاهات متعاكسة متعلقة بالسياسات الخارجية المصرية تجاه إسرائيل، لتستحق اللقب الذي أطلقه عليها البرنامج في عنوان الحلقة: «مصر السادات المأزومة».
انتفاضة الخبز.. الشعب يرفض التقشف
مظاهرات وأعمال شغب في القاهرة عام 1977م.
كان سبب الهبة الشعبية في وجهِ نظام السادات، التي سماها «انتفاضة الحرامية»، قراراتٍ أعلنها نائب رئيس الوزراء للشؤون المالية والاقتصادية، د. عبد المنعم القسيوني. أهم هذه القرارات وأبرزها تخفيض الدعم الحكومي لعددٍ من السلع الأساسية، ليقفز سعر الخبز بنسبة 50% دفعة واحدة، وترتفع أسعار الشاي والسكر وسلع أخرى.
استهدفت القرارات تنفيذ توصيات البنك الدولي بخفض الإنفاق العام، لكنها لاقت رفضًا عنيفًا من الشارع المصري، الذي تقبل على مضض التحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية، شريطةَ أن يشهد تحسنًا ملموسًا في الأحوال الاقتصادية. كان رفع الدعم خرقًا جسيمًا لعقدٍ اجتماعي ترسخ في ثقافة المواطن المصري، يقضي بأن الدولة مُلزمة بتوفير شبكات دعمٍ مجتمعي واسعة، لا تخفض أسعار السلع وفقط، بل تضمن وظيفة لكل خريج جامعي في القطاع العام. وقد بلغ حجم الدعم الحكومي للسلع الأساسية في عام 1973 نحو 300 مليون دولار، وتخطى حاجز المليار ونصف مليار دولار بنهاية العقد.
سارع السادات بإدانة الاحتجاجات، واتهم القوى الشيوعية بمُحاولة قلب نظام الحكم. وأدت الاستجابة الأمنية إلى مقتل 80 محتجًا (تصل بعض التقديرات إلى 160) وجرح واعتقال الآلاف، قبل تراجُع النظام عن القرارات في 19 يناير/ كانون الثاني، بعد تحذيراتٍ من الجهات السيادية بأن الإصرار على رفع الدعم بصورةٍ مفاجئة قد يؤدي إلى انفجارٍ شعبي يهدد النظام بأكمله.
لكن السادات أصر على أن «رجل الشارع في مصر» لا يكن له، وفقاً لرده على مايكل والاس، سوى «التأييد الخالص»، واضعًا نفسه فوق الممارسات السياسية في مصر بنفيه أن يكون «رجل سياسة». غير أن والاس جابهه بتشكك الشارع المصري في كفاءة السياسات الاقتصادية للسادات، حتى مع تمتعه بمهارات استثنائية على الصعيد السياسي وفي التمثيل الدبلوماسي لمصر. وكان رد السادات، ضاحكاً، أنه «ليس من المفترض أن تضاهي معرفتي بالاقتصاد معرفة الخبراء».
اقتصادٌ مأزوم.. و«هراء الانفتاح»
حتى للأعين غير الخبيرة، كان من السهل رؤية الأزمة العنيفة التي يواجهها الاقتصاد المصري حينها. فقد كان تسعة من كل عشرة مصريين يعيشون على أو تحت خط الفقر، ومتوسط دخل الفرد أقل من دولارٍ في اليوم. واقترب التعداد السكاني في مصر من 40 مليوناً، مما أحدث أزمة تكدس سكاني تفاقمت مع هجرة الفلاحين إلى المناطق الحضرية. ويُمكن أن نستشف عمق الأزمة من حوارٍ أجراه السادات مع الأسبوع العربي في أكتوبر/ تشرين الأول 1974، قال فيه، إن الاقتصاد المصري، قبل حرب أكتوبر بأيام، كان قد وصل إلى «مرحلة الصفر، بكل ما تحمله الكلمة من معنى»، وإن مصر لم تكن لتقدر على سداد دفعات الديون في يناير التالي، أو شراء حبة قمح واحدة.
وكان الحل الذي قدمه السادات هو القانون 43 لعام 1974، المعروف بـ «سياسة الانفتاح». بموجب القانون، فتحت مصر أبوابها أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة في جميع المجالات، ومنحت الشركات إعفاءات ضريبية ممتدة لأعوام، إضافةً إلى إعفاء الواردات من التعريفات الجمركية. وروجت رموز النظام ووسائل الإعلام للاستثمارات الوفيرة التي ستتدفق على مصر جراء السياسات الاقتصادية الجديدة،ووعد السادات في خطابه أمام مجلس الشعب بـ «التنمية الاقتصادية بخططٍ تتجاوز كافة ما حققناه حتى الآن».
غير أن هذا لم يحدُث لعدة أسباب، أبرزها بيروقراطية مصرية جامدة عطلت حركة الاستثمار في مصر، فضلًا عن الارتباك الناشئ عن اللوائح التنظيمية لتداول العملات الأجنبية، وارتفاع تكلفة المباني المكتبية في مصر. وهو ما أدى إلى أن يصف محمد حسنين هيكل سياسة الانفتاح، في حواره مع والاس، بأنها «هراء»، لأن مصر ليس لديها من المغريات ما يكفي لجذب الاستثمارات الأجنبية. فلن يأتي المستثمر الأجنبي «ليضع أمواله في مشروعات البنية التحتية التي تحتاجها مصر»، لأنها لن تدر له أرباحًا ذات قيمة. ويُشير هيكل ساخرًا إلى مشروعين ناجحين من مشاريع الانفتاح: مطاعم ومبي، ودجاج كنتاكي، مما يعكس التوجه الاقتصادي في ذلك الوقت إلى الاستثمار في سلع الرفاهية والسلع الاستهلاكية.
صحيحٌ أن الأرقام قد أشارت إلى نموٍ معتبر شهده الاقتصاد المصري، فقد زادت صادرات مصر من السلع والخدمات بنحو 7 مليارات دولار بين عامي 1977 و1981. لكن هذه الزيادة قابلتها زيادة أكبر في واردات مصر السلعية بنحو أربعة أضعاف، وزادت الديون المدنية طويلة ومتوسطة الأجل بنسبة 76% لتصل إلى 14.3 مليار دولار في الفترة نفسها. وقد كان إصرار الدولة على توجيه جزءٍ كبير من الاستثمارات إلى القطاعات ضعيفة العائد، ومنها المرافق العامة والخدمات التجارية والمالية، سبباً مهماً في زيادة مديونيات الدولة زيادةً مذهلة، دون تغيير حقيقي في هيكل الاقتصاد المصري.
«هما بياكلوا حمام وفراخ».. الفجوة تتسع
في حين لم يستفد عامة الشعب الكثير من الانفتاح الساداتي، وجدت الطبقة البرجوازية العليا فرصة سانحة لمراكمة الثروات في سوقٍ جديدة مفتوحة. وسُرعان ما نمت طبقة من أصحاب الملايين في غضون أشهر، تلاعبت بالقواعد الجديدة وأنماط الاستهلاك لمصلحتها، في كثيرٍ من الأحيان على حساب الصناعات المحلية المزدهرة. وكانت مظاهر الإسراف والبذخ البادية على طبقة المليونيرات الجدد شديدة الاستفزاز لعامة الشعب، وسبباً إضافياً لرفض تحمل تكاليف الإصلاح الاقتصادي الذي يزيد أوضاعهم سوءاً على سوء.
علاوة على ذلك،أصر الرئيس وزوجته جيهان على الظهور بأناقةٍ تنافرت مع خطاب التقشف و«شد الحزام» المطلوب من الطبقات الدنيا. فقد اختارت غرفة مصممي الأزياء الإيطالية في عام 1977، عام الأزمة الاقتصادية الأشد وطأة، الرئيس السادات من بين أكثر 10 رجال أناقة في العالم. وشرع السادات في بناء الاستراحات الرئاسية، واستخدم طائرةً مروحية في أغلب تنقلاته. ولم يغِب هذا عن أذهان المحتجين، إذ كان من بين هتافاتهم: «هو بيلبس آخر موضة، واحنا بنسكن عشرة في أوضة».
كذلك أدرجت صحيفة لبنانية زوجته جيهان، ووالدها، وأفرادًا آخرين من العائلة ضمن قائمة المليونيرات الجدد في القاهرة. واجه والاس السادات بمزاعم الصحيفة اللبنانية، وكان رده أنه «يأسف» لهذه المعلومات المغلوطة تماماً، التي ينشرها «راديو طرابلس»، ومعمر القذافي، وبالطبع الشيوعيين بهدف تقويض نظامه. كررها وهو يحك أنفه، ويمسح عرقه بمنديله.
التقارب المصري الإسرائيلي.. محاولة للبقاء
تصاعد الضغوط الاقتصادية الداخلية على السادات في 1977 ضاعف من أهمية قضية السياسة الخارجية الأبرز في مصر؛ الموقف المصري من إسرائيل. فقد أشارت وثيقة ترجع إلى فبراير/ شباط أفرجت عنها الاستخبارات المركزية الأميركية مؤخراً إلى أن «تحقيق تقدم في مفاوضات السلام في الشرق الأوسط سيكون مهماً للسادات، لكن الضغوط الداخلية تحد من قدرته على الانتظار طويلاً».
ويؤكد ذلك الدكتور جلال أمين، إذ يرى أن السادات كان في حاجة ماسة إلى الضوء الأخضر من الولايات المتحدة وهيئات المعونات الدولية، الذي سيفتح الباب أمام قروض صندوق النقد الدولي، وزيادة الدعم الغربي من الولايات المتحدة، والمدفوعات الميسرة وغير الميسرة من دول النفط العربية التي أحجمت عن الاستثمار في مصر لأسبابٍ متعلقة بـ «مخاطر» الاستثمار.
أدرك السادات كل هذا، ولم يُضِع وقتاً؛ في نوفمبر/ تشرين الأول، استيقظ العالم العربي على خبر زيارة السادات للقدس، ووضع الإكليل على قبر الجندي المجهول الإسرائيلي. وبعدها بعامين، وقع بنجاحٍ اتفاقية السلام مع إسرائيل. غير أن حياته تعرضت لنهاية مفاجئة في واقعة المنصة عام 1981، ولم يبقَ طويلاً ليطمئن على ثمار سياسات الانفتاح والتحرر .