أنطونيو غويتريش: الرجل الذي لم يلتزم بـالنص
تلاسن وتراشق بالألفاظ بين وزير الخارجية الإسرائيلي والأمين العام للأمم المتحدة. الحدث كان خلال اجتماع مجلس الأمن الدولي المنعقد في 24 أكتوبر/ تشيرين الأول 2023، والمخصص لمناقشة الحرب الدائرة بين إسرائيل وحماس.
غويتريش دعا في هذه الجلسة بشكل صريح إلى وقف إطلاق نار إنساني في قطاع غزة. ثم تحدث الرجل عن حصول انتهاكات واضحة للقانون الدولي والإنساني، مؤكدًا أن أي طرف في النزاع ليس فوق القانون. كما طالب بتسهيل توزيع المساعدات والإفراج عن الرهائن.
لم يكن ما سبق مثيرًا بما يكفي لحفيظة مندوب إسرائيل، لكن كان الكلمات اللاحقة هى الأشد. حيث قال إن ما قامت به حماس تجاه إسرائيل في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول لم يأت من فراغ. وإن الشعب الفلسطيني يعيش طوال سنوات في معاناة تحت الاحتلال الإسرائيلي الخانق لمدة 56 عامًا.
حينها انفعل وزير الخارجية الإسرائيلي متسائلًا حول العالم الذي يعيش فيه الأمين العام، قائلًا إن الرعب الحقيقي هو اختطاف أسرى إسرائيلين لدى حماس. رغم أن الأسيرة المُفرج عنها حديثًا قالت في مؤتمرها الصحفي عكس ما يُصر وزير الخارجية على تصديره للعالم.
لكن لا يهم ما قالت الأسيرة، المهم أن جويتريتش لم يلتزم بالرواية الإسرائيلية التي تتناقلها وسائل الإعلام الغربية منذ بدء الأزمة. ولم يستخدم الكلمة السحرية بأن لإسرائيل حق الدفاع عن نفسها بكل الوسائل الممكنة، ودون الالتزام بأي عُرف أو قانون دولي أو إنساني. لهذا ارتفع الغضب الإسرائيلي لمطالبة الرجل بالاستقالة فورًا.
أنطونيو غويتريش هو سياسي برتغالي الأصل. ولد في لشبونة عام 1949، ونشأ وترعرع فيها. درس الهندسة والفيزياء في المعهد العالي للتكنولوجيا وتخرج عام 1971، بادئًا حياته الأكاديمية كأستاذ مساعد. لكن هواه السياسي غلب في حياته لاحقًا.
ففي عام 1973 انضم للحزب الاشتراكي البرتغالي. وترقى في مناصبه حتى صار أمينه العام في عام 1992. وبعد 3 سنوات في قيادة الحزب احتل الصدارة في الانتخابات التشريعية، فبات الطريق مفتوحًا لتولي رئاسة الوزراء. كان على رأس أولوياته انضمام بلاده للاتحاد الأوروبي، انطلاقًا من إيمانه العميق بضرورة الوحدة الأوروبية.
كما عُرف بمنهاضته الشرسة لإصدار أي قانون يبيح حرية الإجهاض. وبمعاداته للمثلية الجنسية، وبوصفها بأنه لا يحبها، وأنها موضوع يثير إزعاجه. كان هذا الموقف الشخصي بالخلاف مع موقف حزبه الرسمي، الذي رحب بقيام منظمة الصحة العالمية بإزالة المثلية الجنسية من قائمة الأمراض العقلية عام 1990.
في سنواته الأولى كان منحناه السياسي آخذًا في الارتفاع. فقد تبنى سياسة الحوار والنقاش مع كافة أطياف المجتمع. واستطاع تقليل عجز الموازنة، بالتوازي من زيادة الإنفاق على الرفاه. وبدأ في إخراج الدولة بشكل متسارع من الاقتصاد وخصخصة الشركات العديدة، حتى بلغت 29 شركة كبرى خصصها في فترات ولايته.
أخذ المنحنى السياسي لحياة الرجل في الانخفاض من نهايات التسعينيّات. حتى أتى عام 2001 ليُعلن الرجل مغادرته العمل السياسي داخل بلاده، ويبدأ عمله الدولي. فعُين المفوض السامي الأممي لشئون اللاجئين بترشيح مباشر من بان كي مون. كونه مسئول ملف اللاجئين فقد طاف الرجل في مختلف مناطق الصراعات. أكسبته تلك التجربة تعاطفًا مع اللاجئين ظهر في تصريحاته المختلفة.
فقد كان موقفه الثابت أن أوروبا لم تقدم الكثير للاجئين والمهاجرين، وأن اللاجئ والمهاجر ليس عبئًا على أوروبا، بل أوروبا تحتاجهم. كما انتقد بشكل واضح تعامل البلاد الغنية مع اللاجئين السوريين. قائلًا إن الدول الغنية لا تلحظ وجود فقراء في العالم إلا حين يظهر فقراء العالم في ساحات قصورهم. وأن تدفق اللاجئين أتى من قصور التصور الأوروبي عن مدى الأزمات التي تعصف في الشرق الأوسط.
غوتيريش صرّح كذلك بأن المجتمع الدولي سيظل عاجزًا عن حل النزاعات الدولية لأنه لا يفكر في منع الوقود الأساسي لهذه الصراعات. هذا الوقود في رأيه هو عدم المساواة والفقر وانتهاك حقوق الإنسان. من الملحوظ في فترة توليه للمنصب أنه قلل عدد العاملين في المكتب الرئيسي في جنيف، وازداد عدد العاملين في مناطق الصراع الساخنة، مما أسهم في تحسين أداء المفوضية.
بعد انتهاء ولاية الكوري الجنوبي بان كي مون أصبح منصب الأمين العام شاغرًا. ترشح الرجل للمنصب، ولم يعترض أي من الأعضاء الخمسة الدائمين لمجلس الأمن. ثم تولى المنصب بعد الموافقة عليه من الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤلفة من 193 عضوًا، لولاية مدتها 5 سنوات تبدأ في يناير/ كانون الثاني 2017 وتنتهي في يناير/ كانون الثاني 2024.
بعد توليه المنصب بأعوام برز اسمه مرة أخرى في فضيحة مدوية، لكن كان الجانب المظلوم فيها لا الشرير. فقد انتشرت في أبريل/ نيسان 2023 عدة وثائق حكومية مسربة. الوثائق أكدت أن الولايات المتحدة كانت تراقب الرجل عن كثب، وأنها تملك انطباعًا عنه أنه متعاطف مع روسيا ضد العقوبات الغربية.
لكن تفسير هذا الانطباع يشرح الكثير. تقول الوثائق إن الرجل كان حريصًا على إتمام صفقة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود، التي جرت في يوليو/ تموز. غويتريش كان خائفًا من احتمالية حدوث أزمة غذاء عالمية، وكان يريد إتمام الصفقة حتى بالتغاضي عن قيام أفراد أو كيانات خاضعة للعقوبات الغربية بالمشاركة في عملية تصدير الحبوب.
وبحسب الوثائق فإن التقييم الأمريكي لأفعال الرجل كان يرى أنه يهدف إلى تقويض الجهود الواسعة لمحاسبة روسيا. لكن من جانبه قال مسئول أممي، إن غويتريش ينطلق من رغبة في تخفيف معاناة العالم، والتقليل من آثار الحروب على الدول الفقيرة. كما ظهرت وثيقة أخرى تصف محادثة صريحة بين غويتريش ونائبته أمينة محمد، يعرب فيها الرجل عن استيائه من دعوة رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فوندير لأوروبا لإنتاج المزيد من الأسلحة لتلبية الاحتياجات الأوكرانية من الأسلحة.
فيبدو أن الجانب الأمريكي من جهته لم يكن مرحبًا بوجود الرجل في منصبه، ومع الأصوات الإسرائيلية التي ترتفع حاليًا مطالبته باستقالته كاعتذار عن رأيه الحر، والذي يصف الواقع، فتبدو أن أيام الرجل في منصبه الحالي، وفي عالم السياسة الدولية، صارت معدودة.