أنطونيو جرامشي: عقل ضد الجمود
أنطونيو جرامشي، واحد من أبرز مفكري الماركسية، وأحد أهم منظري الحركة الثورية العالمية والإيطالية بشكل أخص، احتل مكانة استثنائية في الفكر السياسي الحديث سواء على المستوى الأكاديمي؛ نظرًا لإسهاماته في قضايا التغيير والثورة والثقافة والمجتمع والتاريخ ولما طرحه من مفاهيم ومناهج بالغة الثراء والجدة فيما يخص تلك القضايا، وتعميقه الوسائل المعرفية والمنهجية لتحليل النظام الرأسمالي وأساليبه في الاستغلال والهيمنة.
احتل كذلك مكانة بارزة علي مستوى آفاق النضال السياسي؛ نظرًا لقضائه فترة طويلة في سجون الفاشية لدفاعه عن تحرر مجتمعه والتزامه حتى آخر حياته بمشروعه النضالي والسياسي، وتفانيه غير الطبيعي في الكتابة والتفكير رغم انعدام المراجع ورغم أعين رقباء السجون الفاشية، وتطويره الوعي الثوري ومنحه استراتيجية غير مألوفة لدى الأدبيات الثورية الماركسية، تضمن نجاح التغيير والحفاظ عليه.
وقد أعطت مرحلة السجن لجرامشي فرصة لتحليل الواقع ومراجعة مواقفه، وأثمرت أهم كتاباته التي عرفت بعنوان «كراسات السجن» التي قال عنها «كتبت شئيًا ليدوم».
تكوين غير عادي
عام 1906 دشنت الطبقة العاملة في سردينيا – جنوب إيطاليا – سلسلة من الاحتجاجات قمعتها بوحشية قوات الجيش، مما أعطى قضية سردينيا زخمًا سياسيًا غير عادي، كان جرامشي يومها في الخامسة عشرة من عمره، وقد أدخله أخوه غينارو في عملية تسييس مبكرة بإطلاعه على الكتابات الاشتراكية المتاحة وقتها، كما كلفه بتوزيع المنشورات السياسية.
وكانت تلك لمرحلة – بداية التزامه بقضية سردينيا – بمثابة النواة الأولى لتكوين وعيه السياسي والطبقي، وفي موازة ذلك تميز جرامشي بعقل يقظ مفتوح على الواقع من حوله إلى درجة أنه عندما كان طالبًا، كتب مقالًا عن تاريخ مسمار صدئ، منذ أيامه الأولى في العوارض الرئيسية لبرج السفينة وحتى وصوله إلى جيبه الصغير.
ومع انطلاق الحركة العمالية في مدينة تورين بدأ جرامشي يتخلى عن نزعته القومية، مع احتفاظه بالالتزام بقضايا فلاحي الجنوب الزراعي، في أجواء صراعية صاخبة بين الجنوب الريفي والشمال الصناعي الذي تمتع منذ أواخر القرن التاسع عشر بسياسات حماية من دخول الرأس المال الأجنبي إليه، مع فرض سياسات حماية على إيطاليا بالكامل من دخول البضائع الأجنبية.
وهي السياسات التي وضعها جيوفاني جيوليتي، السياسي البرجوازي الأشهر قبل الحرب العالمية الأولى، وأسفرت عن حرمان الفلاحين من تصدير منتجاتهم إلا إلى الشمال، وإلزامهم بشراء منتجات الصناعة الإيطالية دون غيرها من المنتجات المستوردة الأرخص ثمنًا، وهو ما عرف باسم «المسألة الجنوبية» التي التزم بها جرامشي طيلة حياته.
حين سافر جرامشي إلى تورين كان غايتانو سالفيميني الزعيم الاشتراكي قد استقال لتوه من الحزب الاشتراكي الإيطالي لعدم تبنيه قضايا فلاحي الجنوب، وقد كان لسالفيميني تأثيرًا حاسمًا على تكوين جرامشي السياسي.
أما جامعة تورين جرامشي فقد أسهمت بشكل كبير في نمو وعيه السياسي حيث كان العديد من أساتذته من ذوي الميول والانتماءات الاشتراكية، وعبر أطروحاتهم، وبالتحديد أطروحة المنظر الماركسي أنطونيو لابريولا، اطلع جرامشي على فلسفة «البراكسيس» الهيجلية، وهي الفلسفة التي اشتبك معها نقديًا وحتى وفاته، وصارت إحدى علامات دفاتره السياسية.
ومفهوم البراكسيس كان إشكاليًا للغاية. استغلها تيار معادٍ للمادية الجدلية أبرز دعاته جيوفاني جنتيل، وسرعان ما تحولت تلك الفلسفة إلى قمح في طاحون الفاشية بعد أن تحولت إلى فلسفة «إرادوية» عن «الفعل الخالص» وعما قليل صار جيوفاني رمزًا إيديولوجيًا للفاشية إلى أن أعدمته المقاومة اليسارية.
التأثير الأكثر وضوحًا على جرامشي جاء من قِبل الفليلسوف المثالي كروتشي، إلى درجة أنه وصف نفسه في شبابه بأنه «كروتشي النزوع» وهو ما ظهر في مقالاته الأولى، أما في مرحلة النضج فقد وجه جرامشي في كتابه الأهم «دفاتر السجن» نقدًا صارمًا لكروتشي الذي اعتبره «رئيس هيئة الأركان الفكرية للبرجوازية الليبرالية».
كما تناول نقديًا علاقة فلسفة كروتشي بالماركسية، وفي سجنه أكد ضرورة محاربة الكروتشية، التي حازت نفوذًا واسعًا آنذاك، لاعتقاده أنها لا يمكن الاستفادة منها في تجديد الفكر الماركسي.
وترتكز فلسفة كروتشي على وجود أربعة علوم هي: علم الجمال، الاقتصاد، المنطق، الأخلاق. وهي مرتبطة بكل ما هو: جميل، نافع، صحيح، جيد. وفي هذا النسق ليست السياسة سوى «حماسًا مجردًا» بلا قيمة فلسفية. أما جرامشي، فعلى النقيض من ذلك، يعتبر السياسة نشاطًا إنسانيًا مركزيًا على المستوى الفلسفي، على اعتبار أنه من خلالها يحدث اتصال الوعي المنفرد بالعالم الاجتماعي.
وكروتشي كان تلميذًا مباشرًا للفيلسوف الاشتراكي لابريولا، اعتنق الماركيسة في الفترة ما بين 1895 و1900، ثم تاب عنها معلنًا موتها، أثر كروتشي على يسار ما قبل الفاشية بحكم علمانيته ومعارضته للإيديولوجيا الوضعية، كما أثر على الثقافة الإيطالية بمجملها، دعا إلى التجديد الأخلاقي وانتهى إلى تأييد موسوليني، ثم معارضة السياسة ككل.
وعلى كلٍ، كان الثلث الأول من القرن العشرين، وهو السياق التاريخي والاجتماعي الذي عاش فيه جرامشي وأنتج فيه كتاباته، ويمثل مرحلة مفصلية على المستوى العالمي، حيث انطلقت فيه ثورة أكتوبر في روسيا وفي أثنائه حدثت الأزمة العامة للرأسمالية ووصلت فيه الفاشية إلى السلطة في إيطاليا.
أسهم جرامشي في تأسيس الحزب الشيوعي الإيطالي، وأصدر العديد من الصحف والمجلات التي اتخذها منبرًا لتحليل الواقع السياسي في بلاده ونقد الممارسة الاشتراكية في روسيا ورصد نشاط الطبقة العاملة في إيطاليا، وتفكيك أسس الفاشية، مما دعا موسوليني إلى اعتقاله، وأثناء محاكمته قال عنه المدعي العام «يجب أن نوقف هذا الدماغ عن العمل لمدة عشرين عامًا» وهي جملة تدل بوضوح على مدى خطورة فكر جرامشي على النظام السياسي الفاشي وقتئذ.
وبشكل عام، يميز الباحثون مرحلتين في فكر جرامشي: الأولى أثناء العمل السياسي والصحافة التوعوية 1916_1926، والثانية فترة السجن 1926 _1937، وقد مثلت مرحلة السجن فرصة لجرامشي لتأصيل أفكاره عبر عنها في كتاباته الصحفية.
ما فعله جرامشي بماركس
اعتبر جرامشي أن الماركسية بحكم كونها منهجًا جدلياً، تمثل نقيضاً للأرثوذكسية الفكرية وهي في جوهرها نقدية للواقع وللمفاهيم التي تقاربه أيضًا، وعلى هذا الأساس قدم جرامشي منظورًا جديدًا لمجموعة من المسائل الشائكة التي قاربتها الماركسية واعتبرت مقاربتها «بديهيات» لا يرفضها إلا وعي زائف، على رأسها: الدولة، فهي ماركسيًا أداة في يد الطبقة الحاكمة «البرجوازية تحديدًا» تحمي مصالحها وتفرض إيديولجيتها.
لكن جرامشي في تعريفه للدولة أكد أنها «المجمع الكامل للأنشطة العملية والنظرية التي تستخدمها الطبقة الحاكمة لتبرير سيادتها والحفاظ عليها»، واشتبك جرامشي مع المنظور الماركسي القائل إن الدولة «أداة الطبقة» مشيرًا إلى أن أي طبقة تحاول السيطرة على المجتمع لابد أن تمثل ما هو أوسع وأكثر من مصالحها الضيقة أي ألا تعتبر الدولة مجرد «أداة».
أما السياسة التي اعتبرت ثانوية في الماركسية، رغم وجود نظرية سياسية كامنة في كتابات ماركس، إلا أنه لم يدرس السياسة كحقل مستقل، بل صب مجمل اهتماماته على الاقتصاد السياسي، إلا أن جرامشي رأى أن السياسة نشاط مستقل داخل أطر رسخها التطور التاريخي للمجتماعات، وهي بتعريفه «النشاط الإنساني المركزي الذي من خلاله يتصل وعي الفرد بالعالم الاجتماعي».
وقد كانت النزعة الاقتصادية هي الأخرى أحد الموضوعات التي وجه جرامشي سهام نقدها إليها، والتي تعني بتسييد المستوى الاقتصادي على المستويين السياسي والثقافي، ومن خلال النظرة الاقتصادية كان الماركسيون قبل جرامشي يفسرون المجتمع وحركته، على اعتبار أن الاقتصاد هو البنية التحتية، أما الثقافة والدين والأخلاق فمجرد بنية فوقية تشكل انعكاسًا للاقتصاد.
وقد تسببت هذه النزعة في ظهور مفهوم تطور حتمي للتاريخ يجعله محكومًا بقوانين موضوعية لا مجال فيها للتدخل الإنساني، وظهور يقين بانهيار الرأسمالية الحتمي تحت ضغط تناقضاتها الداخلية. رفض جرامشي ذلك ورفض الحتمية وأعلن أن التاريخ ليس سوى تطور تراكمي حر وليس أوضاعًا تمت هندستها مسبقًا.
وبعد بحث تاريخي مكثف ومعقد للتجربة التاريخية الإيطالية كمثال على فشل الشيوعية الأوروبية وعجزها عن إنجاز الثورة، أعاد جرامشي بناء التاريخ الإيطالي وتحليل المجتمع الناتج عنه، ودرس علاقة الحركة العمالية بالتاريخ الماضي، وتعقد العلاقات في المجتمع الرأسمالي، وانتهى إلى استقلالية البنى الفوقية «الثقافة بالمعنى الشامل والسياسية» عن البنية التحتية «الاقتصاد» واستدل على صحة نتائجه ببقاء الأفكار والقيم والمفاهيم بعد زوال البنى الاقتصادية التي أوجدتها.
وهكذا تتحدد معالم تجديد جرامشي للماركسية كمحاولة تأسيسية لوضع نظرية جديدة عن الثورة الاشتراكية، تختلف عن ثورة أكتوبر في روسيا، لاختلاف المجتمعات الغربية المتقدمة ذات المجتمع المدني الفعال، عن المجتمع الروسي التقليدي، وكمجابهة نظرية لإشكالية الهزيمة التي لحقت بالحركة الاشتراكية الثورية في أوروبا الغربية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وما ترتب عليها من تنامٍ لنفوذ التيارات الرجعية.
فقه الهيمنة
رأى جرامشي أن المجتمع البرجوازي في أساسه نظام للهيمنة والسلطة السياسية والإيديولوجية، لذا تحددت مسارات النضال بالنسبة إليه بغاية تحويل الطبقة العاملة وحزبها الثوري إلى طبقة حاكمة عبر الهيمنة المضادة والنضال المخطط والمتنامي أي «حرب المواقع».
فقد أدرك جرامشي أن محاولة استنساخ ثورة أكتوبر في روسيا، غير واقعية، فهي بنظره ثورة بظروف خاصة وليست نموذجًا يجب تعميمه، ومن ثم لا إمكانية في ظل مجتمع حديث لـ«حرب المناورة» التي انتهجتها ثورة أكتوبر، لذا اعتبر أن النضال يجب ألا يكون فقط من أجل الوصول للسلطة، بل بناء عناصر المجتمع الجديد.
فالثورة إن لم تجهز وتصنع قوة مهيمنة مضادة تكسب ثقة وتأييد القطاعات الشعبية المتضررة من بقاء النظام أو غير المتحالفة معه بشكل عام، فشلت في الحفاظ على السلطة، إذا تمكنت من الوصول إليها، وهو أمر قليل الحدوث في التاريخ.
فالسؤال بالنسبة إلى جرامشي ليس كيف تسقط النظام وتصل إلى السلطة؟ بل كيف تصل إلى السلطة ومعك ثقة الناس، وكيف تحافظ على تأييدهم؟ فالنضال من أجل السيطرة السياسية على تلك القطاعات يحسم أمر الثورة نجاحًا أو فشلًا قبل وبعد الوصول للسلطة، فبه تكون الثورة وبه تستمر أيضًا.
وتكمن قدرة أي طبقة اجتماعية على الصعود وتحقيق الهيمنة على المجتمع، وخاصة البروليتاريا، في قدرتها على تكوين مثقفين عضويين مرتبطين بها كما تكمن في الوقت ذاته على قدرتها على استيعاب المثقفين التقليديين المنحدرين من فترات تاريخية سابقة،
يقول جرامشي:
الثقافة أولًا
كانت قضية «المثقفين» الخيط الناظم لكل كتابات جرامشي، وهو يلح دائمًا على الطبيعة السياسية للقضية، وبحسب جيوسبي فاكا كان جرامشي ينظر إلى «كراسات السجن» كلها كبحث حول المثقفين، فقد درس بعمق تكوين المثقفين الإيطاليين كطبقة وبحث أصولهم وتجمعاتهم وتياراتهم الثقافية ومنهجياتهم المختلفة، وهو يرى المثقفين بشكل عام كجزء من جهاز الدولة أو أنهم يمثلون حلقة وصل بين الدولة والشعب.
وعلى أساس تعريفه للدولة باعتبارها «شبكة علاقات» كان جرامشي يرى ضرورة خلق الطبقة العاملة تركيبة جديدة من العلاقات لتأسيس نوع مغاير من الدولة، ومن هنا أكد على الأهمية القصوى لخلق «المثقف العضوي» لتلك الطبقة، ليمنحها تجانسا ويبلور وعيها الطبقي ويخلق علاقات وروابط بين القادة والجماهير.
وذلك المثقف ليس بديلا فقط لـ«المثقف التقليدي» لكنه تعبير صادق عن خلق معرفة جديدة أساسها الطبقة الصاعدة برأيه وهي الطبقة العاملة، بينما يعطي جرامشي المثقف المرتبط بطبقات تقليدية زائلة لقب «المثقف التقليدي» وهو النقيض الطبيعي لـ«المثقف العضوي».
وذلك يرجع بشكل أساسي إلى تطوير جرامشي لنظرته عن دور المثقفين على أساس سوسيولوجي يعرف المثقف بوظيفته ودوره بالنسبة للطبقة الاجتماعية، فيما استند من ناحية أخرى على نظرة تاريخية تحدد المثقف على أساس المكانة التي يشغلها داخل السيرورة التاريخية لمجتمعه، هذه النظرة التاريخية تشمل النوعين من المثقفين لأن التاريخ يشمل طبقات المجتمع كلها.
يقول جرامشي:
وكما كان جرامشي يلح على استقلالية الثقافة عن الاقتصاد، أكد كذلك على الاستقلالية النسبية للمثقف عن الطبقة الاجتماعية التي يرتبط بها، فالمثقف سواء التقليدي أو العضوي ليس انعكاسًا محضًا لطبقته، بل يكتسب استقلالية ذاتية بحكم وظيفته كخالق معانٍ ومُثل.
هذه الاستقلالية النسبية هي التي تجعل المثقفين يعتقدون أنهم جماعة اجتماعية ذات تشكيل واضح المعالم، تربط نفسها كما يقول جرامشي بفئة ثقافية سابقة – كامتداد واستمرارية – عن طريق تسمية مفهومية مشتركة، لكن تحليله التاريخي لهم توصل إلى أنهم نتاج الحالة الجديدة للمجتمع، وليسوا استمرارًا لوسط ثقافي سابق.
حرب الموقع والمجتمع المدني
مخلص استراتيجية جرامشي الثورية تكمن في ضرورة التحول من حرب المناورة «الهجوم الجبهي» الذي ناسب ثورة أكتوبر 1917 – إلى حرب المواقع، هذا التحول هو جوهر النظرية السياسية لتلك المرحلة في نظره، ومن هنا اهتم بوضع طرق جديدة لتحقيق الثورة في سياق تاريخي واجتماعي أوروبي يختلف جذريًا عن روسيا.
يقول جرامشي:
ويرى جيوسبي فاكا أن لينين فهم أن حرب المناوة التي طبقت في الشرق بنجاح عام 1917 كان من الضروري أن تتغير إلى «حرب الموقع» فهي الشكل الوحيد الممكن للتغيير في بلد متقدم، ولا تضمن حرب الموقع خسائر أقل من حرب المناورة بل تضمن النجاح في حقبة «لا تؤدي فيها حرب المناورة إلا إلى الهزائم» كما ذكر جرامشي في تعليقه على تنظير المفكر الشيوعي ليون تروتسكي -مؤسس الجيش الأحمر- منظر الأبرز لحرب المناورة.
ودفعت «حرب الموقع» جرامشي إلى تحليل أشكال السيطرة السياسية في مجتمع حديث، فالحكومة البرلمانية هي الشكل السياسي الطبيعي للسيطرة السياسية للبرجوازية، أما الطبقة العاملة فعليها أن تحقق سيطرتها داخل المجتمع المدني.
هذه السيطرة اضطرته كذلك إلى التنظير للتحالف بين عمال المصانع والفلاحين، وبيَّن أن الذي سيقوم بتوطيد مثل هذا التحالف هو «المثقف» وعلى ضوء ذلك اشتق جرامشي مفهوم «الكتلة التاريخية» -كما يقول غازي الصوراني- حيث يشكّل المثقفون «الإسمنت العضوي الذي يربط البنية الاجتماعية بالبنية الفوقية ويتيح تكوين كتلة تاريخية».
منحنا جرامشي طرقًا في التفكير، بعدما وجد طريقه مثلما قال «كدتُ لا أعرف أبدًا إلا المظهر الأكثر سوءًا للحياة، لكني نجحت دومًا في العثور على طريقي. بالشكل الحسن أو السيئ» فقد استطاع جرامشي إبداع ما سوف يصبح فيما بعد «مرجعية كلاسيكية للفكر السياسي» بين جدران السجن وفي فترة تعرض خلالها لانهيار صحي وضعف بدني مخيف.
رحل «نينو» في 27 أبريل 1937 متأثرًا بنزيف في المخ أصابه بعد أيام قلائل من حصوله على حريته الكاملة، وأعُلنت وفاته في فقرة صغيرة في الصحافة الإيطالية، ودفن دون ضجيج في مقبرة البروتستانت في روما، وهي المقبرة الوحيدة التي تقبل الملحدين.
- اعتمدت في كتابة هذا المقال بشكل أساسي على نسخة من كتاب آن شو ستاك ساسون: كتاب “مداخل إلى جرامشي” ترجمة سحر نصر، طبعة المركز القومي للترجمة (لم ينشر حتى الآن)